محمد الغزالي
سُورَة الحِجْر
'الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين' (1) الوحي الأعلى من حيث هو كلمات مسطورة: كتاب، ومن حيث هو آياتمتلُوَّة: قرآن.
وكلا اللفظين كتاب وقرآن عَلَمٌ على ما في المصحف الشريف.
'ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين' وربما يود الذين قصّروا لو كانوا مجدِّين، وربمايود الذين عصوا لو كانوا مطيعين، وعندما تنكشف الخدعة الكبرى يندم الذين أضاعوا أيامهم سدى، ولم يستعدوا للمستقبل الباقي 'ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوفيعلمون' (3).
وفي مواجهة ذلك يقول الله لنبيه: 'لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم...' (88).
وقد لاحظنا أن آخر هذه السورة يؤكد أولها ويتجاوبمعه، فعندما يتحدّى عبيد الحياة أنبياءهم. ويعترضون طريقهم، ويظنون الدولة خالدة لهم، يجئ في أول السورة قوله تعالى: 'وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم. ما تسبق منأمة أجلها وما يستأخرون' (4ـ5) وهذا قول موجز تفسره أواخر السورة عندما تقصّ كيف هلك قوم لوط، وقوم شعيب، وقوم صالح!!.
يقول الله تعالى في وصف قوم لوط يريدون الفسقبضيوفه: 'لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون. فأخذتهم الصيحة مشرقين. فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، إن في ذلك لآيات للمتوسمين' (72ـ75): المتأملين في الأسبابوالنتائج 'وإنها لبسبيل مقيم' (76) أي أن القرية الهالكة في طريقهم وهم يغدون ويروحون!!.
ويقول جل شأنه في قوم شعيب: 'وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين. فانتقمنا منهم وإنهمالبإمام مبين' (78ـ79) طريق واضح.
ويقول في أصحاب الحجر ـ وبهم سميت السورة ـ: 'ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين. وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين. وكانوا ينحتون منالجبال بيوتاً آمنين. فأخذتهم الصيحة مصبحين. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون' (80ـ84).
وأصحاب الحجر هم ثمود، ويسمى العرب أرضهم بمدائن صالح. وهم يمرّون عليها ليلاًونهاراً، فهلا اتعظوا!!.
إن هذا كله تفصيل لما ورد أول السورة عن القرى الهالكة: 'ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون..' (10ـ11).
وقد كان عرب الجاهلية يستهزئون بالقرآن وبمن نزل عليه 'وقالوا: يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين' (6ـ7) والجاهليونليسوا بدْعا في طلب نزول الملائكة، فقد سبقهم قوم نوح وهود وصالح، ولكن الله لا يستجيب لعبث أولئك الذين يستكثرون الرسالة على بشر منهم!.
إنهم أدعياء يكرهون الفضل فيغيرهم، ويحسبون الأمر مسابقة في الصدارة ينجح فيها الأكثر صفاقة! 'ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين' (8). وينبه سبحانه إلى أن هذا الوحي الخاتم خالد مادامت السموات والأرض، وأن أعداء الحقيقة مهما بلغت ضراوتهم لن يطمسوا أنواره 'إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون' (9) ويقول جل شأنه ممتنا على رسوله بهذا القرآن: 'ولقدآتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم' (87).
وكُفْر بعض الناس بالكتاب الكريم ليس لقصور به، إنه لتعصب فيهم وعناد! ولو سيقت إليهم المعجزات كلها ما ازدادوا إلا جحودا' ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون' (14ـ15) والأدلة مهما قويت لا تجدى مع هؤلاء...
يقول تعالى: 'ولقدجعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين. وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيءموزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين'.
لقد فصل أول السورة بركات الكون وخيراته وعجائبه، ولكنه أجمل في آخر السورة وأوجز عندما قال: 'وما خلقنا السمواتوالأرض وما بينهما إلا بالحق. وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم' (85ـ86).
وأنه بحكمته وإبداعه خالق كل شيء 'وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وماننزله إلا بقدر معلوم' (21).
العلم الإلهي صفحة واحدة، يقترب فيها الأزل من الأبد. والأرض من السموات، والدقيق من الجليل، وعالم الحشرات والجراثيم بعالم الإنس والجنوالطير!!.
