الزّكَاة
الامام الشافعي 1- الإسلام دين التعاون والتكافل:
إنَّ الإسلام تنظيم كامل وشامل، أكرم الله الإنسان وشرَّفهبه؛ لكي يعيش أياماً سعيدة في حياته على هذه الأرض، وسعادته إنَّما تتم بأن يهتدي إلى هويته أولاً، فيعرف أنه عبدٌ مملوك لإِله واحد متَّصفٍ بكل صفات الكمال هو الله عزَّوجلَّ، ثم بأن تتحقق من حوله أسباب عيش كريم يمكِّنه من ممارسة عبوديته لله عز وجل. ولا تتوفر للإِنسان أسباب عيش كريم إلاَّ عن طريق التعاون والتكافل، على أساس منالاحترام المتبادل، ودون أن يكون ذلك ذريعة بيد أحد لظلم أو استغلال. والإسلام ـ من دون الشرائع الوضعية كلِّها ـ هو التنظيم الذي يحقِّق هذه الحاجة الأساسيةوالخطيرة للإِنسان، في التئام مع فِطْرته وتصعيد لمزاياه ونفسيته.
وهو يحقق هذه الحاجة من خلال نظام متكامل يبدأ بتقويم العقيدة، ثم تقوم النظرة إلى الكون والحياة،ثم تقويم الخُلُق، ثم وضع الضوابط المنظِّمة والمقوِّمة للسلوك، ثم تغذية ذلك كلِّه والدخول تحت سلطانه باقتناع وطواعية.
وليست شريعة الزكاة إلاّ ضابطاً من جملةالضوابط الكثيرة التي شرعها الله تعالى لتقويم السلوك الإنساني بما يتلاءم مع شروط السعادة للمجموعة الإنسانية بوصفها التركيبي المتآلف، وبوصفها أفراداً ينشد كل منهمكرامته وسعادته الشخصية في هذه الحياة.
إنَّ وظيفة الزكاة ـ في نظرة كليَّة شاملة ـ هي مراقبة الدَّخْل الفردي أن لا يطغى في نموّه على ميزان العدالة بين الأفراد، وأنيظل نموُّه خاضعاً لأساس الاكتفاء الذاتي للجميع، نلاحظ هذا في قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين كان يرسلهم إلى المدن والقبائل: 'ادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إلهإلاَّ اللهُ وأنَّي رسولُ الله،... فإنْ هم أطاعوا لذلك فأَعلِمْهم أنَّ اللهَ قد أفتَرَضَ عليهم صَدَقةً تُؤْخَذُ من أغنيائهم فَتُرَدُّ على فُقرائهم'. أخرجه البخاري(1331) ومسلم (19) وغيرهم.
وهكذا الشريعة الإسلامية، لا تَكِلُ الفرد إلى جهده وطاقته الشخصية وحدها في تدبير أمر نفسه وتوفير أسباب اكتفائه، كما لا تَكِلُه إلى ضميرهالإنساني وحده في مدِّ يد التعاون العادل والتناصر الإنساني إلى أيدي إخوانه؛ بل إنَّها تُرسي القواعد والنُّظُم التي تمدُّ جهد الفرد ونشاطه الذاتي بعون يضمن له كرامةالعيش ومستوى الاكتفاء، وترسي التشريعات الكافية لمراقبة الضمير الفردي أن لا يتمرَّد وتطغيَه نوازع البَغْي والأنانية، ولضبطه ضمن خطِّ العدل والاستقامة مع الآخرين.ولسوف تبدو لك هذه الحقيقة إن شاء الله تعالى من خلال سيرك في معرفة أحكام الزكاة، وكيفية جمعها وسُبُل توزيعها، وما إلى ذلك من الأحكام المتعلِّقة بهذا الركن الإسلاميالعظيم وذي الأهمية البالغة.
2-معنى الزكاة:
الزكاة: مأخوذة من زَكَا الشيء يزكو، أي زاد ونما، يقال: زَكَا الزرعُ وزَكَت التجارة، إذا زاد ونما كلُّ منهما. كماأنّها تستعمل بمعنى الطهارة، ومنه قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) (سورة الشمس/9) أي من طَّهرها ـ يعني النفس ـ من الأخلاق الرديئة.
ثم استعملت الكلمة ـ في اصطلاح الشريعةالإسلامية ـ لقَدَر مخصوص من بعض أنواع المال، يجب صرفه لأصناف معيّنة من الناس، عند توفر شروط معيّنة سنتحدث عنها.
وسُمِّي هذا المال زكاة؛ لأنَّ المال الأصلي ينموببركة إخراجها ودعاء الآخذ لها، ولأنها تكون بمثابة تطهير لسائر المال الباقي من الشبهة، وتخليص له من الحقوق المتعلقة به، وبشكل خاص حقوق ذوي الحاجة والفاقة.
