حسني أدهم جرار
الاُخوّة في المجتمع الإِسلامي الأول
في المجتمع المكي:
إن الأساس الاول الذي شاد عليه الإسلام بناءهالاجتماعي هو الأخوة بين أفراده جميعا.. فمن الطبيعي وهو مجتمع يقوم على عقيدة تجمع بين ابنائه أن يجعل منها رابطة قوية تشدّ كل المسلمين وتؤلف بين قلوبهم.
إنه يجعلهذه الأخوّة علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب وتفضلها.. وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعا على اساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها فيتقرير الحقوق والواجبات..
ففي المجتمع المكي كان رباط الأخوة هو الأساس المتين الذي يتجمع حوله المسلمون دون اعتبار لما كان بين العرب قبل الإسلام من روابط تقوم علىالأنساب والأجناس والتعصب لها.. ففي الإسلام لا تفاخر بالأنساب ولا اعتبار للجنس، فالإسلام يرفض أن يفترق الناس أجناساً مختلفة وأن تفصل بينهم فواصل من صنع أيديهم. ولهذا فقد احتضن المجتمع الإسلامي الأول المسلمين من كل جنس ومن كل لون، ولم يجد الفارسي أو الرومي أو الحبشي حائلاً يمنعهم من الانتساب لهذا المجتمع بل والتصدر فيه.. وكانت هذه الأخوة نوعا جديداً من العلاقات لم يعهده المجتمع العربي قبل الإسلام، إذ كان ذلك المجتمع يقوم على رباط النسب والجنس فجاء الإسلام ليجعل الترابط في مجتمعهيقوم على اساس روحي وفكري من وحدة العقيدة ووحدة الغاية، متخطياً في ذلك الروابط التي تحمل في طياتها عوامل التفكك وبذور الانهيار.
وكان المسلمون في المجتمع المكيصفاً من العاملين، أخذوا هذه الدعوة اوّل أمرها ألماً وعناءً ولم يكن في طبيعة الدعوة الإسلامية ما يجذب غير العاملين المخلصين.. وكان الرسول (ص) رمزاً للإسلام وأفقاًواسعاً من الصبر والاحتمال، وظلّ يلاقي من العنت ما ذهب بماله ومال زوجه وأصحابه، وكان يمرّ على المستضعفين من أصحابه فيقول: صبراً لا املك لكم من الله شيئاً. وبذلك خلّىما بينهم وبين ربهم وعرضهم عرضاً مباشراً للمحنة واحتمل معهم ما يحتملون..
والمؤمنون يرون هذا ويحمل كل فرد ما يطيق من البلاء.. لقد دخلوا الإسلام مغارم من أول يومعرفوا فيه الإسلام وآمنوا بالرسول على أنّه مبلّغ لا على أنه قادر على حمايتهم أو الانتصار لهم. ورغم هذه الآلام جميعاً كانت لهم عبادتهم المحبّبة وأخوّتهم الخالصةووقفاتهم الطويلة التي يفرضونها على انفسهم.. وتكوّنت المجموعة الإسلامية الأولى، فكانت مجموعة عالمية تدعو لدين عالمي وأُخوة عالمية تفنى فيها فروق الجنس واللونوالطبقات، فالناس كلهم إخوة ينتسبون إلى أب واحد، ويعبدون رباً واحداً..
وقام المجتمع الإسلامي على أساس من التكافل والتكامل والتفاهم.. وكان في تكامله وتفاهم أعضائهما جعل كل عضو فيه يؤدي واجبه، ويقوم بالعمل الذي تؤهله له مواهبه، ويمنحه المجتمع من الطاقة ما يكفيه للسير في هذه المهمة.. فإذا اشتكى عضو ظهر التكافل واضحاً فيتداعى لهسائر الجسد بالسهر والحمى..
فالإسلام أقام عدالته الاجتماعية على هذا المعنى الدقيق من التكافل ووحدة الشعور.. بل وكان في هذا المجتمع الكريم ما هو أسمى من العدالةالاجتماعية.. كان فيه الكرم الإجتماعي والغذاء الإجتماعي.. وبه كان يدفع الفرد أكثر مما يُطلب منه، ويبذل أكثر مما طلب منه الشرع الإسلامي.. إذ لم يكن الأمر أمر مال فقطولكنهم كانوا جسداً واحداً له شعور واحد وهدف واحد وكيان واحد ومصلحة واحدة.
