ادموند بيرك / ترجمة محروس سليمان
العامل الإسلامي في الثورات (الجزائر نموذجاً)
لقد ركز هذا التحليل إلىحد بعيد على ما يمكن أن نعتبره شروط الحد الأدنى الضرورية لإشعال الثورات. وأبرز الاعتماد على التبادل في السوق في مجتمع كان مؤسسا في الغالب على الاكتفاء الذاتي الكامل،الفعالية السياسية التعويضية في حالة تهديد هذا الاعتماد، ومن ثم فيمكن أن نحدد بدقة إلى أقصى حد شروط الحد الأدنى لقيام الهبات المسلحة في الجزائر خلال النصف الثاني منالقرن التاسع عشر. ومهما يكن، فإن الشخصيات الدينية هي التي كانت تتولى تنظيم الثورة على نحو كامل أو جزئي، كما كانت تتولى قيادتها. وفي الواقع، قد تتخذ هذه الشخصياتالدينية مطلبا دنيويا كنقطة انطلاق لها من أجل حرية العمل السياسي كتعويض عن الاعتماد الاقتصادي (التبادل في الأسواق) الذي لا مفر منه والذي خلقته ظروفهم المحددة، غير أنهؤلاء المنظمين والقادة الدينيين كانوا يطمحون إلى تحقيق الكثير، أي أنهم كانوا يرمون تقريباً وبشكل واضح إلى تحقيق هدف مترابط ككل. وكانت هذه الغاية هي هدف 'الحريةللإسلام' الذي ، لأنه لا يعترف بإلاه سوى الله، فكان يمكن النظر إليه باعتباره قد تعرض للتشويه من طرف الاستعماريين الكفرة. ولن يصبح التحليل في هذه الورقة كاملا إلا إذاأدركنا العلاقات بين الأحوال الاجتماعية الاقتصادية والهدف الديني.
وكما هو معروف جيدا، فإن فكرة تحرر الإسلام من السيطرة الكافرة كانت جزءا من المجموعة الكاملةالموروثة من الأخلاق والشريعة الإسلامية الكلاسيكية. والمفهوم المركزي في هذه المجموعة وبالتالي لسلطة الله العليا والمطلقة، كان مفهوم التكافل بين الإخوة في الإيمان.وكان مفهوم الإخاء الإسلامي في الجزائر الزراعية في بواكير العصر الحديث يتجسد في مؤسسة 'الزاوية'، وهي المركز المشترك للتعليم والصلاة والحج والخلوة الصوفية والعلاج.وكان للإخاء الإسلامي معنى عالميا انعكس في التسامح الذي برز عن طريق ما يمكن أن نطلق عليه 'التعايش العالمي للعديد من الزوايا'، والذي يحدث أحيانا فقط أن ينتهك هذاالمفهوم عن طريق أن يدعو التابعون لأحد 'الأولياء' إلى تصور وحيد للإخاء الإسلامي.
وتحولت 'الزوايا' في بعض الحالات بوضوح من حشود عالمية إلى مواقع مقصورة على تمثيلحركات الهبات المسلحة، كما في حالة 'سي الصديق' و 'الحداد' و 'بوعمامة'. وأصبح الإخاء هو فقط بوضوح الذي يُعبر عنه بأسلوب التصور الوحيد الذي كان قادراً على حشد أصحابالمصالح والقوى البشرية للسعي وراء تحرير الإسلام من الكفر.
وفي سياق جزائر القرن التاسع عشر، كان مفهوم العالمية مرتبطا بالدين، بالرغم من أنه لم يكن التفسيرالعالمي، بل كان التفسير النموذجي على وجه الحصر الذي كان يوظف من أجل هدف الثورة. وكان مفهوم العالمية أقدم عهدا من الإسلام إلى حد كبير، وفي الواقع، أقدم عهدا حتى من كلالديانات السماوية. وهو يرجع إلى ما قبل إمبراطورية الفرس والإمبراطورية الإغريقية، فهو مفهوم يرجع إلى العالم الذي كان يشتمل على الممالك التي كانت تحمل اسم الأسراتالحاكمة في مصر وما بين النهرين. وفي الواقع، لم يكن مفهوم العالمية النموذجي على وجه الحصر، والذي اتخذ شكل الحركات السياسية مفهوما دينيا في الأصل، بالرغم من أنالعالمية والوحي كانا في تحالف حميم على نحو واضح خلال التطور التاريخي. وما أن يعرف ثانية الوضع المستقل لمفهوم العالمية كنتيجة لإشاعة النزعة العلمانية في العصرالحديث، حتى يرتبط المفهوم من جديد بالمفاهيم غير الدينية، والتي كان من بينها مفهوم الأمة وهو أكثرها نجاحا. إن الحركات التي كانت تزعم تمثلا أحادياً لمجموع السكان فيإقليم محدد والذين يشتركون في ميراث ثقافي معين، كانت قد ظهرت مُذكرة بممالك عالم موغل في القدم. وعلى الرغم من العقيدة الدينية، كانت العالمية مفهوما غير ديني، بحيث كانيمكن أن تستخدمه كل من الهبات المسلحة الدينية، وكذلك الحركات الوطنية العلمانية في جزائر القرنين التاسع عشر والعشرين.
وكان أمراً طبيعيا أن تظهر إلى الوجود مجموعةجديدة من شروط الحد الأدنى التي تتجاوز الإقليمية، قبل أن يصبح إعلان هدف الاستقلال الوطني في الجزائر أمراً ممكنا. وكان على حرية اختيار العمل السياسي في المناطقالإقليمية الجبلية أو الصحراوية في القرن التاسع عشر، تعويضا عن الاعتماد الاقتصادي على السهول، أن يفسح المجال، على الأقل جزئياً أمام الاندماج في سوق وطنية، وأمامالتطلع إلى المكاسب التي يمكن أن تترتب على هذا الاندماج. إن هدف الاستقلال الوطني والاندماج يكون أمرا مفهوما فقط بلغة شروط الحد الأدنى الجديدة والتي نشأت من بنيةالسوق الموحدة، علاوة على ذلك فهناك أسس كي نفترض أن النزعة الإقليمية التقليدية في الجبال عملت كشرط حد أدنى وظيفي فعال في حرب الاستقلال إلى جانب اندماج السوقالوطنية.
المصدر : الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية