سعيد بنسعيد العلوي
المسألة السياسية في فكر الحركات الاسلامية المعاصرة
هل كان الأمر غير ذلك في فكر الحركاتالاسلامية المعاصرة، على نحو ما تظهر عليه منذ ثلاثينيات القرن العشرين؟ هل كان من شأن انهيار الخلافة العثمانية، وحصول التحولات السياسية التي عرفها العالم الاسلاميأن تغير من النظرة التي كان يأخذ بها مفكرو (عصر النهضة)؟
يلزمنا، قبل محاولة القول في المسألة وقبل الشروع في فحص نماذج أو تيارات هذه (الحركات الاسلامية المعاصرة)،أن نقطع برأي دقيق وواضح في نقطتين لا يملك الناظر في فكر هذه الحركات وعملها إلا أن يتخذ في شأنهما نظراً واضحاً لا يعتوره غموض أو التباس في الفهم.
ـ أما النقطةالأولى فهي الصلة بين هذا الفكر الاسلامي المعاصر، عند هذه (الحركات) وبين الفكر العربي الاسلامي في (عصر النهضة): أهي صلة استمرار واتصال، وتلوينات في النظرة الواحدة، لاتخرج عن الإطار العام للاشكالات التي أثارها مفكرو النهضة السلفيون؟ أم إن الأمر يتعلق، بالأحرى، بمغايرة تامة، بل وربما بـ (قطيعة) تامة، بالنظر إلى التباعد البنيوي بينالظرفين السياسيين والتاريخيين، وبالنظر إلى الجديد الذي نجده منذ كتابات المرحوم حسن البنا والذي يبلغ مدى بعيداً من الابتعاد والانفصال منذ كتاب معالم في الطريقللمرحوم سيد قطب؟
وبكيفية واضحة ومباشرة نعلن مشاطرتنا رأي أصحاب التساؤل الثاني وتأكيدنا، معهم، على صحة القول بالمغايرة، بل بـ القطيعة) بين دعاوي المعاصرين(والمتأخرين المعاصرين لنا خاصة) وبين مفكري (عصر النهضة).
ـ وأما النقطة الثانية، وهي إلى حد بعيد من مقتضيات الأخذ بالرأي الثاني في النقطة الأولى، فهي التساؤل عماإذا كان الأمر يتعلق في (الحركات الاسلامية المعاصرة) بحركة واحدة يكون الاختلاف فيها في المظاهر والتعبيرات، أم إن الأمر يتعلق بتعدد وكثرة؟
وعلى غرار ما أعلناه فيالنقطة الأولى نساند، بدورنا، الرأي الثاني الذي يقضي بلزوم الكلام عن حركات عدة، ما دام الواقع السياسي والوجود الاجتماعي يقتضيان، بحكم المنطق والتاريخ معاص، كثرةوتنوعاً حكمت بهما التحولات الاجتماعية والسياسية التي ما فتئ العالم الاسلامي يشهدها في العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الجواب عن سؤالنا الأول (طبيعة ((حضور المسألةالسياسية)) في فكر الحركات الاسلامية المعاصرة)، فنحن نلتمس الإجابة من خلال وقفات قصيرة عندما نعتبر النماذج الأكثر تمثيلية ودلالة.
ذ ـ نقرأ رسائل الإمام الشهيدفنجد عند صاحبها اهتماماً بالمسألة (التربوية) يكاد يكون مهيمناً على ما سواه من الاهتمامات الأخرى. والتربية، عند المسلمين جوهر تلك العقيدة وماهيتها.
((تستطيع أنتقول، ولا حرج عليك، إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية (...) وهيأة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الاسلامية بغيرها من الأمم فيالخارج، وتربية الشعب على العزة والحرص على قوميته إلى أبعد حد (...) ورابطة علمية ثقافية، لأن الاسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولأن أندية الإخوان هي فيالواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح)).
التربية استراتيجية شاملة من حيث إنها برنامج نقدي لعمل الأحزاب السياسية، لأنها ((ليست أحزاباًحقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا، فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة (...) هذه الأحزاب لابرامج لها ولا مناهج ولا خلاف بينها إلا في الشخصيات)).
فهل تخرج التربية في هذه الاستراتيجية عن المنحى السياسي وهل تحيد عن قصدها المباشر؟
2 ـ تكاد كل الآراءالواردة في كتاب سيد قطب ((معالم في الطريق)) ترتد إلى محورين إثنين أو إلى زوج مفهومي، عنهما تكونت كل الأفكار التي يضمها الكتاب: الاسلام/ الجاهلية (أو المجتمع الاسلامي/المجتمع الجاهلي). والجاهلية، عند سيد قطب هي سمة العصر الذي نعيش فيه اليوم. وحيث يكون الأمر على هذا النحو، فإن الدعوة الاسلامية لا تعني شيئاً آخر سوى إعلان القطيعةوالانفصال مع (مجتمع الجاهلية)، تمهيداً لإلغائه إلغاء فعلياً عن طريق إزالته، متى أمكن استجماع الأسباب الكافية لذلك. ولأجل ذلك لا بد من صلابة في الموقف ومن صرامة فيمعاداة هذا المجتمع.