ومن أهم المظاهر التي تدلّ على هذا:
1_ التكافل الاقتصادي: كان أغنياء المسلمين ينفقونالأموال لتحرير إخوانهم من الرّق، ومن الأمثلة على ذلك أبو بكر الصديق كان له مال كثير، أنفقه على عتق الرقيق المعذبين.. وهم قوم خالط الدين قلوبهم وخالفوا ساداتهم فيالإيمان، وثبت هؤلاء الضعفاء على ايمانهم رغم ما أصابهم من أذى وإرهاق.. ويروي لنا التاريخ أن أبا فكيهة كان عبداً لصفوان بن امية وانه أسلم مع بلال فكان من السابقينالأول، وقد أخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلا، وأمر به فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء، وخنقه خنفاً شديداً. وكان أخوه أبي بن خلف يقول زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره،ولم يزل على تلك الحال حتى ظنّوا أنه مات. ثم أفاق فمرّ به أبو بكر فاشتراه وأعتقه.
وتكرّرت هذه الحوادث مع عمار وبلال وغيرهم كثير، فما كان من أغنياء المسلمين إلا أنجعلوا مالهم فداء لإِخوانهم في العقيدة حتى يخففوا عنهم بعض ما يحملون من الألم.
واشتد العذاب بالمسلمين جميعاً حين قاطعتهم قريش اقتصادياً وألجأتهم الى شعب أبيطالب، فوضع المسلمون مالهم بين يدي المحنة ترعاه حتى أتت عليه ومضت الأعوام الثلاثة وفنيت أموال المسلمين حتى أكلوا ورق الشجر من الفقر والجوع.
2_ رد الجوار: لقد دخلبعض الصحابة في جوار نفر من أقوياء الكفار، ولكن أمر الأذى اشتد بإخوانهم فلم تطب نفوسهم بأن يعيشوا في مكة آمنين وإخوانهم في العذاب. فما كان منهم إلا أن ردّوا الجوارالى اصحابه واقتحموا لهيب العذاب سعداء بما يلقون في جنب الله.. ويروي ابن هشام في كتابه (السيرة النبوية) فيقول: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه اصحاب رسول الله (ص) من بلاءوهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لايصيبني لنقصكبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك، قال له: يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي: قال: لا ولكنني أرضى بجوار اللهولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردعلي جواري: قال: صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار. ولكني أحببت أن لا أستجير بغير الله فقد رددت عليه جواره ثم انصرف وعثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس منقريش ينشدهم فجلس معهم عثمان: فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال عثمان صدقت قال: وكل نعيم لا محالة زائل، قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة:يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله. فرد عليه عثمان حتى سرىأمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخفرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان. فقال: أما والله يا ابن أخي ان كانت عينك عما أصابها لغنية لقد كنت في ذمة منيعة.قال عثمان: بل والله إنّ عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله واني والله لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد: هلمّ يا ابن اخي ان شئتإلى جوارك فعد. فقال: لا.
كما ردّ أبو بكر جوار ابن الدغنة سيد الأحابيش حينما طلب إليه أن يكف عن تلاوة القرآن في المسجد قائلا: أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
3_الفداء: ومن نتائج وحدة الشعور عند المسلمين تقديرهم العميق لرسول الله (ص) كرمز لهذه الدعوة، ومما يدل على هذا ما حدث وقت الهجرة حين نام علي ابن ابي طالب في فراش الرسولوتسجّى ببرده وخرج الرسول مهاجراً إلى ربّه.. وهكذا كانت أخوة الإسلام تملأ قلوب المسلمين وأرواحهم وتجعل منهم دروعاً تحمي رسول الله (ص) وتفديه.
لقد كانوا قوماأحبّوا هذا الدين من قلوبهم حباً صادقاً، ولم يأخذوا الإسلام (وظيفة) يؤدون منها عملا، أو وراثة يحيون فيها، وإنما أخذوه روحاً وعقيدة توجه كل أوضاع حياتهم.
ولهذا لمير العالم كأصحاب محمد (ص) قوماً من مختلف العناصر والبيئات والأجناس والطبقات اجتمعوا على التضحية هذا الاجتماع الرائع، وبذلوا لأخوّتهم هذا البذل السّخي.
فيالمجتمع المدني:
عندما وصل المهاجرون إلى المدينة تنافس فيهم الأنصار فحكّموا القرعة بينهم فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة.. وكانوا يؤثرون إخونهم المهاجرين علىأنفسهم.. وسجل القرآن ذلك الموقف الفريد: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهمخصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون).
وحتى يُمكّن الرسول (ص) بينهم هذا الإخاء آخى بين المهاجرين والأنصار فكان كل أنصاري ونزيله أخوين في الله. ويستطيعالإنسان أن يدرك بحسه الإسلامي أن هذه الأخوة كانت أرقى بكثير من الأخوة العصبية.. فهي قلوب ألّف الله بينها حتى صارت شيئاً واحداً في أجسام متفرقة.. حتى انهم كانوايتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، والرسول عليه السلام يقول لكل اثنين (تآخيا في الله أخوين أخوين).. ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله في سورة الأحزاب:(وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض في كتاب الله).
