حوار الحضارات
أحمد طالب الابراهيمي لامرية في أننا نحن المسلمين من دعاة الحوار، لا انطلاقا من مواقف آنية، ولااستجابة لظروف وقتية، ولكن لأن مبادئ ديننا تدعو إلى ذلك، وتحث عليه، تجسيدا لوحدة النوع الإنساني، وترسيخا لمبدأ سواسية الناس في الخلقة، وتحقيقا لإرادة الله عز وجل فيجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ذلك التعارف غير المقصود لذاته، وإنما لما يثمر من تعاون لخير الجميع. إذ التمايز ـ في رأينا ـ هو تمايز تناقض.
ولكن يجدر بنا أن نحدد ـقدر الإمكان ـ معنى المصطلحات التي نستعملها، لأن كثيرا من الالتباس المؤدي إلى الاختلاف ناتج عن الخلاف حول دلالات المصطلح، وأن المسألة لاتنحصر في حدود فقه اللغة، بلتتجاوزها إلى أبعاد سياسية وثقافية وأيديولوجية.
فما المقصود ـ إذن ـ بالحضارة، وعلاقتها بالثقافة وبحوار الحضارات ؟
إن الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموعالاستجابات والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب ـ بحسب عبقريته ـ ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل وملبس وتناسل، أما على المستوى الأرفع فإن للثقافة أوجها ثلاثة هي: تنمية الفكر وترقية الحس النقدي، تكوين الحس الجمالي وإرهاف الذوق، والاستمساك بالقيم وغرس الحس الأخلاقي. وإذا كان مفهوم الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإن الحضارةتنزع إلى العمومية. فالثقافة هي الحضارة الخاصة بأمة من الأمم، لايشاركها في شأنها أحد، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتسم بسماتها، ووراء كل حضارة دين، وقد تصب عدة ثقافات فينهر حضارة واحدة. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أما على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانبالروحي، وابن رشد في الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي. ونشكل ـ نحن العرب ـ بثقافتنا مع ثقافات أخرى ـ الفارسية والتركية ـأقول ـ نشكل الحضارة الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها.
إن هذه الحضارة الإسلامية التي سادت الكون بالعلم والعقل والعدل في نهاية الألفية الأولى منالتقويم الميلادي، عرفت بعد ذلك فترة انحدار ثم فترة انحطاط دام قرونا، وهي اليوم ـ ونحن على أبواب الألفية الثالثة ـ تواجه أزمة مزدوجة: فهي تبحث ـ من جهة ـ عن مشروعنهضوي لتعيش مع العصر، وهذا لن يتأتى بالقطيعة والجهل، ولكن بالحوار والفهم.
وتعاني ـ من جهة أخرى ـ عداء للحضارة الغربية التي بدأت ـ منذ انهيار الشيوعية تزعم وجودخطر من الإسلام، وتريد أن تصرف مشروعنا النهضوي عن مرجعيته الإسلامية برفع شعارات خلابة مثل الحداثة التي في رأيها قطيعة مع العروبة والإسلام، أو بالتركيز على تاريخماقبل الإسلام كإبراز الفرعونية في مصر، أو الأشورية في العراق، أو الفينيقية في لبنان، أو البربرية في المغرب والجزائر.
لقد كان الحوار دائما المبدأ الأساسي فيمعاملة المسلم لغيره، إنه حوار يقوم على المجادلة بالتي هي أحسن، وعلى الإقناع بالمنطق السليم الذي لايستسيغ الربط بين الحضارة والصدام، لأن الصدام يجب ألا يكون مبادرةالمسلم، فهو يؤدي إلى الدماء والدمار، بينما الحضارة معناها العمران والسلام.
