المظاهر والحدود
د. حسن حنفي انشغل العلماء في العصر الحديث بالدفاع عن الاسلام ضد منقديه من المستشرقين. فقد رد الأفغاني على رينان فياتهامه الاسلام بأنه ضد العلم والتقدم. كما رد محمد عبده على هانوتو في حكمه على الاسلام بأنه ضد العلم والمدنية على عكس النصرانية في «الاسلام والنصرانية بين العلموالمدنية». ورد مصطفى عبد الرزاق على كارادي فو وغيره من المستشرقين بأن الفلسفة الاسلامية مجرد شرح للفلسفة اليونانية في «التمهيد لتاريخ الفلسفة في الاسلام» مبيّناالإبداع الفكري الاسلامي في علم الأصول، أصول الدين وأصول الفقه.
ومنذ الحركات الاسلامية المعاصرة التي فرضت نفسها على الساحة الفكرية والسياسية انبرى المثقفونلبيان أن الاسلام مضمون وليس شكلا، جوهر وليس عرضا، مقاصد وليس حدودا، تحقيق لمصالح الناس وليس ردعا وعقابا. ودافع الاسلام المستنير عن جوهر الاسلام وروحه وأنه دينالعقل والحرية والمساواة والعدال الإجتماعية والديموقراطية والتقدم. استطاع أن ينشىء حضارة امتدت عبر أربعة عشر قرنا، وأن يرث حضارات الأمم السابقة، اليونان والرومانغربا، وفارس والهند شرقا، وأن يكمل الديانات السابقة ويتمها، اليهودية والنصرانية، وأن يجعل العرب معلمين للانسانية، مبدعين العلم والثقافة، وأن تكون الحضارةالاسلامية وراء النهضة الأوروبية الحديثة وأحد أسباب نشأتها.
والشيء الذي لايمكن الدفاع عنه هو فهم الاسلام باعتباره مجرد مظاهر خارجية، إطالة اللحي، ولبس العمائمأو تطبيق الحدود وكأن الاسلام أتى للردع والعقاب، وكأن الرسول قد أرسل جابيا لاهاديا. بل كثيرا ما يُستعمل هذان الجانبين في الاسلام كوسيلة لأضفاء الشرعية على الحكمالظالم تمسحا بالاسلام وطلبا لشرعيته.
إن الصحوة الاسلامية المعاصرة إن كانت أيضا موضع تساؤل حول بعض المظاهر إلا انها تقاوم في جنوب لبنان وفي فلسطين. فالمقاومةتشفع لها المظهرية ووحدتها وعدم الاقتتال بينها، ورفع الأخ السلاح في وجه أخيه تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها ضد المظهرية والأشكال الخارجية. وتناضل ضد عدو جعل من هذهالظواهر أحد معالم هويته. فالإيجاب في هذه الحالة أكثر من السلب، والمنفعة أكثر من الضرر.
ويظل السؤال قائماً: لماذا ينجح المسلمون في مقاومة العدو في الخارجوالانتصار عليه ويكونون أقل نجاحا في الداخل عندما يتحولون من الثورة الى الدولة، وعندما ينتقلون من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر طبقا للحديث المشهور؟ هل هذا هوقانون الثورات كلها أو معظمها؟ نجح نابليون في نشر أفكار الثورة الفرنسية في الخارج وتوسيع نطاقها ولكنه كان أقل نجاحا في الداخل فقد حول الثورة الى امبراطورية، وحركةالجماهير الى مصالح شخصية. كما نجح عبد الناصر في تحرير العالم العربي ضد الاحتلال الأجنبي وفي مقاومة الصهيونية، وبلورة القومية العربية وإرساء قواعد عدم الانحيازولكنه كان أقل نجاحا في الداخل بالنسبة لقضايا الحريات العامة وديموقراطية الحكم والحوار مع القوى الوطنية السابقة على الثورة.
وقد تكون هناك أسباب أعمق بالنسبةللشيشان وأفغانستان الآن وقبل ذلك بالنسبة لباكستان والسودان وربما ايران. هناك المحافظة التاريخية المستمرة في الوعي الثقافي منذ أكثر من الف عام، منذ قضى الغزالي علىالعلوم العقلية، وكفر التعددية، وجعل الأشعرية العقيدة الرسمية والشافعية المذهب الرسمي، وقوى الدولة وسلطانها على حساب الشعب وحقه في المراجعة والنقد. أعطى السلطانالقوة وطالب الشعب بالطاعة. واستمرت هذه المحافظة الدينية وتحولت الى أشكال ورسوم إبان الحكم العثماني. وبالتالي أصبحت هي الرافد المكون لثقافة العلماء والجماهير. ولمتستطع الحركة الاصلاحية منذ القرن الماضي ايجاد ميزان التعادل في الوعي الثقافي بين محافظة القدماء وتحرر المحدثين بعد تعثرها وكبوتها من الأفغاني الى محمد عبده بسببفشل الثورة العرابية، ومن محمد عبده الى رشيد رضا الى حسن البنا بسبب اغتياله، ومن حسن البنا الى سيد قطب بعد اندلاع ثورة 1952 والصراع بين الاخوان والثورة في 1954.
وقدتوظف هذه المظاهر الخارجية كنوع من الاعلام السياسي بعد أن تم تهميش الحركات الاسلامية واستبعادها من الحياة السياسية. فأصبحت المظاهر نوعا من إثبات الوجود. كما أنهاالطريق السهل المرئي للإعلان عن الهوية الاسلامية والتمايز مع الآخرين. فالبرنامج الاجتماعي السياسي ربما مازال غير واضح، ويتطلب الجهد الوقت والتخصص والقراءةوالتعليم وهو ما لايتجه النضال السياسي. وربما هو الاحساس بالفرقة الناجية التي لا تقبل الحوار مع الخصوم، مع الفرق الهالكة.
إن مخاطر المظاهر والحدود على الأمدالطويل وجعلها هي كل الاسلام بل والاسلام كله هو نشأة تيار علماني مناهض يغلّب المضمون على الشكل، والمصالح العامة على العقوبات سواء من العلمانيين أو الاسلاميينالمستنيرين. اذ تتعطل مصالح الناس لحساب الشكل، ولا تشبع الحاجات الأساسية لهم لحساب الردع والعقوبات. فيتغير المجتمع، ويتجه نحو المضمون ضد الشكل، ويعادي الناسالاسلام بسبب فرق المسلمين.
المصدر : الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي