محمد الغزالي
سُورَة الإسراءِ
الآية الأولى من هذه السورة تضمنت قصة الإسراء، ثم عاد التاريخ القهقري ليذكر بنى إسرائيل وماعرض لهم أثناء إقامتهم الأولى في فلسطين.
لقد أوتوا التوراة دينا ودولة، والمرتقب منهم ومن أمثالهم إذا أقاموا حكومة دينية أن تكون صورة للنظام لا للفوضى، وللعدالةلا للجور، لكن بني إسرائيل الذين عانوا كثيراً تحت وطأة الاستبداد الفرعوني لم يلبثوا طويلاً حتى جدّدوا سيرة الفراعنة الأولين، فعاثوا في الأرض فسادا، ولم يكن بدٌّ منتأديبهم.
ويشرح القرآن الكريم أن العجز الإداري والخلقي في سلطة بلد ما ينتهي بزوال هذه السلطة، وقدوم آخرين من الخارج ليتولّوا هم الحكم، ويعاقبوا العابثين، قالتعالى: 'وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب' يعني سجلات العلم الأزلي 'لتفسدُنَّ في الأرض مرتين ولتعلُنّ علوا كبيرا. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأسشديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا'.
إن الدولة التي تختلّ أمورها تُحْتَلّ أرضها، وتفقد استقلالها وحريتها...
إن الفساد والاستعلاء لا يتصوران في حكم يقومعلى الوحي وينتسب إلى السماء، ولذلك فإن عقوبة أهله تكون شديدة، استعمار أجنبي يقوم على الإذلال والاضطهاد، حتى إذا استقام المعوج وعاد إلى أدبه واصطلح مع ربه عادت إليهمكانته وكرامته 'ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً'.
وليس ما يقع مكافأة أنهت المأساة. إنه اختبار جديد، وعلى الشعوب أن تعىوترعوى 'إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها...'.
ويظهر أن اليهود أدمنوا المرض، واستمرأوا العلل، فلا تكاد أحوالهم تستقيم عصراً حتى يحنّوا إلى عبثهم ومظالمهم،ويتجدد العقاب، وتتجدد التوبة 'وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً'.
ويقول التاريخ: إن الإفسادة الأولى أعقبها تدمير الآشوريين لدولة اليهود وهدمهم لهيكلسليمان.
ثم قامت الدولة ثانية، وعادت إلى الإفساد فهاجمها الرومان وتكررت العقوبة، وبقى اليهود دهراً طويلاً بلا دولة!!.
ثم شاء الله أن يقلد المسلمون اليهود، وأنيفسدوا دولة الوحي بأهوائهم! وكانت عقوبة القدر هذه المرة أن يقيم بنو إسرائيل دولة على أنقاض العرب الذي تخلَّوْا عن القرآن، واخلدوا إلى الأرض.
والصراع القائماليوم غريب، لأنه بين المسلمين تخلَّوا عن مواريث السماء، واستهوتهم نزعات جنسية!! وبين يهود يرفعون راية التوراة، ويعظمون يوم السبت.
ونعود إلى سورة الإسراء لنلحظفيها أمراً تفردت به، وهو أن كلمة 'القرآن' تكررت نحو إحدى عشرة مرة.
(1) 'إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً'. (2) 'ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا'.
(3) 'وإذ ذكرت ربك في القرآن وحده ولَّوا على أدبارهم نفورا'.
يقول جل شأنه قبل ذلك:
(4) 'وإذا قرأتالقرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً'.
(5) 'وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلاطغياناً كبيراً'.
(6) و(7) 'وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا'.
(8) 'وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً'.
(9) 'قل لئن اجتمعتالإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً'.
(10) 'ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً'.
(11)'وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً'.
إن سورة بني إسرائيل انفردت بهذه الخاصة علّ المسلمين يفقهون أن القرآن الذي صنع أمتهم قديما قدير على أنيصبَّهم في قوالب السيادة والقيادة مرة أخرى، وعلى أن ينتزع من نفوسهم حب الدنيا وكراهية الموت، ويهب لهم قلوباً شجاعة تفتدي الحق وتحرص على لقاء الله!!.
أحياناً يكونالجهل عذرّاً مخففا، أما التجاهل والاستكبار على الحق وإيثار العمى على الهدى فهو ذريعة غضب هائل.