من الصدام إلى الحوار
إن تاريخ العلاقات بين الحضارتين الإسلامية والغربية عرففترات حوار وتفاعل، وفترات صدام وتطاحن، والغزو الحديث للأمة الإسلامية جاء بالسيف والمحراث كما قال المارشال بيجو Bugeaud، أو بعبارة أخرى جاء بالمدفع والنهب الاقتصاديثم تلاه غزو فكري ارتكز على الثالوث المعروف: الاستعمار والتنصير والاستشراق، لأن غزو العقل يضمن له تأييد تبعيتنا له حتى بعد انتهاء الاحتلال العسكري، وهكذا نصبح ونحننتبني النموذج الغربي، ونتخلى عن المرجعية الإسلامية في مشروعنا النهضوي في الحكم والإدارة والتشريع. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تعاملنا مع عالم ثنائيالقطيعة:
معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ومعسكر شرقي تحت قيادة الاتحاد السوفييتي. وقد حاولنا ـ نحن المنتسبين إلى العالم الإسلامي، أو الجنوب،أو العالم الثالث ـ أن نستفيد من التناقضات بين القطبين لطرح بعض قضايانا وإيجاد حلول لها.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشرقي تميز الوضعالعالمي بهيمنة الحضارة الغربية التي انضوى تحت لوائها الاتحاد السوفييتي، حتى طمع الغرب أن تسلم له الحضارات وهي: الفردية، والليبرالية، واقتصاد السوق، وحقوقالإنسان، والديمقراطية.
وقد أدرك المفكرون الغربيون أهمية المتغيرات على الساحة الدولية بعد انهيار الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، فدعا بعضهم إلى حوار الحضارات،وركز بعضهم على صدام الحضارات. والعجيب أن وسائل الإعلام ـ في عصر تسلط وسائل الإعلام ـ لم تبرز إلا النوع الثاني من المفكرين، وهكذا أصبح اسم فوكوياما وهيتنجتون منالأسماء اللامعة. فالأول بشر 'بنهاية التاريخ'، والانتصار النهائي للنسق الغربي، وأما الثاني فحذر من خطر الإسلام، وأوصى الغرب أن يحاول منع أي تحالف بين الحضارةالإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية، وأن يوثق الأواصر داخل دائرته الحضارية، ويدخل في عصبيته أوربا الشرقية، وحتى اليابان.
والدليل على إبراز هذه الأفكار من طرفوسائل الإعلام هو أن أبرز ساسة الغرب عبروا عن الأفكار نفسها، بدءاً من الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون إلى الأمين العام الأسبق للحلف الأطلسي ويلي كلاوس مرورا برئيسالحكومة الفرنسية الأسبق بالادور، كلهم حذروا من خطر الإسلام.
ولا بد أن يتوافر شرطان في الحوار نفسه وهما يتركزان في:
أ ـ ألا يقوم على الروح التنصيرية، بل علىالمبدأ القرآني القائل: لا إكراه في الدين . ب ـ أن يكون شاملاً، وألا يقتصر على رجال الدين والفكر، بل لابد أن يشمل رجال الاقتصاد والسياسة والأدب والإعلام والفنوالرياضة. إن الاستعمار يبدأ اقتصاديا ثم عسكريا، حتى تحمي القوة العسكرية المصالح الاقتصادية، ثم تأتي الثقافة لتحمي الاقتصاد والجيش، ثم يأتي الإعلام، فيجب إذن أنيشمل الحوار كل جوانب الحياة.
