المؤرخون الرواد وميلاد علم التأريخ
د.محمود اسماعيل
من الواضح أن من أهم منجزات الصحوة البورجوازية'تصنيف العلوم وتبويبها',واستقلال بعضها عن البعض الاخر,وظهور علوم جديدة لها مباحثها ومناهجها.
وعلى ذلك فليس من المستغرب أن يشهد حقل المعرفة التاريخية الظاهرةنفسها,فيظهر التاريخ كعلم مستقل بذاته عن المعارف الأخرى,ويفيد منها في الوقت عينه,ويصبح 'مصطلح التاريخ'_ الذي ظهر إبان بواكير بورجوازية ما قبل الاسلام- شائعا في عصرالصحوة البورجوازية بعد غيبة طويلة إبان العصور السابقة.وتلك ملاحظة بالغة الخطورة على ارتباط العلم بالبورجوازية ,ومن ثم صدق مقولة سوسيولوجية الفكر.
ونتلمس كذلكتأثيرات الصحوة في تقدير علم التاريخ- الذي كان ينظر الى مباحثه وموضوعاته قبل الصحوة نظرة استخفاف - وتبجيل المؤرخين باعتبار 'بضاعتهم' 'من العوامل المؤثرة في تياراتالحياة...وتؤدي دورا تربويا وسياسيا فعالا'.ومعلوم أن ارتباط العلم بالحياة وتكريسه لخدمة أغراض عملية,سمة بارزة من سمات الفكر الليبر الى البورجوازي.وهذا ينفي الرأيالقائل بأن 'حاجة العرب الى العلم إنبثقت من الدين'.
وتقود حقيقة سوسيولوجية نشأة علم التاريخ الإسلامي الى مناقشة آراء الدارسين بصدد تلك النشأة.وتكاد هذه الآراءجميعا تضرب في اتجاه واحد وهو النشأة العربية المحضة,وإن أشارت بعضها الى وجود تأثيرات أجنبية طفيفة.
يقول العلامة أحمد أمين 'إن تأريخ حوادث الإسلام في عصوره الأولىكان إسلاميا بحتا ونتيجة تطور طبيعي من الداخل..فلم تحدث تأثيرات من اليونان أو الفرس في حياة المؤرخين الأوائل '.وفي المعنى نفسه ذكر مرجوليوث 'لم تكن نشأة التاريخالإسلامي استمرارا للتواريخ القديمة,وإنما هو نمو طبيعي جاء به الى الوجود حاجات المجتمع,وتتجلى به خصائص خاصة به'.ورغم تأكيده على 'حاجات المجتمع'كواقع لنشأةالعلم,تجاهل تلك الحقيقة حين أبرز 'المغزى الأخلاقي كهدف للمعرفة بالتاريخ آنذاك'.
كما وقف لاكوست على حقيقة النشأة السوسيولوجية حين رأى أن 'الفكر التاريخي جاءتطورا كميا نتيجة تحول كيفي '.
أما روزنتال فقد تخبطت آراؤه في هذا الصدد,فتارة يؤكد النشأة الاجتماعية الخالصة,وأخرى يبرز دورالتأثيرات الأجنبية وخاصة في الجوانبالتقنية.يقول 'لم يكن هناك تأثيرات فارسية أو إغريقية فيما ابتكره المسلمون من المنهج الحولي'.لكنه أثبت في موضع آخر 'تأثيرات الحوليات البيزنطية وخاصة ما نسب الى المؤرخالبيزنطي أيونيس ملالاس الذي ربما عرفه العرب من طريق السريان الذين اتبعوا الأسلوب الحولي نفسه,وبالذات عند يعقوب الرهاوي'.وأضاف 'وبالإجمال فإن قليلا من الاعتراض يمكنتوجيهه الى الافتراض بأن التاريخ الحولي الإسلامي كان مدينا في بداية أيامه الى النماذج الإغريقية والسريانية,لم يكن هناك كتاب معين ألهم المؤلفين المسلمين,ولكن فكرةالترتيب على السنين جاءت الى العلماء المسلمين الأول عن طريق الاتصال بالنصارى'.
وواضح من نصوصه تذبذب موقفه,وافتقاره الى قرائن وبراهين تدعم مذهبه.والصواب ما ذهباليه مرجوليوث من أن 'النظام الحولي اختراع عربي قح له أصوله الثابتة في الجاهلية',كما أن 'القاعدة التقنية في توثيق الأخبار المعروفة بالإسناد تقليد أخذه المؤرخون عنالمحدثين'.يدعم ذلك قول لاكوست أنه 'لا في اليونان ولا في بيزنطة ولا في أوربا عامة في العصور الوسطى,لم يكن للتاريخ مكانة في النشاط الثقافي كتلك التي كانت عند العرب',وماوقف عليه ابن خلدون من أن الذميين الذين أسلموا 'كانوا يومئذ بادية لا يعرفون إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب'.
ونحن نرى أن الخوض في تلك المسألة غير ذات موضوع.طالماأن أهل الذمة سواء من أسلم منهم أوظل على عقائده السابقة كانوا مواطنين ورعايا في 'دار الإسلام',لهم فعالياتهم الاقتصادية وحتى السياسية في كثير من الأحيان.لقد كانواخيوطا في نسيج الواقع الاجتماعي,أثروا فيه وتأثروا به.وإذ لم يثبت الدارسون لهم دورا في نشأة علم التاريخ الإسلامي,فقد أسهموا في ميادين الفكر الأخرى إسهامات لهاثقلها,بحيث حظيت فعالياتهم في هذا الصدد باهتمام المؤرخين المسلمين.وعلى ذلك يمكن القول بوجود تأثير ضمني لتلك الطوائف على موضوع التاريخ,نفسه لأن حياتهموفعاليتهمأصبحت جزءاً من الواقع المعيش وهو مبحث التاريخ وموضوعه.