وقديماً سلط الله عبدة الأوثان على بني إسرائيل، لأنهم لم يقدرواكتابهم قدره، فليس عجيباً أن يسلط على المسلمين بعد ما أهملوا القرآن من لا يقيم لهم وزناً أو يعرف لهم حقاً.
وطريق العودة واضح: لابد من عقيدة وشريعة وأخلاق ومعاملاتتتفجر من ينابيع القرآن، ويحيا بها المسلمون من جديد، حياة تجعلهم أمة الوحي، وصلة السماء بالأرض.
والإنسان لا يشبّ في يوم، والحضارة لا تزدهر في شهر، والنتائج تتحققوفق قوانين مضبوطة تتم مع كرّ الغداة ومر العشىّ.
ومهما دعا المؤمن فلابد من الصبر على سنن الله الكونية. 'ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً'. ورعاية للزمان وخضوعاً له جاء الحديث عنه في الآية اللاحقة: 'وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عددالسنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً'.
ومع سير الزمن تقوم دول وتنهزم أخرى، ويعلو أمر اليهود ويسفل، كما أبان الوحي أول السورة، وكذلك تتقلب الدنيا بغيرهم منالناس.
لكن الإنسان هو المسئول الأول عن نفسه، إذا عقل فقد اتخذ القرار السليم، وإن شرد هوى 'من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها ولا تزر وازرة وزرأخرى...'.
وهذا قانون للأفراد والشعوب، وإن كشف القرآن الكريم هنا أن الترف أول مظاهر الفساد في الأمة، وأن المترفين هم الجراثيم الحاملة والناقلة للمرض، وأن مطاوعتهمخطوة إلى الهاوية 'وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول، فدمّرنا تدميراً'.
والحضارات القائمة على الدين تظل معتصمة به، وحاملة لواءهما ظلّت بعيدة عن الترف والمراسم الفارغة، وقسوة القلب.
ويتم لها ذلك إذا حدَّدت موقفها من الآخرة تحديداً واضحا 'من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد'.
ما نشاء لمن نريد!! عبارة صارمة، إن الله لا يُغلَب على أمره، ولا يُنال ما عنده إلا بإرادته، وما يملك أحد عليه شيئاً.. والتدين الكاذب لا يروج عند الله، وليست لأهلهوجاهة، ويقول سبحانه هنا: 'وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح....'.
والحديث عن الأمم السابقة حتى بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما بعد ذلك فقد تحدثت آية أخرى عنمصاير المجرمين 'وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطورا' والكتاب فيما يبدو هو سِجِلُّ العلم الإلهي.. والتحذيرلنا وللناس أجمعين.
ما النجاة من هذه المصاير؟ تسوق سورة بني إسرائيل خلال صفحتين حافلتين جملة من الوصايا العظيمة تعصم الناس من الزلل، وتقودهم إلى الرشد، وتضمن لهمالرعاية الإلهية في الحاضر والمستقبل.
وتبدأ هذه الوصايا بقوله تعالى: 'وقض ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا...'.
وتنتهي بقوله: 'ذلك مما أوحى إليك ربك منالحكمة، ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا' بدأت هذه النصائح بتوحيد الله وختمت كذلك بتوحيده، لأن القلب الذي يعنو لغير الله لا أمل فيه، والاستقامةالكاملة مربوطة بالتوحيد الكامل.
إن للجماعة المؤمنة شارات، يقول الله في الوالدين: 'واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا' ويقول فيالأقارب: 'وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً'.
والتفسير الحق عندي أن المرء لا يجوز له التوسّع في النفقة والاستكثار من الكماليات، فإن ذلكتبذير يحصد ما لديه، ولا يبقى عنده فضلاً يعطيه قريباً أو بعيداً..
وأكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: 'ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسطفتقعد ملوما محسوراً'.
وسياسة تقليل النسل لا تغنى عن الشعوب البليدة شيئاً! يجب أن تلتمس المفاتيح لخزائن الخيرات التي بثها الله هنا وهناك، والسماء لا تمطرالقاعدين ذهبا ولا فضة.. 'ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق'.
ونهى القرآن عن الزنا، والزنا عملة متداولة في الحضارة الحديثة، وهو أفضل من الكبت في مجال التربية عندهم،ولا يعاقب عليه قانوناً ما دام بالتراضي!! والله يقول: 'ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً'.
ومع أن قتل النفس جريمة فالقانون لا يقتل القاتل... وقد حرمت عقوبةالإعدام في دول كثيرة! وأدى ذلك إلى شيوع القتل وسفك الدم الحرام 'ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتلإنه كان منصوراً'.
وأمر الله الناس باحترام مال اليتيم وبالوفاء بالعهود، وبضبط المكاييل والموازين.
ثم ذكر لكل إنسان أنه مسئول عن سمعه وبصره وقلبه، إنه مسئول عنكل شيء فيه، فلا يجوز أن يحيا فوضويا سائبا 'ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً'.
ونهى القرآن أخيراً عن الخيلاء وذهاب المرءبنفسه 'ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً...'.
إن هذه الوصايا تقيم الفرد المؤمن والشعب المؤمن، والحضارة الصالحة، ولن يهزم الله أمة تمسكتبهذه الخلال.
ونظرت في سورة 'سبحان' فإذا الله ـ جل شأنه ـ يخاطب المشركين بحديث عجب: 'ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا. قل لو كان معه آلهة ـ كمايقولون ـ إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهونتسبيحهم إنه كان حليما غفوراً'.
ولست أحقِّقُ هنا: هل تسبيح الكائنات بحمد ربها دلالة حال أو دلالة مقال؟.
إن الكون ـ على أية حال ـ لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بهالحيُّ القيوم!!.
وإذا صعب على مغفل أن يعرف الله، وأن يُقرّ بوحدانيته فلن يضرّ الله شيئاً، فكل شيء يسبح بحمده!.
ومضت السورة تحدث المشركين عن الله الذي هجروه،واتخذوا الأصنام آلهة من دونه، إنهم ذاهلون تائهون، لا يحبون أن يسمعوا حديثاً عنه!.
وهم يحسبون الرسول رجلاً مسحوراً، وهم يعتقدون أنه لا حياة إلا في هذه الدنيا،وتلك طبيعة الدواب! إن الدواب لا تشعر بغد قريب أو بعيد، إنها تعيش يومها وحَسْبُ، هي محبوسة وراء محيطه.
والغريب أن العالم المعاصر لا يدري إلا هذا المنطق، وهو يشيعهفي عالم الفن والغناء، وعالم القانون والفلسفة!! 'وقالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقا جديدا، قل كونوا حجارة أو حديدا. أو خلقا مما يكبر في صدوركمفسيقولون: من يعيدنا؟ قل الذي فطركم أول مرة! فيسنغضون إليك رءوسهم ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً...'والإنغاض: تحريك الرأس علوا وسفلاً إنكارا واستهزاء..
وفي موضع آخر من السورة تكرر رفض المشركين للبعث والجزاء، فبيّن القرآن الكريم أن الإنسان امتاز على الدواببعقله. فإذا فقد هذا العقل نظر ولم ير، سمع ولم يع، ونطق بالباطل، وفقد أهليته لهداية الله، وعَالَنَ بإنكاره لوجوده ولقائه:
'ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجدلهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا. ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا إإذا كنا عظاما ورفاتاأإنا لمبعوثون خلقا جديدا؟ أولم أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا'.
وفي سورة بني إسرائيل لاغرابة أن يوصى الله المسلمين بإحسان القول، فليكن الإحسان في القول والتلطف في الدعوة شيمة الأمة الخاتمة! 'وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إنالشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً'.
وتلت ذلك إشارة إلى أن أمر المسلمين سوف يعلو حتى يرثوا الأرض، وذلك في قوله تعالى: 'وربك أعلم بمن في السموات والأرض. ولقد فضلنابعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا'.
والحق أن التوحيد الذي تميزت رسالة الإسلام بتقريره، وتحمست لإشاعته، يربط الناس بربهم ربطاً شديداً، ويجعل عروتهم بهوثيقة، ويقرر أن كل ما عدا الله عبدٌ له، مقهور في جلاله: 'قل أدعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة،أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذوراً'.
واقتضى المقام هنا حديثاً عن آدم وبنيه! لقد كان آدم جديراً بأن يكون أفضل حالا ومآلا بعدما اصطفاهالله وأعلى شأنه، وأسجد له ملائكته.
وكان بنوه جديرين بأن يكذبوا ظنون إبليس، بعد ما أفاء الله عليهم من نعمائه ما يلهج الألسنة بالشكر 'ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهمفي البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً...' لكن آدم وَهَنَ عزمه، وأبناءه نسوا الجميل الذي يمرحون فيه، فلم يكن من مؤاخذتهم بدٌ، وجاء فيهذا القرآن من شأنهم ما يثير الدهشة، فلنتدبره لنعرف كيف نفعل..؟!