أما الشروط التي يجب أن تتوافر في المحاور الغربي فيجب أن تدور حول:
أ ـ أن الغرب الذي يطالب كل الأنظمة القائمة في العالم الثالثبالتزام التعددية، حتى أصبحت هذه الأخيرة أهم المقاييس لديه لإصدار حكم على هذه الأنظمة، نطالبه نحن بدورنا بالتزام التعددية في المرجعيات الحضارية، لأن أحاديةالحضارة الغربية معناها إلغاء المرجعيات الأخرى، ومنها المرجعية الإسلامية. وإن فرض مرجعية واحدة على الشعوب كمن يفرض عليها أن تعيش على طعام واحد، ويجبرها على أن تنظربعين واحدة، ويلزمها أن تتنفس برئة واحدة، والأخطر من ذلك كله عندما يكون ذلك الطعام ملوثا، وتلك العين حولاء، وتلك الرئة مسلولة. ب ـ أن يعترف الغرب بقانون تداولالحضارات، وأن يقر أن الحضارة ليست حكراً له، تلك الحضارة نداولها بين الناس، نعم إنها اليوم ملك له كما كانت بالأمس ملكا للأمة الإسلامية، وكما تكون غدا لأمة ثالثة. جـ ـ أن يدرك أن مايسمى بالحضارة الغربية اليوم هو ناتج شارك فيه أجدادنا بالقسط الوافر، والنصيب الكاثر.
شروط المحاور المسلم
أ ـ إذا كنا نطالب الغرب بالتزامالتعددية على مستوى الكون، فإنه من واجبنا أن نطبق التعددية في بلداننا، خاصة أن التعددية من أسس حضارتنا. فنحن نعلم أن الخلاف في الفروع رحمة، وأن التعددية المذهبية أولمظهر من مظاهر التعددية في تاريخ الإسلام. ب ـ أن ننطلق في مشروعنا النهضوي من مرجعية إسلامية، أي أن نبقى أوفياء لجذورنا العربية الإسلامية 'شجرة أصلها ثابت وفرعهافي السماء'، أما أنصار الحداثة الذين يدعون إلى القطيعة مع العروبة والإسلام فإنهم ـ في الحقيقة ـ يريدون شجرة دون جذور، شجرة اصطناعية، لاتطعم بطنا، ولاتسر عينا،ولاتطرب بحفيفها أذنا.، وأقصى ماتصلح له أن تتخذ زينة أياما معدودة ثم تذهب أدراج الرياح.
جـ ـ أن يملك المحاور المسلم تصورا للعالم الذي يحيط به، وأن يكون ملمابالحضارة الغربية: واقعها، تاريخها، إمكاناتها، ثم يسعى للتفاعل معها بغية فهم الطرف الآخر في الحوار ثم التفاهم معه.
د ـ أن يكون مثالا للخلق الصالح لكي يؤثر فيغيره، فلو حكمنا الإسلام في سلوكنا الفردي والجماعي لأصبحنا 'خميرة العالم'. وإذا كان الله ـ عز وجل ـ قد أراد لنا أن نكون شهداء على الناس، فإن ديننا لايقبل شهادة المجروحفي أخلاقه وسلوكه. وقد قال أحد أعلامنا: 'يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن'، وكان القرآن هو خلق رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إن النظام العالمي الجديدالذي تتحدث عنه الألسن حاليا يعني تفوق حضارة واحدة على باقي الحضارات. أما النظام العالمي المنشود فهو نظام يقوم بالفعل على المساواة بين البشر في الفرص والحريةوالديمقراطية، وكذلك في التكنولوجيا التي يجب أن تسخر لخدمة الإنسان، لا لحفر هوة بين الشمال والجنوب وتعميقها.
أهداف الحوار
1 ـ هدف عقائدي:
وهو تصحيح الصورةالتي روجت عن الإسلام عقيدة وحضارة، وقد اشترك في هذه القولبة الإعلامية مجموعة من الصحفيين الذين يستمدون مرجعيتهم الفكرية من عدد من الأكاديميين. ومن الأمثلة على هذاذلك التهويل الإعلامي الغربي لمفهوم الإرهاب والاقتصار في رصده وإدانته الأخلاقية للعمليات المتطرفة التي تقوم بها مجموعات مسلحة مع التغاضي عن عمليات الإرهاب المبرمجالذي تمارسه بعض الدول، كما هو الشأن في العدوان على الفلسطينيين وعلى البوسنة والشيشان. 2 ـ على الصعيد السياسي:
إن الحوار لايكون إلا بين حضارات متكافئة، وهذاالحوار غير ممكن مادامت الحضارة الغربية هي اللاعب الوحيد على مسرح العالم. نعم، يسمح للحضارات الأخرى أن تصرخ في منابر كثيرة مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة،لأنها تشبه حديقة 'هايد بارك'، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمحافل التي يصنع فيها القرار ـ مثل مجلس الأمن ـ فهناك تتم عملية إقصاء الحضارات الأخرى.
على هذا الأساس يصبحمن أهداف الحوار مشاركة الحضارة الإسلامية في صنع القرار، والكفاح من أجل الحصول على مقعد دائم للدول الإسلامية في مجلس الأمن.
3 ـ على الصعيد الاقتصادي:
وبما أنالشرط الأساسي للوصول إلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن هو أن تكون قوة اقتصادية ـ ودليل ذلك أن المرشحين الحاليين لهذه العضوية الدائمة هما ألمانيا واليابان ـ فيجبعلينا أن نبني اقتصادا متينا، حتى نشارك في صنع القرار بالنسبة لأسعار المواد الأولية التي ننتجها، وبالنسبة للأوراق المالية التي تدفع لنا مقابل هذه المواد، وبالتاليفإنه ينبغي: أ ـ الاكتفاء الذاتي بالنسبة للمواد الغذائية، واستقلال الأمة الإسلامية الحقيقي يتم عندما نصل إلى إنتاج ما نستهلك.
ب ـ تحديد الأولويات في ميدانالبحث العلمي، مثل الزراعة حتى ننتج بذور الحبوب التي يمتنع الغرب عن توفيرها لنا، فإنه من المستغرب أن معدل إنتاج الحبوب عندنا عشرة قناطير في الهكتار، بينما تنتجأوربا مائة قنطار في الهكتار، وكذلك الصناعة، ثم الطاقة الذرية لاستعمالها في جميع ميادين العلم، وخاصة الطب.
4 ـ على الصعيد الخلقي
إن الإله الحقيقي للحضارةالغربية هو النماء المادي، مما ولد ثقافة يأس وفلسفة سخرية الوجود، حيث يعلمون شبابنا أن الحياة ليس لها معنى، وأن كل شيء مباح، حتى الجريمة والعنف ضد الأفراد والشعوب،وأن العلم والتكنولوجيا غاية، بينما نحن نعتبرهما وسيلة لخدمة الإنسان وإسعاد البشرية. إن ما أريد أن أؤكده هو أن الحضارة الإسلامية تتميز وتمتاز بخاصية التفتح علىالكون ومن فيه ومافيه، إذ إن مرجعها الأول ـ وهو القرآن الكريم ـ يأمر المسلمين بالسير في الأرض للتعرف على الآخر، والاحتكاك به، والنظر فيما عنده، والإطلاع على ما أنجزماضياً وحاضراً، التقاط الحكمة أنى وجدت على التعاون مع هذا الآخر. ويعتبر تمايز الناس ـ لونا وعرقا ولسانا ـ آية من آيات الله، وأن الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ مكرم منالخالق، ومن كرمه الخالق فلاحق للمخلوق أن يهينه، ويستعبده، ويستعمره، وهو ما جعل أحد رموزنا يقول لأحد كبار قادته وولاته قبل خمسة عشر قرناً في حق نصراني مست كرامته:'متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟'، وهي الجملة التي اهتدى إليها الغرب بعد كثير من المحن والآلام وحروب الاستعباد ليتوج بها إعلان ميثاق حقوق الإنسان. وختاماً، أقول إن الأفكار لاترسخ في عقول الناس، ولاتخلد في ضمائرهم عن طريق فرضها عليهم، ولكن الأفكار تدوم وتخلد إذا كانت صالحة في نفسها.
المصدر : مجلة العربي 477 / 1 ـ 8 ـ 1998