وثمة مسألة أخرى جديرة باليحث تتعلق بموضوعية المؤرخين الرواد.وإذ يعتبر التصدي لها أمرا سابقا لأوانه قبلتناول أعمالهم,نكتفي بعرض بعض جوانبها التي تلقي أضواء على سوسيولوجية نشأة علم التاريخ.
اختلف الدارسون - كالعادة - في تقدير موضوعية المؤرخين الرواد فيما صنفوا منتواريخ,فالبعض نعى عليهم الافتقار إليها لأسباب سياسية أو إديولوجية,وحتى الذين فطنوا لتأثيرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تزييف التاريخ خانهم التوفيق.بينماأكد البعض التزام المؤرخين الرواد بقدر كبير من الحياد والموضوعية والأمانة العلمية.في حين تذبذب اتجاه ثالث بين الاتجاهين السابقين.
ويمثل الاتجاه الأول روزنتالوإيف لا كوست,حيث كرس روزنتال في كتابه 'علم التاريخ عند المسلمين'دراسة مستفيضة عن 'المؤرخين الرسميين'أو مؤرخي البلاط ذهب فيها الى إن معظم مؤرخي الإسلام ارتبطوابالسلطات الحاكمة,نظرا لاشتغالهم بالإدارة والقضاء,أو عملهم كمؤرخي بلاط يدبجون سيراً للخلفاء أو الأمراء,وتواريخ لأسرهم الحاكمة.وحتى المؤرخون 'الهواة'- كما اطلقعليهم - كانوا يمالئون السلطة حتى يكتب لمؤلفاتهم الرواج,فعول الكثيرون منهم على تقدير مؤلفاتهم للحكام ابتغاء حظوة في المال أو الجاه,وكل ذلك فت في موضوعية أعمالهم. وفي المعنى نفسه ذكر لاكوست أن نشأة التاريخ الإسلامي 'كانت رسمية بتكليف من أولي الأمر ما شكل عوائق نحو التزام الموضوعية',كما أشار الى أن اتسام النشأة بطابع 'القدسية''حرم الفكر التاريخي من المنهج النقدي'.
هذا عن المعوقات السياسية والإديولوجية.أما المعوقات السوسيولوجية فقد نبه إليها طيب تيزيني حين ذهب الى تأثير الوضع الطبقيفي انحياز المؤرخين الى انتماءاتهم ,ضاربا المثل بالبلاذري وكتابه 'أنساب الأشراف'.زاعما أنه تعصب فيه للأرستقراطية,والطبري في كتابه 'تاريخ الرسل والملوك'الذي يعد فينظره 'تاريخا للأديان'.لذلك أضاف الى العامل الديني تأثير الوضع الاقتصادي في تفسير 'لاموضوعية' المؤرخين الباكرين.
والاتجاه الثاني القائل بموضوعية نشأة علمالتاريخ الإسلامي نتلمسه في آراء مرجوليوث وعلى أدهم,فقد ذهب الأول الى 'أن غالبية مؤرخي الإسلام لم يكونوا 'رسميين',ففي القليل النادر ما كتب هؤلاء مصنفاتهم بأمر منالسلطة - على الأقل في مرحلة النشأة - حيث لم تظهر وظيفة 'مؤرخي البلاط' إلا في عصور تالية,ومن ثم 'فإن المؤرخين الأوائل التزموا الدقة في تنقية الروايات ونقدها,والموضوعيةفيما دونوه,لأن معظمهم كانوا في حالة رغدة من العيش كالطبري مثلا,وبعضهم خدم في الدواوين الى جانب أعمالهم الخاصة'.واستشهد بموضوعية الطبري في عدم انحيازه لبني العباسرغم أنه كتب تاريخه إبان خلافتهم.
وفي الاتجاه نفسه مضي على أدهم فذهب الى أن المؤرخين الأوائل,'لم يعيشوا في كنف الأمراء,ولم يكتبوا التاريخ إرضاء للخلفاءوالأمراء,وإنما كتبوه بدافع من ميل الى البحث والاستقصاء'.
أما الاتجاه الثالث 'التوفيقي'فنستدل عليه فيما ذهب إليه أحمد أمين من أن نشأة علم التاريخ ارتبطت بحكم بنيالعباس 'الذين استخدموا التاريخ كوسيلة من وسائل الدعوة العباسية,فكان الخلفاء يشترون ذمم بعض المؤرخين بحيث حاولوا إظهار العصر العباسي بلون زاهر فاخر والعصر الأمويبلون قاتم مظلم'.ويسوق أمثلة في هذا الصدد للتدليل على مذاهبه.
لكنه يعود في موضع آخر فيشيد بروح التسامح العلمي التي كما أتاحت لبعض الشعراء هجو بعض الخلفاء,سمحتلمؤرخي المعارضة بالحرية في التعبير عن وجهات نظرهم. كما أشاد بالنقلة المنهجية التي تمت على يد الرواد من المؤرخين,من حيث استقاء الأخبار من مظانها,ومقارنتهاونقدها,وتوثيقها بالإسناد,وتنظيمها وسلسلتها على شكل حولي مبتكر.
ونكتفي في هذا المجال بنقد الاتجاهات السابقة - في عجالة - تاركين الأدلة والقرائن تكشف عن نفسها منخلال دراسة أعمال هؤلاء المؤرخين.فروزنتال عمم أحكامه حين تصور معظم المؤرخين 'رسميين',والثابت أن تلك الظاهرة لم تولد في عصر الصحوة,ولا تنطبق على الرواد المؤسسين لعلمالتاريخ.وحتى أولئك الذين خدموا في الدواوين إبان الصحوة,فإن انحيازهم لفكر حكومتها 'المتبرجزة' لا يعد انحيازا عن الحقيقة,بل انحياز لها,ولم نسمع عن مؤرخ 'هاو'- على حدقوله - نال حظوة من السلطة في مقابل تقديم أعماله باسمها.
