محمد حسين فضل الله
تجربة الأغراء الكبرى
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب) في عملية هجوم عاطفي يوحيإليه بأجواء الإغراء، ويحرّك فيه مكامن الشهوة، ويمنع عنه طريق الهروب، ولعل في التعبير بأنه في بيتها إيحاءً بالجو الضاغط الذي يحيط به، لتوفره على الاختلاط والسيطرةاللذين يسهّلان مهمة السقوط. (وقالت هيت لك) في صوت يشبه الفحيح المحموم الذي يخرج من أعماق الغريزة، فقد استعدت كل الاستعداد الروحي والشعوري والجسدي لهذا الموقف،واعتبرت الحصول على ما تريده حالةً طبيعيّةً، ومهمةً سهلةً لا تحتاج إلا إلى طلب الاستجابة من يوسف، ولهذا كانت الدعوة بهذا الأسلوب الذي يختصر الموقف في كلمة مشبعةبالرغبة الحميمة 'هلم إليّ'، ولكن يوسف كان في عالمٍ آخر، فهو لا يعيش الاستغراق في عالم الحس وتحقيق الارتواء الغريزي، كقيمة إنسانية حيوية يستهدفها الشباب عموماً، بليعيش لنداء الروح، في ما تنطلق به من روحية الإيمان، وإحساس الوفاء، فهو لا ينظر إلى ما في داخله من أشواق الحسّ، بل يتطلع إلى ما في روحه من آفاق السموّ نحو الله، وهذا ماعبّر عنه في كلمته التي صوّرها الله لنا بقوله: (قال معاذ الله) في كلمة مؤمنة موحية تعبّر عن الرفض الحازم من جهة، وعن اللجوء إلى الله، والاستجارة به من هذا النداءالشّبِق المفعم باللهفة والإغراء، الذي يكاد يفترس منه روح الطهر، ويدفعه إلى العهر والفجور.
***
مواجهة الإحسان بالإحسان
ثم انطلق ليتحسّس المسألة من جهةأخرى، وهي مسألة الوفاء لسيده الذي أحسن مثواه، فكيف يمكن أن يخونه في زوجته؟ إنه لو فعل ذلك فسوف يحس بالاحتقار لنفسه، كما يحس أيّ خائن، (إنه ربي) الذي رباني بما تتضمنهالكلمة من معنى التربية والرعاية والسيادة، (أحسن مثواي) في ما أعدّه لي من منزلٍ وإحسانٍ وحريّةٍ وراحةٍ، فلابد من أن أواجه الإحسان بالإحسان، فلا أظلمه بالإساءة إليهوخيانته مع زوجته، لأن ذلك لن يحقق لي النجاح والفلاح في عواقب الأمور، (إنه لا يفلح الظالمون) الذين يظلمون أنفسهم بالمعصية، ويظلمون غيرهم بالخيانة، لأن النتائج لنتكون في صالح دنياهم أو أخرتهم.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى إنّ الحديث عن الله لا عن سيِّده، فقد استعاذ يوسف به من الخضوع لإغراء الشهوة، ثم عبّر عن إحساسه بنعمة اللهبالمستوى الذي يردعه عن الاندفاع للخيانة، ولهذا كان من المناسب إثارة جانب الاحترام الذي يشعر به يوسف تجاه سيّده، وربما كان التعبير بكلمة (ربي) متعارفاً في الحديث عنالسيّد المالك في ذلك المجتمع، كما أن كلمة (أحسن مثواي) قد تكون أقرب إلى علاقة يوسف بزوجها الذي رعاه وحماه من التشرّد والضياع الذي يعاني من العبيد عادة بالانتقال فيأسواق النخاسة من مالك إلى مالك، ومن بلد إلى بلد، بينما كان ليوسف في قلب هذا الإنسان موقع الولد، كما عبّر (أو نتخذه ولداً) وإن لم يصل ذلك إلى مستوى التبني، ولو كانالحديث عن الله لكان من المناسب الحديث عن النعم الكبيرة التي تتصل بوجوده وخلقه ورعايته في كل الأمور.