إن الله منحنا العقول لنفكر ونحكم، ونميز الحسن من القبيح والطيب من الخبيث، وما قيمة عقولنا إذا لمنفعل ذلك؟.
وعندما نقول لرجل: واحد وواحد تساوى اثنين، فيقول لك: لا أصدق حتى تنقل الجبل من مكانه، أفترى أن لهذا القائل منطقاً جديراً باحترام؟.
إن محمدا رسولالله بذل جهده في إثبات أن الله واحد، وأن وجوده الأعلى أصدق من كل وجود، فقيل له: بل أصنامنا أولى بالتقدير! وتحدَّوه أن يأتي بمعجزة تصدقه!.
لقد طلب أهل مكة من محمد أنيجعل الصفا ذهبا، حتى يصدقوا رسالته! فكيف إذا حوّل لهم الجبل إلى ذهب ثم ظلّوا على تكذيبهم؟ إنه مهلكهم يقينا، إن اللعب مع السماء لا يسوغ.
وفي سورة 'الإسراء' يقولالله تعالى: 'وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا'.
على أن قريشا لم تطلب خارقة مَّا، بلحددت بضع خوارق عدَّتها عدّاً 'وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت عليناكسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.. قل سبحان ربي! هل كنت إلا بشرا رسولا'.
إنالعناد ملك قلوبهم، وليس الكفر عَرَضا سريعا يمرّ ببعض الناس، إنه مزيج من الحسد والغباء، والطمع والأثرة، والبعد عن الكفر يتطلب عقلا واعيا، وحكما عادلا، وخلقا زاكيا.
ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إمام أولى العزم الذين جاهدوا الضلال الأزمنة الماضية، وهو في الجزيرة العربية لن ينشغل بمآرب كفارها ومقترحاتهم، فرسالته العامةإصلاح الخلل في كل نفس، في أية قارة، إلى أن تقوم الساعة.
ويزيد عبؤه جسامة إلى أنه يعتمد في نجاحه ـ بعد تأييد الله ـ على تحريك العقول وهزّ التقاليد، ومعالجة العوجالبشري بالهوينى، حتى يسلس قياده! ويالها من مهمة!!.
إنهم يطلبون من محمد أن يجعل لهم مكانة خاصة إذا أراد أن يؤمنوا له!!.
وقد ينفق من وقته واهتمامه الكثير ليعالجزعيما إذا آمن تبعته ألوف من الأنصار! وربما أخذ هذا الوقت من حق آخر فقير..!
وفي هذا يقول الله له: 'وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفترى علينا غيره، وإذاًلاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً. إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً'.
إن سياسة الدعوة شيء، والانحرافاتالخلقية شيء آخر، وقد عاتب الله نبيه لانشغاله بأحد الكبراء عن أحد الضعفاء. والسياق كله تنبيه إلى كيدهم وتحذير من ملاينتهم...
وتلا ذلك كشف عن خباياهم وعما يبيتونلدعوة الإسلام من شرور 'وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً' إنهم أحرجوه في مكة كل الحرج، وكانوا قد رأوا إخراجه، ثم اختارواقتله.
وقد خرج الرسول مهاجرا، ونجاه الله من كيدهم، ولم يلبثوا إلا قليلاً بعده حتى انتصر الإسلام وعاد إلى مكة ظافرا.. وصدق الله وعده.
وبعد جهاد الدعوة جاء جهادالعبادة، فكلِّف الرسول بالصلاة ليلاً ونهاراً 'أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً'.
إن محمدا كلمة الله الأخيرة إلى الناس،واللبنة التي تم بها بنيان النبوات الأولى، وقد كان أهل الكتاب يشعرون بأن هناك نبيا قادما، ويجدون فيما لديهم ما يدعوا إلى ارتقابه وتصديقه.
فلما جاء سارع المخلصونإلى اتباعه، قال تعالى: 'وبالحق أنزلناه، وبالحق نزل، وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيرا. وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا. قل أمنوا به أو لا تؤمنوا إنالذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا'.
والتاريخ العالمي يذكر أن نصارى الشام ومصر سارعوا إلىالدخول في الإسلام بعد زوال الاستبداد الروماني، ثم حملوه مع العرب إلى آفاق العالمين، مصداق هذه الآيات الكريمة، وإشارة بصدق هذا الجمهور الكبير من أهل الكتاب الذينأمنوا وأخلصوا.. ..
المصدر: نحو تفسير موضوعي