وينسحب النقد نفسه على رأي لا كوست في هذا الصدد.أما قالته في 'النشأة القدسية'لعلم التاريخ فتصبح غير ذاتبال,إذا علمنا أن هذه النشاة كانت تعني انفصال المعارف التاريخية عن العلوم التي اعتبرت علوما دينية كالفقه والحديث ,بل أن هذه العلوم كرست في عصر الصحوة لخدمة أغراضدنيوية,ومعلوم أن الفكر البورجوازي - بوجه عام - فكر مادي عقلاني حياتي بالدرجة الأولى.
أما انزلاق تيزيني في أحكامه على البلاذري في 'أنساب الأشراف'والطبري في 'تاريخالرسل والملوك',فعذره أنه ليس مؤرخا,بل تنم ملاحظته في اعتبار الكتاب الأول تأريخا لنبلاء العرب والثاني تأريخا للأديان, عن انخداعه بعنواني الكتابين,وعدم اطلاعه عليهماألبتة.ولو تمهل وقرأ مجرد صفحات قليلة منها قبل المجازفة بإطلاق حكمه,لأدرك أن البلاذري حمل في 'أنساب الأشراف' حملة عنيفة على الأشراف,وأن تاريخ الطبري يعد أول إنجازإسلامي لتاريخ عالمي دنيوي بشهادة كل الدارسين.وننوه - في استحياء - بأن للكتاب عنواناً آخر هو السائد والمتعارف عليه,ألا وهو 'تاريخ الأمم والملوك',ومضمونه مصداق عنوانه.
ولا تعليق لنا على التجاه الثاني الذي يشيد بموضوعية المؤرخين الرواد,فذلك ما نعتقد في صوابه.أما الاتجاه الثالث التوفيقي الذي تبناه أحمد أمين فنحن نوافقه في شطرهالثاني الذي أبرز فيه سلامة المنهج وتطور الرؤية,وما أفرزته الصحوة من روح التسامح للأتجاهات كافة كي تعبر عن تياراتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
أما مقولتهفي توظيف بني العباس التاريخ لخدمة دعوتهم لتشويه أسلافهم الأمويين والغض عن نقائص الأسرة العباسية,فالمعول عليه في هذا الصدد طبيعة النظام السابق الذي استهدفهالنقد,وكذا مآثر النظام الجديد الذي قرظه المؤرخون.ولاحاجة بنا لاجترار ما سبق تفصيله عن مفاسد النظام الأموي الذي سادته'الإقطاعية'.كذلك لا يمكن إنكار ما أنجزه النظامالجديد من نقله تاريخية.
والمؤرخ في عصر الصحوة البورجوازية - وفي كل عصور الاستنادة - عليه أن يتخذ موقفا 'تقويميا' للماضي وكذا الحاضر المعيش,وإلا تخلى عن مهمتهالحقيقية.
ويصبح التاريخ في الحالة تلك'مجرد قصص وأخبار,ونهاية معرفته,الأحاديث والأسمار'.وهو ما ساد دائما في عصور 'الجهالة' الإقطاعية.
ومؤرخو الصحوةالبورجوازية عبروا عن الفكر التاريخي كما يجب أن يكون,فكان لهم رؤاهم ومواقفهم,ومع ذلك لم ينزلقوا الى مزالق 'اللاموضوعية' في الغالب الأعم.
وحسبما ذكر أحمد أمين نفسهأتاحت 'ليبرالية' الصحوة لمؤرخي المعارضة انتقاد بني العباس فيما يستحق الانتقاد,ولم يتقاعسوا عن ذكر بعض مآثر الأمويين.
ومع ذلك لا يمكن إنكار وجود بعض مزالق وهناتشابت بعض أعمال بعض المؤرخين عفواً أو قصداً,وهو أمر مألوف في كل العصور لمن عرك ميدان التاريخ.ومهمة المؤرخ الكشف عن مواطن الزيف,ولن يعدم من الوسائل ما يعين علىذلك,خاصة إذا تعددت الاتجاهات وتباينت الرؤى واختلطت الروايات.ويصبح هذا التعدد والتباين والخلط إثراء لعمل المؤرخ,إذ بقدر ما تراكمت التناقضات بقدر ما أصبح الوصول الىالحقيقة في المتناول,لأن الحقيقة لا تموت رغم محاولات طمسها.
والمنهج القوي أداة المؤرخ النابه في الكشف عن الزيف وإجلاء الحقيقة والعصمة من الزلل,لأنه الوسيلةالناجعة والمعينة 'على نقل الحقيقة في ذاتها الى تصور ذهني منطقي في النهاية'.
والمنهج إنجاز للعقل البشري في رحلته الطويلة من أجل تيسير إدراك المعرفة,ومن ثم يصبحنتاجا لتفاعل العقل مع التجربة.لذلك لا قيمة ألبتة لمعرفة لم 'تعقلن',كما يحلق العقل في فراغ الوهم بدون مادة معرفية يعمل عمله فيها.وهنا تصدق مقولة ابن خلدون في مشروعيةتدخل عقل المؤرخ في موضوع عمله,حيث رأى 'أن البصيرة تنقد الصحيح إذا تعقل,والعلم يجلوها كصفحات القلوب ويصقل,والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييف ما ينقل'.وكذا تبجيلسبنيوز للعقل في حقل التاريخ حيث قال:'إن العقل لديه قدرة الكشف عن الزيف على الأقل اذا استعصمت عليه الحقيقة'.
نخلص من هذه الوقفة بأن نشأة علم التاريخ كانت نشأةصحيحة,لأن العلم ولد في عصر سيادة البورجوازية بفكرها الليبرالي,وجاءت كتطور طبيعي مواكب لنقلة سوسيولوجية وثقافية,كانت تتويجا لجهود سابقة اضطلع بها الرواةوالإخباريون في العصور السابقة.ويعزى الفضل في استقلال العلم وصياغة مناهجه الى جيل من المؤرخين الرواد كالطبري والبلاذري وابن قتيبة واليعقوبي وغيرهم في الشرق,وابنعبد الحكم في مصر,وابن الصغير في المغرب,وعبد الملك بن حبيب وابن القوطية في الأندلس.
ولا غرو فقد أشاد ابن خلدون بهم في معرض تعريضه بالمؤرخين اللاحقين,فاعتبرالسابقين 'فحول المؤرخين'واللاحقين 'عالة عليهم'.
ولنحاول إبراز التأثيرات السوسيولوجية في أعمال هؤلاء المؤرخين ودورها في توجيه رؤاهم التاريخية.
وأول ما يلاحظفي هذا الصدد أن نشأة علم التاريخ وظهور المؤرخين لم تكن ظاهرة شرقية قحة,بمعنى أن الغرب الإسلامي أسهم بمؤرخيه الرواد في الحركة التاريخية.صحيح أن مؤرخي الغرب آنذاك لميصلوا الى مكانة زملائهم المشارقة لكن مجرد ظهورهم في تلك الحقبة وتأثرهم بأعمال مؤرخي الشرق,دليل ناصع على سيولة الثقافة الإسلامية بفضل المد البورجوازي الذي غمرالعالم الإسلامي شرقا وغربا.
ويلاحظ أيضا أن السواد الأعظم من المؤرخين الرواد كانوا إفرازاً للمد البورجوازي اجتماعيا وإديولوجيا,ولا غرور فقد انتموا الى المواليالذين سادوا الحياة الإسلامية إبان الصحوة.كما اعتنقوا إديولوجيات ليبرالية ,حيث كان أغلبهم من الشيعة المعتدلة والمعتزلة - ومعلوم أن التشيع والاعتزال امتزجا في عصرالصحوة الى حد كبير - والقليل النادر انتمى الى اليسار المتطرف 'الخوارج',أو اليمين المحافظ 'السنة'.وإن دل ذلك على شيء فعلى سيادة الفكر الليبرالي كرد فعل لسيادةالبورجوازية .و هذا يفسر تحامل مؤرخي السنة على مؤرخي الليبرالية في الوقت نفسه الذي أفادوا فيه من إنجازهم.وتفسير تلك الحقيقة مسايرة الاتجاهات المتطرفة للنمطالاقتصادي - الاجتماعي والفكري السائد,وتطوير معتقداتها بما يتسق وروح العصر,وتلك قاعدة تشهد على سوسيولوجية الفكر.
إذ سنلاحظ قاسما مشتركا واضحا في مناهج المؤرخينبعامة من حيث موسوعية الثقافة,نتيجة الأسفار والرحلات في طلب العلم,وتوسيع النظرة للتاريخ لتحتوي التاريخ العالمي,فضلاً عن شيوع روح النقد في تمحيص الروايات,والموضوعية- في الغالب الأعم - في الأحكام,وتقدم 'تكنيك 'العرض التاريخي من حيث الترتيب الحولي,والاهتمام بلب الموضوع أكثر من التعويل على الإسناد,الى غير ذلك مما سنتناوله بالتحليلثم التركيب والتنظير.
ومن المحقق أن استقصاء الأصول الا جتماعية والاتجاهات الإيديولوجية لهؤلاء المؤرخين,قمين بترسيخ تلك الحقائق,فالسواد الأعظم - كما قلنا - كانواينتمون الى البورجوازية بفكرها الليبرالي.وعلى سبيل المثال كان الطبري (ت 310ه) موسراً يتعيش من ضيعة في طبرستان,الأمر الذي أتاح له أن يتفرع للفكر بعامة والتاريخبخاصة,كما عرف بميوله الشيعية المعتدلة,حيث أنكر تطرف الخوارج والرافضة.ولايعني ذلك أنه عبر عن وجهة نظر السلطة كما ذهب روزنتال,فتاريخه خير شاهد على نزاهته العلمية كماسنوضح بعد قليل.وأبو حنيفة الدينوري( ت 282 ه) كان تاجراً معتزلي المذهب شيعي الهوى,وسينعكس ذلك على ثقافة الموسوعية الواسعة التي ارتبطت بالاعتزال.
وأحمد بن طاهرطيفور (ت 270 ه) كان مؤدب كتاب معتزلي المذهب,ولا غرو فقد حظي برضى الخليفة المأمون .وتنم وظيفته عن تكريس التاريخ في خدمة أغراض عملية وهو مظهر من مظاهر العلم البورجوازي.
والبلاذي (ت 248 ه) كان مؤدباً شأنه شأن ابن طيفور.وإذا ما علمنا أن الخليفة المعتز عينه مربيا لابنه عبد الله,وأن الخليفة كان مغضوبا عليه من الأستقراطية العسكريةالتركية,أدركنا شيئا عن ميوله المذهبية الاعتزالية التي أخفاها في عصر انتكاس الاعتزال تقية , لأن مذهب أهل السنة قد أعيد إحياؤه منذ خلافة المتوكل.
أما ابن قتيبة (ت270 ه ) فقد اشتغل بالقضاء,وعرف بتشيعه.كذلك كان اليعقوبي كاتبا معتزليا.
تلكم هي جمهرة المؤرخين الرواد الأعلام الذين أفرزتهم الصحوة البورجوازية في الشرق بأصولهمالطبقية وانتماءاتهم الإديولوجية.وسيكون لذلك تأثيره على فكرهم التاريخي,حيث صنفوا تواريخ عالمية تجاري التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي أنجزتهالبورجوازية.