3-تاريخ مشروعيتها:
الصحيح أنَّ مشروعية الزكاة كانت في السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قُبَيْلَ فرض صوم رمضان. 4- حُكْمها ودليلها:
الزكاة ركن من أهم الأركان الإسلامية، ولها من الأدلة القطعيَّة في دلالتها وثبوتها ما جعلها من الأحكام الواضحة، المعروفة من الدين بالضرورة، بحيث يكفر جاحدها: فدليلها من الكتاب: قوله تعالى: (أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة) (سورة البقرة/ 43). والأمر بها مكرّر في القرآن في آيات كثيرة، كما ورد ذكرها في اثنين وثلاثين موضعاً. ودليلها من السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم 'بُنيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة،والحج، وصوم رمضان'. رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفق عليه ـ والذي مرّ ذكره ـ لمعاذٍ رضي الله عنه، عندما أرسله إلىاليمن: '... فإنْ هُمْ أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أنَّ الله قد افتْرض عليهم صَدَقةً تُؤخذ من أغنيائهم فتُردُّ على فقرائهم'.
والأحاديث في هذا كثيرة أيضاً.
5- حكمتهاوفوائدها:
للزكاة حكم وفوائدها كثيرة يصعب حصرها جميعاً في هذا الكتاب الموجز، وهي في جملتها تعود لصالح المعطي والآخذ، لصالح الفرد والمجتمع، وإليك بعض هذه الحكموالفوائد: أولاً ـ من شأن الزكاة أن تعوِّد المعطي على الكرم والبذل، وأن تقتلع من نفسه جذور الشحِّ وعوامل البخل، وخصوصاً عندما يلمس بنفسه ثمراتِ ذلك، ويتنبَّه إلىأن الزكاة تزيد في المال أكثر مما تنقص منه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: 'ما نَقَصتْ صَدَقَةٌ من مال' مسلم: (2588). وكيف تنقصه؟! والله سبحانه يبارك له بسببالصدقة بدفع المضرّة عنه وكفِّ تَطَلُّع الناس إليه، وتهيئة سُبُل الانتفاع به وتكثيره، إلى جانب الثواب العظيم الذي يترتب على الإنفاق ابتغاء مرضاة الله عز وجل. ثانياً ـ تقوِّي آصِرة الأخوّة والمحبَّة بينه وبين الآخرين، فإذا تصوَّرتَ شيوع هذا الركن الإسلامي في المجتمع، وقيام كل مسلم وجبت الزكاة في ماله بأداء هذا الحقلمستحقيه، تصوَّرتَ مدى الألفة التي يتكامل نسيجها بين فئات المسلمين وجماعاتهم وأفرادهم، وبدون هذه الألفة لا يتم أي تماسك بين لَبنات المجتمع، الذي من شأنه أن يكونمتماسكاً قوياً كالبنيان، بل أن يكون متعاطفاً متوِادداً كالجسد الواحد.
ثالثاً ـ من شأن الزكاة أن تحافظ على مستوى الكفاية لأفراد المجتمع، مهما وجدت ظروف وأسبابمن شأنها تغذية الفوارق الاجتماعية، أو فتح منافذ الحاجة والفقر في المجتمع.
إنَّ الزكاة تعتبر بحقٍّ الضمانة الوحيدة لحماية المجتمع من أخطار الفوارق الاجتماعيةالكبيرة بين أفراد الأمة، وأسباب الفقر والحاجة.
رابعاً ـ من شأن الزكاة أن تقضي على كثير من عوامل البطالة وأسبابها، فإن من أهم أسبابها الفقر الذي لا يجد معه الفقيرقدراً أدنى من المال، ليفتح به مشروع صناعة أو عمل. ولكن شريعة الزكاة عندما تكون مطبقة على وجهها، فإن من حق الفقير أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه للقيام بمشروع عمل،يتلاءم مع خبراته وكفاءته.
خامساً ـ الزكاة هي السبيل الوحيد لتطهير القلوب من الأحقاد والحسد والضَّغائن، وهي أدران خطيرة لا تنتشر في المجتمع إلاّ عندما تختفي منهمظاهر التراحم والتعاون والتعاطف، وليست هذه المظاهر شعارات من الكلام، وإنما هي حقائق ينبغي أن يلمسها الشعور، وأن تتجلَّى ثمارها ملموسة بشكل مادي في المجتمع، فإذاطُبِّقت الزكاة على وجهها برزت هذه ثمارها جليّة واضحة، وفعلت فعلها العجيب في تطهير النفوس من جميع الأحقاد والضغائن، وتآخى الناس على اختلاف درجاتهم في الثروةوالغنى، وصدق الله العظيم إذ يقول: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (سورة التوبة/ 103).
المصدر الفقه المنهجي على مذهب الشافعي (ره)