إن رفض المجتمع (الجاهلي) هو، كما نلاحظ، رفض شامل ومطلق لكل القيم والتصورات والتقاليد والعادات، وكذا لكل الشرائع والقوانين. إنها (القطيعة)فعلاً، وهي مهمة شاقة وعسيرة ضعفين. عسيرة أولاً، لأن الانسان يولد ويشب ويكبر في ظل (الجاهلية)، حيث (الاسلام) غير متحقق بالفعل، وهي عسيرة ثانياً لأن (منهج التربيةالاسلامية)، كما يقول محمد قطب، مطلوب إقراره بعدما كان التيه عنه قروناً عديدة. ((القطيعة)) (متى نظرنا إلى المسألة في وجهها السلبي)، أو تحقيق ((المنهج الرباني)) (متى نظرناإلى المسألة في وجهها الإيجابي) مهمة عسيرة، لكنه لا محيد عنها.
التربية إذن، في قول جامع، هي سبيل الانفصال عن (الجاهلية) أو عن (المجتمع الجاهلي)، وهي منهج التحضيروالإعداد لتحقيق ((المنهج الرباني)) (والعبارة لمحمد قطب). إنه التحضير لإنجاز تغيير شامل في الاجتماع وفي السياسة.
مع مرحلة قطب تمضي الاستراتيجية التي اختط لها حسنالبنا خطوة جديدة حاسمة إلى الأمام.
3 ـ في فكر الحركات الاسلامية المعاصرة مفهوم محوري نحسب أن مفاهيم عديدة غيره ترجع إليه أو أنه، على كل، التوطئة العقائدية لذلكالفكر فلا يقوم اعتراض عليه من هذه الفئة أو تلك، من هذه الجماعة أو غيرها من الجماعات الفكرية والسياسية الاسلامية، ذلك هو مفهوم (الصحوة). وإذا جاز لنا أن نأتي للصحوةبنعت أو صفة (وليس بتعريف دقيق، فذاك ما يتكفل به أو يحاوله رجال الدعوة أنفسهم) فإننا نقول عنها: إنها حال يراد لوعي المسلم، في عالم اليوم، أن يتصف بها. إنها نوع من(الانتفاض في النفس) يلزم تحقيقه أولاً وأخيراً، ذلك أنه لا تغيير، اجتماعياً كان ذلك التغيير أو سياسياً، مع انعدام حال (الصحوة).
وسواء كان الحديث، في خطاب الحركاتالاسلامية المعاصرة لنا، حديثاً عن (حتمية الحل الاسلامي)، أو دعوة إلى وجوب (تطبيق الشريعة)، أو كان مجرد نداء من أجل (تكوين الطليعة المسلمة المرجوة لنصرة الاسلام،والتي تمثل في عصرنا دور الصحابة في عصر النبوة)، فإن الدعوة إلى (الصحوة) تظل هي التمهيد أو المقدمة الضروريان لعمل التغيير الاسلامي الحاسم: اجتماعياً وسياسياً، (بلسياسياً ثم اجتماعياً).
يربط المفكر المعروف الشيخ يوسف القرضاوي، في كتاباته الغزيرة والمسهبة، بين (الصحوة) من جهة أولى، وبين القول بـ حتمية الحل الاسلامي من جهةثانية، ثم بين كل منهما على حدة وبين التربية من جهة ثالثة، ثم إن الحل الاسلامي (أو حتمية هذا الأخير بالأحرى) يظل هو الحل الوحيد الممكن، بعدما جرب العالم الاسلامي عامةوالعربي الاسلامي خاصة حلولاً أخرى غير ذلك.
يجتهد فكر (الصحوة) في تقديم نظرية شاملة في الوجود السياسي والاجتماعي، ويسعى إلى رسم معالم نظرية تشمل الفكر والثقافة(وذلك، ما يستهدفه الحديث عن التربية). ولكن منطق (الدعوة)، من جانب أول والانشغال بأولويات الحركة من جانب ثان، ثم الالتزام بما تقتضيه (حتمية الحل الاسلامي)، من جانبثالث، كل هذه أمور تجعل الأولوية والصدارة للعمل السياسي أو لعمل سبيله ووجهته معاً هما السياسة وما يرتبط بها.
تمايز في المناهج وتعدد في المعالجة في فكر الحركاتالاسلامية المعاصرة. لكن الرؤية في أساسها تظل خاضعة لهيمنة (السياسي)، لا تنفك أن تحيد عن مقتضياته ومستلزماته.
في أثناء هذا كله، ظلت (المسألة الثقافية) قابعة فيزاوية النسيان، وإن بدا احتفال بها، وظلت قانعة من الوجود بمكانة المؤخرة والتبعية، وإن بدا في خطاب الحركات الاسلامية المعاصرة أن الأمر غير ذلك. ومن هذه الزاويةتحديداً، يصح الحديث عن مماثلة أو مقايسة بين ما ينتهي إليه الفكر العربي الاسلامي في (عصر النهضة)، وبين ما يتقرر، بكيفية تكاد تكون عفوية، في فكر (الحركات) الاسلاميةالمعاصرة اليوم.