ومن مظاهر تأثيرات الصحوة كذلك,مااشتهر به هؤلاء المؤرخون الرواد من 'الرحلة في طلب العلم '.ومعلوم أن النشاط التجاري المتنامي عقد أواصر الاتصال بينكافة بقاع العالم الإسلامي براً وبحراً,كما كانت قوافل الحجيج تجتاز المسالك والممالك وتلتقي جميعا في الديار المقدسة.وفي الحالتين معا أتيح لأهل العلم سهولة الحركةوالاتصال واللقياوونجم عن ذلك تبادل المعارف والأفكار الى جانب تبادل السلع وأداء الشعائر.وشجعت سهولة الأتصال على قيام أهل العلم ' برحلات علمية ' محضة بهدف التعلم أوالتعليم.
ولاشك أن المؤرخين بزوا غيرهم في هذا الصدد,لما تميله طبيعة عملهم من ضرورة الرحلة لجمع المعلومات.فالطبري مثلا ' رحل الى العراق والشام ومصر', والبلاذي كانله رحلة وراء المعرفة ' فزار البلاد التي كتب عن فتوحها ',واليعقوبي كان مؤرخا وجغرافيا ورحالة جاب البلدان وألف عنها.
ولاشك أن الرحلة في طلب العلم أثرت معارف هؤلاءالمؤرخين, فألموا بثقافة عصرهم الدينية والدنيوية.إشتغل الطبري الى جانب التاريخ بالفقه والحديث والتفسير,وأبو حنيفة الدينوري 'جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب ولهحظ وافر في علم النجوم وأسرار الفلك'- على حد وصف أبي حيان التوحيدي - بالإضافة الى معرفة بعلوم النبات والرياضيات,فضلا عن التفسير واللغة والأدب .والبلاذري اشتهر بثقافةموسوعية شأنه شأن أعلام المعتزلة.وابن قتيبة أنموذج فذ في ثقافته الواسعة,يشهد على ذلك كتابه 'المعارف',فضلا عن إحاطة دقيقة بالسياسية وخباياها,كما ينطق بذلك كتابهالإمامة والسياسة'.واليعقوبي برع في الفلك وكرسه لخدمة التاريخ,وكتابه 'البلدان' دليل على معارفه الواسعة في مجال الجغرافيا الطبوغرافية والبشرية.
وبديهي ان تنعكسهذه الثقافة الموسوعية على جهودهم في حقل التاريخ موضوعا ومنهجا وفكرا,فقد موضوع العلم ووسعت مباحثه ليغطي تاريخ العالم.كتب الطبري تاريخا للبشرية منذ الخليقة حتى عام298 ه, وتاريخ الدينوري ' الأخبار الطوال' تاريخ عالمي حتى خلافة المعتصم,وابن طيفور عرض لتاريخ الخلافة العباسية حتى عصر المأمون بالإضافة الى تقديم تراجم للشعراءومختارات من دواوينهم,ومصنفه عن 'تاريخ بغداد' بالرغم كونه تاريخا محليا,إلا أنه يمتاز عن التواريخ المماثلة- كتاريخ الموصل للأزدي- بتعدد موضوعاته ومباحثه,وخاصة فيالشؤون الاقتصادية و الاجتماعية.
وقد نالت هذه المباحث حيزا هائلا فيما صنفه البلازدي من مؤلفات,فكتابه 'أنساب الأشراف' أعظم من أن يكون مؤلفا في الطبقات,وتبرز قيمتهالحقيقية في تقديم معلومات اقتصادية على درجة من الأهمية أفاد هو منها في تكوين رؤيته التاريخية,يتجلى ذلك في حملته العنيفة على الأرستقراطيتين القديمة والمستحدثة فيعصره,والكتاب يؤكد خبرته الفذة في أمور الاقتصاد,ولا غرو فقد تتلمذ على أبي عبيد بن سلام مؤلف كتاب 'الأموال'.وفي 'فتوح البلدان'برهن البلاذري على تفرد في ميادين النظموالأوضاع الاجتماعية والشؤون الإدارية بزفيها معاصريه.
وابن قتيبة أرخ للتطور السياسي في العالم الإسلامي,كاشفا النقاب عن استتار الساسة بالدين,مبرزا دور الأهواءوالأطماع والمصالح فيما شجر من صراعات سياسية.وفي كتابه 'المعارف' توسيع لدائرة التاريخ لتشمل فضلا عن السير والأنساب والمغازي والفرق,مظاهر العمران البشري ,وخاصة فيجانبه الثقافي.
وتاريخ اليعقوبي يدخل في إطار 'التواريخ العالمية'ولكن بصورة موجزة,حيث حفل بعرض المعالم الأساسية,وضرب صفحا عن التفصيلات.و كتابه 'البلدان' نوع منالأدب الجغرافي التاريخي المتطور,أبرز فيه تأثير الجغرافيا في التاريخ.ولا مبالغة إذا اعتبرناه أول مؤلف إسلامي في مجال 'الجيوبولتيكا'.وفي الكتابين معا ينم عن احتفالهبالتاريخ الثقافي.
وفيما يتعلق بالمنهج,نلاحظ اهتمام بعض المؤرخين الرواد بالإسناد كما فعل الطبري,أو إغفاله كما هو شأن اليعقوبي.وفي الحالتين معا يظهر التدقيق فيتحري الأخبار,فالطبري ذكر الروايات المتاحة كافة وأسندها الى رواتها.واليعقوبي اهتم بجمع الوثائق وذكرها في مواضعها.فضلا عن حرصه على مساءلة شهود العيان,يقول في هذاالصدد'....وقد اتصلت أسفاري ودام تغربي , فكنت متى لقيت رجلا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره وبلده وساكنيه ودياناتهم ومقالاتهم....ثم أثبت كل مايخبرني به من أثقبصدقه,وأستظهر بمسألة قوم بعد قوم حتى سألت خلقا كثيرا من الناس'.والبلاذري أعمل النقد في الروايات حتى أثر عنه مذهب الشك الى حد الوسوسة,وتلك خلة حميدة لمن يشتغلبالتاريخ.أما ابن قتيبة فعزف تماما عن الإسناد,واهتم بتسلسل القصة التاريخية في المحل الأول.
