الرسول (ص) يعلن دعوته
(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين * الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوفيعلمون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر/ 94 ـ 99.
تتحدّث هذه الآيات المباركة عن بدء المرحلةالعلنية، والأمر بالانتقال إليها، إنها تصوّر لنا الحدث الانتقالي الخطير، وتوضح لنا جانباً من ظروف الدعوة والعقبات وأساليب المواجهة. فهي تتحدث عن السرية والاستهزاءبرسول الله (ص) وبدعوته وعن تعهد الله بنصرة نبيه، والدفاع عنه، وتثبيته له. كما تكشف عن حب الرسول (ص) لدعوته وتعلقه بها، وضيق صدره مما يخشاه عليها من مقاومة المشركينوالمستهزئين.
لنعود إلى الآيات الأولى التي نزلت عليه قبل ثلاث سنوات وهو مدثّر في راشه، إثر أول خطاب إلهي له وقراءة قوله تعالى: (ولربك فاصبر) المدثر/ 7.
إن العودةإليها والتأمل فيها يوصلنا إلى أن تلك الآيات كانت تصريحاً بما سيلاقيه الرسول (ص) وإعداداً نفسياً له، وبعد ثلاث سنوات من العمل السري يأمره ربّ العزة أن يعلن دعوته،وينتقل من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، ويتحمل تبعات هذا الإعلان والانتقال والمواجهة العقائدية والحضارية الصريحة، ويتحدّى طغاة عصره.
قال عبيدالله بنعلي الحلبي: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: ((مكث رسول الله (ص) بمكة بعدما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين، مختفياً خائفاً لا يظهر، حتى أمرهالله عزوجل أن يصدع بما أمره به فاظهر حينئذ الدعوة)).
وجاء في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة، أن عبدالله بن مسعود قال: ((ما زال النبي مستخفياً حتى نزل اصدعبما تؤمر، فخرج هو وأصحابه)).
ويتحدث المؤرخون عن كيفية إعلان الرسول (ص) لدعوته، ومفاجأته لقريش، وتحدّيه لكبريائها وصلفها، ذكروا أن النبي (ص) خرج هو وأصحابه، وكانعددهم يومذاك أربعين شخصاً خرجوا على شكل تظاهرة إعلامية منظّمة لم يألفها العرب آنذاك، فقد انتظموا في صفّين إثنين واخترقوا طرق مكة وسككها.
وروى اليعقوبي:
إنرسول الله 0ص) أقام بمكة ثلاث سنين يكتم أمره وهو يدعو إلى توحيد الله عزوجل وعبادته والإقرار بنبوته، فكان إذا مرّ بملأ من قريش قالوا: إن فتى ابن عبدالمطلب ليكلّم منالسماء، حتى عاب عليهم آلهتهم، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفاراً، ثم أمره الله عزوجل أن يصدع بما أرسله، فأظهر أمره وأقام بالأبطح فقال: ((إني رسول الله أدعوكم إلىعبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت))، فاستهزأت منه قريش وآذته.
فكانت المفاجأة التاريخية الكبرى،والعمل الإعلامي المذهل، الذي ملأ نوادي قريش وأحاديث العرب واجتماعاتها، فلفت الأنظار إلى تلك الدعوة، واستقطب الاهتمام والرأي العام باتجاه هذه الانطلاقة التوحيديةالرائدة.
إن دراسة تاريخ الدعوة والأساليب التي اتّبعها الرسول الحكيم (ص) ترسم أمامنا ا لنهج والأسلوب العملي للدعاة في كل زمان ومكان، وتكشف لنا أن السريّة تكونواجبة، إذا كانت هناك ضرورات تدعو إلى السريّة، وإن هناك أخطاراً تحيط بالدعوة ودعاة الإسلام، فعندئذ يحرم على العاملين الإسلاميين أن يكشفوا عملهم ونشاطهم لأعداءالإسلام الذين يتربصون بهم الدوائر، ويسعون للقضاء عليهم، أو يكشفوه لمن لا يؤمنونه عليه.
أما المرحلية والتدرّج في الدعوة والتبليغ التي سار عليها الرسول الكريم (ص)والقرآن الحكيم في تبليغ الأحكام والنزول التدريجي، خلال ثلاث وعشرين سنة فإنها سنّة كونية من سنن الله تعالى، فالتغيير وبصورة خاصة التغيير الجذري الشامل، كالتغييرالإسلامي الكبير، يحتاج إلى مسيرة مرحلية متدرجة، يتحقق فيها الإعداد والتكامل التدريجي لتعذّر التغيير المفاجئ، وعدم تهيئ الوضع لانفسي والفكري والاجتماعي له.