ولتثبيت دعائم الأخوة في هذا المجتمع الكريم فإن الرسول (ص) ابتدأ عمله في المدينة بإيجاد الروابط التي تربط أفرادالجماعة الإسلامية، وكوّن وحدة تضم العناصر المختلفة الأنساب والأماكن، وجعل من ذلك المجتمع المختلف أنساباً وقبائل مجتمعاً مؤتلفا في شعوره، تُمحى فيه الفوارق. لقد وجد النبي (ص) مهاجرين من بطون مختلفة، ووجد أنصاراً آووا ونصروا، ولكن الدماء لم تكن قد جفت بينهم فجاء الى ذلك المجتمع الذي كان متنافراً، ليؤلف بين قلوبهم، والأممإنما تتكون بتأليف القلوب المتنافرة، وجمعها على الحق، وأشد ما يجمع الناس على الحق _الإيمان بالله والخضوع لأحكامه..
قال السهيلي في كتابه الروض الأنف: (آخى رسول الله(ص) بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزرهم بعضهم ببعض)..
وهذا أحد أغراض المؤاخاة.. فالمؤاخاة أولا تتجهإلى تكوين وحدة الجماعة المؤمنة، ولذلك كانت المؤاخاة بين المهاجرين والانصار أولاً، وكانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض ثانياً، وبين الأنصار بعضهم مع بعض ثالثاً، أوسهممع خزرجهم، ليقضي الرسول على الثغرة السابقة بالألفة التي تجمع القلوب، وتزيل نفورها.
فالمؤاخاة كانت لتجعل رابطة الأخوّة هي العلاقة الوثيقة بين النسيب الشريف،والمولى الضعيف، ولذلك كانت المؤاخاة بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى رسول الله (ص).
والمؤاخاة كانت لتضع مبدأ المساواة عمليا بين أفراد الجماعة المسلمة..قال ابن إسحاق: (وآخى رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال _فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يُقل: تآخوا في الله أخَوين أخَوين، ثم أخذ بيد عليبن أبي طالب، فقال: هذا أخي. فكان رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخَوين،وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله (ص)، وعم رسول الله (ص)، وزيد بن حارثة، مولى رسول الله (ص) أخَوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث بن حادثالموت، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، الطيّار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة، أخَوين.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ابن أبي قحافة، وخارجة بن زهير، أخوبلحارث بن الخزرج، أخوين. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج أخوين: وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجرّاح، واسمه عامربن عبد الله، وسعد بن معاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشهل، أخوين، وعبد الرحمن بن عَوف، وسعد بن الربيع، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين، والزبير بن العوّام، وسلامة بنسلامة بن وَقش، أخو بني عبد الأشهل، أخوين، ويقال: بل الزبير وعبد الله بن مسعود، حليف بني زهرة، أخوين. وعثمان بن عفّان، وأوس بن ثابت بن المنذر، أخو بني النجار، أخوينوطلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سلمة، أخوين، وسعد بن زيد بن عمر بن نُفيل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار، أخوين. ومصعب بن عمير بن هاشم، وأبو ايوب خالد بن زيد،أخو بني النجار، أخوين. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبّاد بن بشر بن وقش، أخو بني عبد الأشهل، أخوين. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم، وحُذيفة بن اليمان، أخو بني عبدعَبس، حليف بني عبد الأشهل أخوين. ويقال ثابت بن قيس بن الشماس، أخو بلحارث بن الخزرج، خطيب رسول الله (ص)، وعمار بن ياسر، أخوين. وأبو ذرّ، وهو بُرير بن جُنادة الغفاري،والمنذر بن عمرو، أخو بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، أخوين.
وكان حاطب بن أبي بلتعة، حليفة بني أسد بن عبد العزىّ، وعُويم بن ساعدة، أخو بني عمرو بن عوف، أخوين وسلمانالفارسي، وأبو الدرداء، عُوَيمر بن ثعلبة، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين. وبلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، مؤذن رسول الله (ص) وأبو رُويحة، عبد الله بن عبد الرحمنالخثعمي، أخوين. فهؤلاء من سُمي لنا، ممّن كان رسول الله (ص) آخى بينهم من أصحابه.
وقال ابن اسحاق: فلمّا دوّن عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلىالشام، فأقام بها مُجاهداً، فقال عمر لبلال: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رُويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوة التي كان رسول الله (ص) عقد بينه وبيني، فضمّ إليه،وضُمّ ديوان الحبشة الى خَثعم، لمكان بلال منهم، فهو في خثعم الى هذا اليوم بالشام).
يتبين لنا من هذا العرض الكبير لعقد الإخاء العام بين المسلمين بعضهم وبعض أن هذاالإخاء يرتبط بمعنى العقيدة التي يقررها القرآن الكريم بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة).. فالإسلام دين تجميع وأُلفة. ومن هنا يجيء الإخاء مظهراً من مظاهر الهديالإسلامي الذي يستحق المؤمن عليه ثواب الله ورضوانه. يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (خاتم النبيين).
(ان المقصود من هذه المؤاخاة:
أولاً: عقد الألفة بين الضعيفوالقوي، وتمكين الصحبة بين المؤمنين، وألاّ يتعالى مؤمن على مؤمن.
ثانياً: أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، والقرشيون منهم كانوا من بيوت متنافسة، فكان لا بد منمحو العصبية والدمج بينهم بحكم أخوة الإسلام.
ثالثاً: أن الأنصار لم يكونوا متآلفين فيما بينهم، فكانت على مقربة من هدايتهم العداوة المستعرة الأوار بينهم، بينالأوس والخزرج، فكان لا بد من العمل على نسيانها، وذلك بالمؤاخاة الإسلامية.
رابعاً: أن النبي (ص) عندما عقد عقد المؤاخاة كان يشرع للأمة من بعده هذا النظام الذي يجمعالمسلمين، ولم يكن حكما لحادثة واقعة، ولا علاجاً مقصوراً، على ما بين المهاجرين والأنصار بل هو تأليف للمؤمنين ونظام متبع، وربما تكون الحاجة اليه من بعد أشد وأكبر). ولهذا فإن الأخوة الإسلامية تمتاز على كل أساس يهتدي إليه البشر، لأنها عقيدة قوية تحوي ركائز روحية وإنسانية، لا افتعال فيها ولا تزوير.. ولقد أصبحت هذه الأخوّةالصادقة في المجتمع الإسلامي مقياساً من مقاييس الإيمان يزكو بها العمل وتعلو بها الدرجة.. بل ترقى المحبة في الله والأخوة في الإيمان به حتى تصير أفضل الأعمال وأولاهابالقبول.. يقول الرسول (ص): (أفضل الأعمال الحب في الله).
إن هذا التصور لمنزلة الأخوة في الله يحيط العلاقة في المجتمع المسلم بهالة من نور العقيدة تحميها من الانفصاموتثبتها على الدوام، وتكفل للمجتمع الإسلامي أن يظل بمنأى عن الصراع والمنافسة..
يقول الدكتور مصطفى عبد الواحد في كتابه (المجتمع الإسلامي): (والإسلام يعلنها واضحةفي مجتمعه على لسان رسوله: (لاتؤمنوا حتى تحابّوا).. والقرآن يعلن هذه الحقيقة وحين يبين أن الرابطة التي جمعت بين أبنائه لم تكن صنع قانون يفرض، ولم تُجتلب بغايات ماديةولم تدخل في نطاق المنفعة، بل صدرت عن العقيدة ونبعث من الأخوة، وتلك الآصرة لا تُشترى بشيء من الدنيا ولو كانت كل مافيها من أموال، ولكنها تنبع ببساطة من القلوب المؤمنةحتى تسيطر عليها العقيدة ويدفعها الإيمان.. يقول الله سبحانه: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم).
وهذا ما حدث فيالمدينة فعلاً حين قام أول مجتمع إسلامي بعد هجرة المسلمين إليها، فكانت الأخوة بين المؤمنين الدعامة الاولى التي قام عليها المجتمع.. حيث أفلحت الأخوة في شدهم برباطمتين من المحبة والإيثار.. فقد فتح أهل يثرب الذين اعتنقوا الإسلام قلوبهم لإخوانهم الذين وفدوا من مكة، على غير أرحام بينهم، بعيداً عن نطاق العصبية للقبيلة فقط، واتسعتديارهم وأموالهم وأسواقهم لأولئك الذين هاجروا إليهم.
وهذا الذي قام به الأنصار نحو إخوانهم المهاجرين لم يصدر عن طبع أو كرم اعتاده العرب نحو من ينزل عليهم، ولكنهصدر عن إدراك لعلاقة جديدة أنشأها الإسلام بين أتباعه، هي أن المسلم أخو المسلم، وأن لتلك الأخوة حقوقاً تقتضيها، ليست عاطفة مجردة، بل هي تنظيم عملي للمجتمع الجديديربط بين الأفراد برباط وثيق..
ولذا لم يتحرج المهاجرون من بقائهم في ديار الأنصار ومن اعتمادهم على عونهم فترة من الزمان، فقد قضت الأخوة على التقاليد الجاهلية التيلاتعرف ارتباطاً إلا بالقبيلة ولا تأوي إلا إلى العصبية والنسب.
المصدر:الاخوة والحب في الله