وبخصوص نمط الكتابة,فقد ساد الأخذ بالنظام الحولي وخاصة في المصنفاتالكبرى,كما هو حال الطبري.بينما فرضت طبيعة الموضوعات تقنية تناولها,بحيث عول البلاذري مثلا على تعقيب الحدث وتتبعه عبر السنين,فطفر بفنية الكتابة طفرة كبرى من حيثمعالجة الأحداث كوحدة لاتتجزأ.
وفي الحالين معا استخدم المنطق في الرصد التاريخي,إذ راعى المؤرخون تسلسل الرواية وتنسيقها,في لغة سلسة ومباشرة لا تحفل بالتنميقوالبديع بقدر اداء المعاني في وضوح ومع ذلك انطوت لغة هؤلاء المؤرخين - وخاصة ابن قتيبة - على بيان راق وأسلوب أدبي فني رفيع.
أما عن التفسير والتأويل,فقد أنكر بعضالدارسين على المؤرخين الرواد حقيقة إمكانية وجود رؤى تاريخية لديهم,إستنادا الى قول أحدهم- وهو اليعقوبي- 'وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أخطرت ذكرهفيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه,والآثار التي أنا مسندها الى رواياتها,دون ماأدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلااليسير القليل'.
وبديهي أن هذا النص لا ينطق دليلا على افتقار اليعقوبي - وزمرته - الى الرؤية الخاصة للتاريخ,فمن النص ذاته يفهم تعويله على التفسير والاستنباطوالتأويل.ومن الخطأ أن نتصور وجود رؤى شاملة لدى هؤلاء المؤرخين الباكرين,إذ أن مهمتهم الأولى كانت تدوين الأحداث وتسجيل الوقائع وليس 'فلسفة التاريخ'.فلم يقدر لمثل تلكالفلسفات أن تظهر في التاريخ العالمي برمته قبل ابن خلدون,بل إن ابن خلدون نفسه لم يلتزم تماما بماأنجزه في مقدمته من فلسفة حين أرخ كتابه 'العبر'.
ومع ذلك فدراسةأعمال المؤرخين الرواد تكشف عن وجود رؤى وتصورات وآراء وقواعد عامة استنبطوها من خلال معاركة الاشتغال بالتاريخ,بحيث يمكن القول بأن كل مؤرخ كان لديه مفهوم عن 'فكرةالتاريخ'انعكس تأثيره على ما كتب وصنف من أعمال.وأن حصاد هذه المفاهيم جميعا يشكل رؤية عامة للتاريخ تساير طبيعة النهضة الثقافية التي أفرزتها الصحوة البورجوازية. فالبلاذري مثلا أبرز تأثيرالعوامل الاقتصادية والاجتماعية في التطور التاريخي,دون أن يعي وقوفه على قاعدة نظرية علمية صحيحة.والمهم أن تلك القاعدة عملت عملها في توجيهاهتمامه نحو الموضوعات الاقتصادية والإدارية والأوضاع الطبقية.
ونعلم أيضاً أن مؤرخا كاليعقوبي ربط بين حركة الأفلاك وبين الوقائع والأحداث,كما ركز على التاريخالثقافي أكثر من الاهتمام بالسير والأخبار.وابن قتيبة نسج وقائع التاريخ الإسلامي من خلال تصور صراع سياسي حول موضوع الإمامة.والدينوري أبرز - دون وعي فيما نعتقد -إنعكاس الواقع على الأدب حين دبج تاريخه بنماذج شعرية متسقة مع طبيعة ما يروي من أحداث.وكل أولئك استخدموا العقل وأفادوا من المنطق وكافة علوم العصر في كتاباتهم. (أكثر من ذلك,تتضح في هذه الكتابات المواقف الشخصية لأصحابها سواء من الأوضاع السائدة التي عاصروها,أو في تقييم أحداث الماضي ووقائعه.كل ذلك وغيره قمين بأن نحكم - فياطمئنان - بأن مؤرخي الصحوة البورجوازية طوروا الفكر التأريخي,وأحدثوا نقله في موضوعاته ومناهجه ورؤاه,تلك الرؤى التي تتسم بالعقلانية 'والدنيوية' والشمول,وهي سماتمميزة للفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.)
ولعل في قول اليعقوبي 'فمهما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين ممن يستنكره قارئه من أجل أنه لميعرف له وجها في الصحة,ولامعنى في الحقيقة ,فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قلنا' مايؤكد وجود عوائق كانت تحول بين اليعقوبي - وأصحابه - دون الإفصاح عن كل ما أحاطوا به من فهمونظر في فكرتهم عن التاريخ.ولا غرو فقد رجم الحنابلة دار الطبري بالحجارة,وسفه أهل الأثر أعمال ابن قتيبة..وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ما سبق أن رددناه من أن المدالبورجوازي لم يصل الى نهاية مطافه لينجز ثورة شاملة,فقد ظلت بقايا الإقطاعية بفكرها النصي الغيبي تمارس فعالية - ولو ثانوية - على الأصعدة السياسية والاقتصاديةوالثقافية.
بل لم يسلم حتى مؤرخو الليبرالية من آفات هذا الوضع,بحيث انطوت أعمالهم على قدر غير ضئيل من الغيبة والأسطورية.ومع ذلك فحسبهم ما أنجزوا من أعمال ظلت مصادرلمن جاء بعدهم من المؤرخين.
بقي أن نعرض لمكانة الفكر التاريخي عند مؤرخي الخوارج والسنة,بحيث يعتبر ما قدموه في هذا الصدد من إسهامات شيئا هامشيا,نظرا لهامشية دورالقوى الاجتماعية التي انتموا اليها على الصعيدين السياسي والاقتصادي,وبالتالي على المستوى الثقافي,مما يؤكد سوسيولوجية الفكر.
ومعلوم أن الخوارج - رغم اعتدالأفكارهم تحت تأثير الصحوة البورجوازية,وإقامتهم دولاً مستقلة في الغرب الإسلامي ذات طابع بورجوازي متطور- ظلوا محافظين على تقاليدهم المذهبية التي انعكست على فكرهمالتاريخي.
حقيقة أن عوامل سياسية حالت دون وصول مؤلفات الخوارج الأول في حقل التاريخ,بحيث يصعب الحكم عليها.ولكن النصوص المتواترة في كتب اللاحقين تلقي بعض الضوء فيتفسير افتقار المؤرخين الرواد على تناول تاريخهم وحسب.فتشير رسالة للبرادي الى مصنفات هؤلاء المؤرخين في الشرق والغرب,ويعدد ابن النديم أسماء هؤلاء المؤرخين كاليمان بنالرباب ويحيي بن كامل والصيرفي وعبد الله بن زيد وإبراهيم بن إسحق والهيثم وغيرهم من المشارقة,ويصف مصنفاتهم بأنها 'مستورة'.كذلك نعلم من سير الشماخي أن مؤرخا إباضياشهيرا,يدعى ابن سلام صنف كتابا في السير اعتمد عليه اللاحقون.ويخبرنا مؤرخ خارجي متأخر أن ديوان الإباضية بجبل نفوسة كان يحوي أكداسا هائلة من الكتب بعضها يتعلق بتاريخالمذهب وأعلامه,كما كانت المكتبة المعصومة بتاهرت تحوي بدورها مصنفات في السير والتاريخ.
وبالرجوع الى نصوص هؤلاء الرواد في كتب المتأخرين,لاحظنا أن موضوع التاريخاقتصر - كما قلنا - على سير شيوخ المذهب وأعلامه,فضلا عن نشاط الخوارج السياسي في الشرق والغرب.تفسير ذلك أن الخوارج كانوا يكفرون من ليس على مذاهبهم,ولم يعترفوابالحكومات الإسلامية برمتها,لذلك تغاضوا عن كتابة تواريخ عامة أو عالمية.
والملاحظة الثانية,أن هذه المدونات الأولى كانت متخلفة في مناهجها وجه عام,فهي تفيضبالخوارق والأساطير,وتفيض في ذكر المناقب والكرامات.وتلك نتيجة طبيعية لجماعات عاشت مضطهدة منذ ظهور المذهب من قبل الحكومات الإسلامية كافة,فالأفكار تتحجر حين تتقوقع,وتتطرف حين تضطهد,وتحلق في الغيب حين تعجز عن حل مشكلات الواقع.
ونلاحظ أن هؤلاء المؤرخين اشتخدموا الإسناد,لكنه اقتصر على الروايات المنسوبة الى شيوخ المذهبوأعلامه.ولم يجر ترتيب الحوادث وفقا للنظام الحولي,بقدر تنسيقها على أساس معالم مرتبطة بأحداث عامة في تاريخ المذهب.
ومع ذلك ظهر تأثير الصحوة البورجوازية واضحا فيبعض الأعمال التي أنجزها مؤرخون عاشوا في كنف الدول الخارجية المستقلة في الغرب,حيث نلاحظ - اعتمادا على بعض الإشارات - اهتمامهم بمعلومات ذات طابع اقتصادي أوردوهامختلطة بفقه مذهبهم كمسائل الحلال والحرام والوصية والرهن والربا والزكاة والعشور...الخ.
ومن الصعوبة بمكان الحديث عن رؤى ونظرات تاريخية لدى هؤلاء المؤرخين في غيابأعمالهم التي أحرقت إبان الغزو الشيعي لدول الخوارج في المغرب.
وإذا جاز لنا أن نجازف في هذا الصدد,نعتقد أن نظرتهم للتاريخ كانت ضيقة ومنحازة,ضيقة لأن مفهوم التاريخوموضوعه اقتصر على تاريخ المذهب,ومنحازة لتعصبها الشديد للخوارج وتحاملها المقيت على غير الخوارج.وهو امر طبيعي أفرزته الظروف السوسيو-سياسية التي ألمت بجماعاتمضطهدة,وحين قدر لها الاستقرار عاشت في أقاليم صحراوية معزولة ومحاطة بأعداء سياسيين ومذهبيين.
هكذا تأثر الفكر التاريخي الخارجي بمعطيات الواقع الاجتماعي ومنهجهورؤاه.
وتتجلى المقولة ذاتها في أعمال المؤرخين السنة.والجدير بالذكر أن معظمهم عاش في المغرب الإسلامي حيث ساد مذهب مالك.وبرغم تحول المذهب المالكي عننصيته,ومجاوراته روح العصر الذي سادته البورجوازية بفكرها الليبرالي,فإن معظم المؤرخين ظلوا متشبثين برؤى ومناهج أهل الأثر نتيجة أوضاعهم الطبقية والإديولوجية.فلميكتبوا تواريخ عالمية- إلا ما اقتبسوه عن المشارقة نتيج الاتصال- وانصب اهتمامهم على 'التواريخ المحلية' كرد فعل طبيعي لنزعة التجزئة الممثلة في قيام الدولة المستقلة فيالغرب.كما اهتموا بالإسناد على حساب تكامل 'القصة التاريخية'.ومن العسير الحديث عن رؤى تاريخية لهؤلاء النفر من المؤرخين باستثناء قلة اشتغلت بالتجارة أو الوراقة وقدرلها الرحلة والاتصال 'بأسواق' ومناهل العلم في الشرق.
وسنحاول دراسة أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية كمدخل لدراسة أعمالهم بما انطوت عليه منمناهج ونظرات تاريخية.