وعالم الإنسان نفسه مثار تفكير عميق، لقد خلق من طينة مُنْتِنَةٍ 'من صلصال من حمأ مسنون' (26).
وعندما يعود إلى التراب بعد انقضاء رحلة العمر ويُدفن تحتهتكون رائحته أشد إزعاجاً.
كأن الناس يتدافنون حتى لا يشمئزَّ بعضهم من بعض!.
بم زكا الإنسان وسما؟ بم كُرِّم ونعِّم؟ بهذه اللطيفة الربانية التي نفخت فيه، والتيطالما جار عليها وضاق بأوْجها!!.
إن في الإنسان قبسا من نور الله الأسنى حسده عليه إبليس، وكره الاعتراف به، وقرر الانتقام من آدم وبنيه: 'قال ربِّ بما أغويتني لأزيننلهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط عليّ مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من أتبعك من الغاوين' (39ـ40).
على أبناء آدم اليقظةوالانتباه والشعور بأن الله عندما يرضى يغفر الهنات، ويرفع الدرجات، وعندما يغضب لا ينجو من بطشه أحد 'نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم'. ثم أعقب هذا الوعد والوعيد نبأ إبراهيم مع ضيوفه، ومَنْ ضيوف إبراهيم؟ إنهم الملائكة الذين جاءوا يبشرونه بغلام عليم، ويبشرونه في الوقت نفسه بهلاك المدينة التي كانتتفعل المنكر!!.
ولم يتعرض القرآن بالنفي للخرافة التي أوردها العهد القديم بأن الله تغذَّى أو تعشَّى في حفل قدَّمه له إبراهيم! وكان على المائدة عجل سمين! إن الله لايأكل!.
والسكوت عن هذه القصة أبلغ في ردها من إيرادها ثم تكذيبها.. ويكفى ما امتلأ القرآن به آيات التسبيح والتحميد..
أما قوم لوط فقد كانوا أهل سوء ودنس، وقد عانىلوط في تحذيرهم، وفشل في تطهيرهم، فدمَّر مدينتهم وجعل عاليها سافلها.
أشرنا إلى الروابط التي تصل بين أول السورة وآخرها، وقد فصلَتْ بينهما هذه القصص المسوقة للعظةوالعبرة، ثم قيل للرسول الكريم: إن الله شرفك بهذا الوحي، فأدِّبْ الأمم به: 'لا تمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزنْ عليهم وأخفض جناحك للمؤمنين. وقل: إنيأنا النذير المبين' (88ـ89).
والذي نراه أن المقتسمين هم أهل الكتاب الأولون الذين جعلوا القرآن أقساماً يصدقون بعضها ويكذبون بعضها، فقال تعالى: 'كما أنزلنا علىالمقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين' (90ـ91).
أي: أعضاء أو أجزاء مقطعة يقبلون منها ما يشتهون، ويرفضون ما يكرهون.
والمعنى العام: أن الله خص المسلمين بالوحي الخاتمالمهيمن على ما قبله، كما منح أهل الكتاب الوحي السابق، فغيّروا وبدّلوا: 'فو ربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون' (92ـ93).
ثم بشر الله نبيه بأن رجال الوثنية الذينيقاومون رسالته لن يطول بهم أمد حتى يصرَّعوا جميعاً. 'إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون' (95ـ96)!!.
وقد كان أهل مكة قد أعلنوا حرباً منالسخرية والاستهزاء على الرسول (ص) وعلى ما ينزل عليه من وحي، ونشروا سخريتهم وتُهمهم على نطاق واسع، ورصدوا الوفود القادمة إلى مكة كي يحذروها من اتباع الرسول،والانخداع بما يقول.
وطبيعي أن يتألم النبي من هذه الحملات الجائرة، ولكن الله أمره ألا يلقى إليها بالا، وألا يحزن لتهافت المشركين عليها. 'ولقد نعلم أنك يضيق صدركبما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين' (97ـ99).
وقد صدق الله وعده فارتفع لواء الإيمان، وذهب الشرك وأتباعه في خبر كان.
المصدر : التفسير الموضوعي