روايات التجسيم والرد عليها
* د. احسان الأمين
قامت عقيدة التوحيد على أساس تنزيه الله تعالى عن صفات المادّة ،وهو «واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك ويُصوِّر ما يشاء وليس بمصوَّر ، جلّ ثناؤهوتقدّست أسماؤه وتعالى عن أن يكون له شبيه ، هو لا غيره ، ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير» .
إلاّ أنّه توافرت هناك بعض الروايات ـ في كتب التفسير بالمأثور عندالجمهور ـ الّتي جعلت صفات الجوارح والأجسام لله سبحانه وتعالى ، وهي متفرعة على مسألة الرؤية ، وشكّلت هذه الروايات أساساً لاثبات الصفات لله ـ تعالى عن ذلك ـ وأنّ لهيداً وعيناً ويدين وأعيناً.
وعدّ ابن تيمية «مذهب عامّة السّلف ، ومذهب أئمّة الدِّين ، بل أئمّة المـتكلِّمين ـ القول ـ بثبوت الصفات الخبرية في الجملة» ، إلاّأنّهم يثبتون الصفات بلا كيف إلا بعض الحشوية الذين يجرون الصفات على ظواهرها.
والأحاديث المرويّة في تلك المعاني كثيرة إلاّ أننا سنتعرض هنا لبعض الروايات الواردةفي التفسير كنماذج لما ذكرناه :
1 ـ في تفسـير قـوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَـفُ عن سـاق ويُدْعَونَ إلى السّجودِ فَلا يَسْتَطِيعُون ) (القلم / 42) .
قال السيوطي : أخرجالبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد : سمعت النبيّ (ص) يقول : «يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدُّنيا رياءً وسمعةً فيذهبليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» .
كما روى عن أبي هريرة عن رسول الله : «يكشف الله عزّ وجلّ عن ساقه» ، وعن ابن مسعود ، قال : «عن ساقيه تبارك وتعالى» .
وفي مقابل هذهالروايات المشوبة بالوضع ، نجد روايات اُخرى صحيحة عن ابن عباس ، قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنّه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : أصْبِرْ عِناق
انّهُ شَرٌّ باق
قَد سنّ لي قو
مكَ ضرب الأعناق
وقامَت الحربُ بِـ
ـنا على ساق
قال : هذا يوم كرب وشدّة .
وفي روايات اُخرى عنه :هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة .
وعنه : عن شدّة الآخرة .
كما روي عن سعيد بن جبير أنّه سئل عن قوله تعالى (يَوْمَ يُكشفُ عَن ساق) فغضب غضباً شـديداًوقال : إنّ أقواماً يزعمون أنّ الله يكشف عن ساقه ، وإنّما يكشف عن الأمر الشديد .
2 ـ في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ نَقولُ لِجهنّمَ هَلِ امْتَلأتِ وتقولُ هَلْ مِنمَزِيد) (ق / 30) .
قال الطبري : «وأمّا قوله (هَلْ مِن مَزيد ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم : معناه : ما من مزيد . قالوا : وإنّما يقول الله لها : هل امتلأتبعد أن يضع قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط من تضايقها ... » .
وروى بسنده عن ابن عباس أنّه لا يُلقى في جهنم شيء إلاّ ذهب فيها ولا يملأها شيء ، قالت : ألستَقد أقسمت لتملأني من الجنّة والناس أجمعين ، فوضع قدمه ، فقالت حين وضع قدمه فيها : قد قد ، فإنِّي قد امتلأت فليس لي مزيد ...
وفي رواية اُخرى : أتاها الربّ فوضع قدمـهعليها ، ثمّ قال لها : هل امتـلأت يا جهنم ؟ فتقول : قط قط ، قد امتلأت من الجن والانس فليس فيّ مزيد . قال : ولم يكن يملأها شيء حتّى وجدت مسّ قدم الله تعالى ذكره فتضايقت فمافيها موضع إبرة .
ثمّ روى عن أنس وأبي هريرة روايات اُخرى بنفس المعنى . وقد أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس وأبي هريرة .
وزاد السـيوطي ـ بعد ذكر ما سبق ـروايتين عن أُبيّ بن كعب عن رسول الله (ص) ، وفي إحداهما : وجهنم تسأل المزيد حتّى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط . وفي الاُخرى: حتّى يضع فيها ربّ العالمينما شاء الله أن يضع فتقبض وتغرغر ، كما تغرغر المزادة الجديدة إذا ملئت وتقول قط قط .
- رأي المفسِّرين الشيعة في روايات التجسيم:
ردّ المفسِّرون الشيعة الرواياتالمذكورة لمخالفتها نصّ الكتاب وعقيدة التوحيد القائمة على تنزيه الله تعالى عن صفات المادّة ، فقالوا ما يلي في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عن ساق ويُدعـونَإلى السجودِ فَلا يَسْتَطِيعُون ) (القلم / 42) .
الطوسي : قال : «وقوله (يوم يُكشف عن ساق ) قال الزجاج : هو متعلق بقوله (فليأتوا بِشُركائِهِم ... يومَ يُكشفُ عن ساق ) وقالابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحّاك : معناه يوم يبدو عن الأمر الشديد كالقطيع من هول يوم القيامة . والساق ساق الانسان وساق الشجرة لما يقوم عليه بدنهاوكل نبت له ساق فهو شجر ; قال الشاعر :
للفتى عقل يعيش به
حيث يهدي ساقه قدمه
فالمعنى يوم يشتدّ الأمر كما يشتدّ ما يحتاج فيه إلى ان يقوم على ساق ، وقد كثر فيكلام العرب حتّى صار كالمثل فيقولون : قامت الحرب على ساق وكشفت عن ساق ; قال ]زهير بن جذيمة[:
فإذا شمّرت لكَ عن ساقِها
فَوَيْهاً ربيع ولا تسأم
وقال جدّ أبيطرفة :
كشفت لهم عن ساقها
وبدا من الشرِّ الصراح
وقال آخر :
قد شمّرت عن ساقها فشدوا
وجدّت الحرب بكم فجدّوا
والقـوس فيها وتر غـرد
قال الطبرسي :«أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الّذي تظهر فيه الأهوال والشدائد . وقيل : معناه يبدو من الأمر الشديد الفظيع ، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ... » ثمّ أوردما نقل عن ابن عباس وغيره في المعنى اللّغوي وقال : «فتأويل الآية يوم يشتدّ الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق» .
وفي بحث اللّغة قال : «وتقول العرب قامتالحرب على ساق ، وكشفت عن ساق يريدون شدّتها ، وقال جدّ أبي طرفة :
كشفت لكم عن ساقها
وبدا من الشرّ الصراح»
وبتبنِّيه للرأي اللّغوي الصحيح في تفسير الآية ،أعرض صفحاً عن الروايات الواردة في تفسير الساق بساق الربّ (تعالى عن ذلك) ، فلم يذكرها لعدم اعتقاده بصحّتها ، فإنّه غالباً ما يذكر في تفسيره للآيات مختلف الرواياتالّتي تحمل وجهاً من وجوه التفسير المعقولة أو المحتملة .
وقال الطباطبائي بعدما ذكر روايات الدرّ المنثور عن البخاري وغيره ، عن النبيّ (ص) : يكشف ربّنا عن ساقه ... ،قال : «والروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية ونصّ الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مؤوّلة» .