أما عدم تقدّم ذكره، أو قرب ذكر لفظ الجلالة من موقع الضمير،فليس بشيء يحقق الظهور لما يريدونه، لأن الحديث عنه قد تقدّم في قوله، (وقال الذي أشتراه) كما أن جوّ الحادثة يوحي به بشكل بارز، فإن الموقف من الزوجة التي تريد خيانةزوجها يبعث على التفكير بالزوج بطريقةٍ طبيعيةٍ، تماماً كما لو ذكر باللفظ.
إنها ملاحظات قد ترجّح الوجه الذي نستقر به، والله هو العالم بحقائق آياته.
***
ولقدهمت به.. وهمّ بها
(ولقد همت به) في اندفاعها نحوه، من أجل أن تحتويه بكل ما لديها من عاطفة وشهوة وإغراء في حركة ضاغطة، مشبوبة من موقع الضعف الأنثويّ الغريزيّ الذي لايرتكز في الجانب الآخر من الشخصية على قاعدة من العقل والإيمان اللذين يمكن لهما أن يحقّقا حالةً من التوازن والانضباط. وهكذا رأت أن الظروف الصعبة التي يعيشها هذاالغلام الجميل الذي وضعته الأقدار تحت سلطتها، تساعدها على تحقيق أغراضها الغريزية منه، فيستسلم لسلطتها وإغرائها (وهم بها) في حالة شعورية طبيعية، يتحرك فيها الإنسانغريزياً من دون تفكير، لأنّ من الطبيعي لأيّ شاب يعيش في أجواء الإثارة أن ينجذب إليها، تماماً، كمن تتحرك غريزة الجوع في نفسه بكل إفرازاتها الجسدية عندما يشمّ رائحةالطعام، وهذا أمر يلتقي فيه المؤمن بغير المؤمن، لأنه من شؤون الاحساسات الغريزية للجسد، ولكن القضية تتناول الموقف الذي يحدّد للإنسان شخصيته من مواقع الإيمانوالالتزام، أو مواقع الكفر والانفلات. وهكذا نتصور موقف يوسف، فقد أحسّ بالانجذاب نحوها لا شعورياً، وهمّ بها استجابةً لذلك الإحساس، كما همّت به، ولكنه توقّف وتراجع،ورفض الحالة بحزم وتصميم، لأن موقفه ليس متعمداً، كما هو موقفها، ليندفع به نحو النهاية، كما اندفعت هي، ولكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي، والاندفاعالغريزيّ.
***
الموقف اليوسفي
إنها لحظةٌ من لحظات الإحساس، عبّرت عن نفسها ثم ضاعت وتلاشت أمام العقيدة الراسخة، والقرار الحازم المنطلق من حساب دقيق لموقفهمن الله لو أطاع إحساسه، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: (لولا أن رءا برهان ربه) في ما تعنيه كلمة البرهان من الحجة في الفكرة التي توضح الرؤية، وتكشف حقيقة الأمر، فيحسّ،بعمق الإيمان، أنه لا يملك أيّة حجةٍ في ما يمكن أن يُقدم عليه، بل الحجة كلها لله، وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطانتذكروا فإذا هم مبصرون) (سورة الأعراف/ 201). وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة (وهم بها) لكلمة: (بلغ أشده) فقد اندفعت إليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء، فحركت فيه قابلية الاندفاع،وكاد أن يندفع إليها لولا يقظة الحقيقة في روحه، وانطلاقة الإيمان في قلبه، وبذلك كان الموقف اليوسفيّ، انجذاباً وتماسكاً وتراجعاً مستوحىً من الكلمة ومن الجوّ الذييوحي به السياق معاً(1).
***
هل في الآية ما ينافي العصمة؟
لقد تحدث المفسّرون كثيراً عن تأويل هذه الفقرة لما لها من علاقة بعصمة يوسف، معتبرين أنه قد لا يكوننبياً آنذاك، ولكن رأي الكثيرين، أن العصمة تسبق النبوّة، كما تلحقها أو ترافقها، ويرى بعض آخر أن النبي إذا لم يكن معصوماً قبل البعثة، فمن الطبيعيّ أن يكون ذا مناعةأخلاقية لا تسقط أمام أيّة حالة من حالات الإغراء، لأن مسألة النبوّة ليست وظيفة تتعلق بالدعوة، بل هيّ مسألة تتصل بالعمق المتأصّل في روحية النبيّ من قوّة الشخصيةتؤهله للقيام بمهمّة تغيير العالم.
هذا بالإضافة إلى شهادة الله له، بأنه من عباده المُخلَصين في آخر الآية، مما يفرض أن يكون الإخلاص لله في العبودية، سرّاً مركوزاًفي شخصيته، لا حالةً طارئةً عليها.
ولكننا في الوقت الذي نلتقي مع هؤلاء في جوّ الفكرة، مع بعض التحفظات في تفاصيلها، نعتقد أن العصمة، أو المناعة الروحية، أو القوةالأخلاقية، لا تتنافى مع الحالة الإنسانية التي تخضع لعوامل التأثر الطبيعيّ الإنساني بالرغبة والرهبة، بل إن كل ما تؤمنه، هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخطالمستقيم، فلا ينحرف في موقف، ولا يسقط في تجربة، أما التهاويل والخطرات، والمشاعر، فهي أمورٌ طبيعية، لذلك فلا مجال لإثارة الشبهة حلة موقف يوسف، كما يظهر في الآية،مما يدفع إلى كثير من التأويل والتكلُّف الذي يبتعد عن المضمون الحقيقي لها.
***
يوسف عليه السلام ينصرف عن السوء
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) بما يلهمهالله لعباده من فكر، وما يثير فيهم من شعور ويفتح لهم من أفق، بهدف عصمتهم من السقوط أمام التجربة، أو الانحراف أمام الإغراء، ليستقيم لهم الدرب في الأفق الواضح، فيحصلواعلى ثقة الأمة، في مواقع الصدق في القول والعمل، لتلزم بما يأمرون أو ينهون عنه، من موقع الثقة، وهذا ما أراد الله ليوسف أن يبلغه، من خلال رؤية البرهان الإلهي الذياستطاع أن يعصم موقفه، ويضبط مشاعره الحسية، (إنه من عبادنا المخلصين) الذين أخلصوا لله الإيمان، فاقتربوا من وحيه، والتزموا بشريعته، وانسجموا مع هداه، فرعاهم اللهواحتضن روحهم وفكرهم، وحياتهم العامة والخاصة. ولا بد لنا أن نثير في هذا المجال، أن الصرف عن السوء والفحشاء، ليس أمراً بعيداً عن حرية الإرادة والاختيار، بل هو قريبٌمنها كل القرب، لأن الله لم يجبره على الابتعاد عن المعصية، بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكلٍ تلقائيّ وعفويّ.
الهامش
ـــــــــ
(1) والحقيقة أن ماذهبنا إليه هنا من تفسير لقوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رءا برهان ربه...) ليس مما نتفرد به،إذ ذهب إليه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في تبيانه. فقدذكر ـ رضوان الله عليه ـ من معاني الهم: 'الشهوة وميل الطباع، يقول القائل في ما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه: هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إليّ. وروي هذا التأويل فيالآية عن الحسن، وقال: أما همها، وكان أخبث الهم وأما همه، فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، وإذا احتمل الهم، هذه الوجوه، نفينا عنه (ع) العزم على القبيح، وأجزنا باقيالوجوه لأن كل واحدٍ منها يليق بحاله...). (الطوسي، أبو جعفر، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج: 6 ص: 121). والأمر عينه ذهب به إليهأيضاً السيد المرتضى (ره) في كتابه 'تنزيه الأنبياء'، وذلك في معرض تعليقه على المعاني المتعددة لكلمة 'الهم'، قائلاً: 'فإذا كانت وجوه هذه اللفظة' (أي الهم) مختلفة متسعةعلى ما ذكرناه، نفينا عن النبي ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه، لأن كل واحدٍ منها يليق بحاله (راجع تنزيه الأنبياء ص: 73،75).
المصدر: تفسير من وحي القرآن