ففي مصر,عرف ابن عبد الحكم(ت 257 ه ) كمؤرخ فتوح,وهو من أسرة إقطاعية احتكرت زعامة المالكية.وفي إفريقية اشتهر أبو العرب تميم(ت 233 ه ) المالكي كمؤرخطبقات,وهو سليل الأسرة الأغلبية الأستقراطية,فكان على حد قوله 'يتشح بزي أبناء السلاطين'.أما محمد بن يوسف الوراق (ت 292 ه ) فكان - كما يتضح من اسمه وراقا مشتغلا بالعلم,كتبرسائل ومصنفات محلية عن تواريخ بعض المدن المغربية.وفي تاهرت - بالمغرب الأوسط - عاش ابن الصغير المالكي( ت أواخر القرن الثالث الهجري),وكان تاجرا يملك دكانا في'الرهادنة',قضى حياته في كنف الدولة الرستمية وأرخ لها.
وفي الأندلس لمعت أسماء عبد الملك بن حبيب (ت 238 ه) وهو تاجر مالكي المذهب كتب في تاريخ الأندلس وصنف تواريخ عامةعلى غرار المشارقة,ومحمد بن موسى الرازي (ت 273 ه ) الذي كان تاجرا مشرقيا أقام في الأندلس وكتب عن فتوحها,وابن القوطية (ت 267 ه) ذو الأصل القوطي والذي كان من موالي بني أميةبالأندلس,ألف كتاب 'تاريخ افتتاح الأندلس'.
فإلى أي حد أثرت أوضاع هؤلاء المؤرخين الطبقية وانتماءاتهم المذهبية في فكرهم التاريخي؟
ليس جزافا أن يهتم ابن عبدالحكم بفتوح مصر والمغرب والأندلس,ولا يحفل بأخبار الفتوحات في الشرق.وإن ذل ذلك على شيء فعلى حماسه لمذهب مالك والبيئة التي انتشر فيها,ولا غزو فقد استمد رواياته منشيوخ المالكية المغاربة الذين كانوا يفدون الى مصر,ولذلك قدر له التزود بمعلومات انفرد بها وخاصة ما تعلق بالأحداث التي عاصرها,فقد أخذها عن شهود عيان.ولكونه من أهلالأثر,عول على الإسناد حيث شغل حيزا هائلا من مؤلفه الذي تتجلى فيه الدقة والتحري,رغم نزعات التعصب المذهبي التي تظهر بصماتها في التحامل على المذاهب الأخرى.
أما أبوالعرب تميم فقد كرس مصنفه عن 'طبقات علماء إفريقية'لعرض سير أعلام المالكية وذكر مناقبهم.ولم يحظ أعلام المذاهب الأخرى بحيز في طبقاته إلا عرضا,وبقصد الذم والقدح.ولا غزوفقد اشترك في ثورات المالكية على الفاطميين الذين كانوا 'كفرة'في نظره,ناهيك بموقفه من الخوارج.وتتلون كتاباته بلون شعوبي,فهو يتعصب للعرب ضد الفرس,ويتغنى بمآثر قبيلةتميم,فكتب عن أنسابها ومناقبها بروح 'أستقراطية',ناهيك بإسرافه في ذم ' المشرقيين' ومبالغاته في ذكر مناقب أعلام المالكية وفضائلهم.
على العكس من ذلك كانت كتابات محمدبن يوسف الوراق عن تواريخ تيهرت وسجلماسة ونكور وغيرها من المدن المغربية,والتي نجد نصوصا منها عند ابن عذاري والبكري.فلكونه وراقا,قدر له أن يقف على معارف متنوعة ازدادتثراء بفضل رحلته في طلب العلم شرقا وغربا,حتى توفي بقرطبة .وقد وصفه ابن حيان - أعظم مؤرخي الغرب الإسلامي قبل ابن خلدون - بأنه 'الحافظ لأخبار المغرب'.كما أثنى عليهالباحثون المحدثون تقديرا لنزاهته ود قته وموضوعيته.وإذا كان لذلك من تفسير فمرده الى انتمائه للبورجوازية.
ونفس الشيء يقال عن ابن الصغير المالكي الذي امتهنالتجارة,واشتغل بالعلم,فأحاط بآراء المذاهب الأخرى وعقائدها,وجادل شيوخهم في تسامح ورحابة أفق.كتب عن 'سيرة الأئمة الرستميين'تاريخا اتسم بالموضوعية رغم أنهم خوارج,ولميتقاعس عن الإشادة بسير الراشدين منهم.ونحن نرجح تصنيفه مؤلفات تاريخية أخرى لم تصل إلينا,فأسلوبه ومنهجه ينمان عن طول باع في حقل التاريخ.وفي ذلك دليل آخر على تأثيرالانتماء الطبقي على الفكر التاريخي.
وتنسحب الحقيقة نفسها على مدرسة التاريخ في الأندلس,فقد خفف تنامي المد البورجوازي من غلواء 'النصية',واتسع منظور المؤرخين ذوىالانتماءات البورجوازية ليقوموا بمحاولات في كتابة تواريخ عالمية,مفيدين في ذلك من رحلاتهم التجارية والعلمية الى الشرق.بينما لونت النزعة الإقليمية منظور مؤرخيالإقطاعية, فاقتصروا على التأليف في تاريخ الأندلس بروح شوفينية متعصبة,وبرؤى محلية ضيقة.
نتلمس ذلك في أعمال عبد الملك بن حبيب التاجر الرحالة المؤرخ الذي زار مصروالحجاز وبلاد المغرب,وصنف تاريخيا يمكن - تجاوزا - إعتباره أقرب ما يكون الى تاريخ عالمي,وصفه أحمد أمين بأنه شبيه بتاريخ الطبري حوى معلومات زاخرة ' عن ابتداء خلقالدنيا,وذكر ما خلق الله فيها من ابتداء خلق السماوات وخلق البحار والجبال والجنة والنار,وخلق آدم وحواء وما كان من شأنهما مع إبليس, وعده الأنبياء نبياً الى محمد ص...وعده الكتب المنزلة,وعده الخلفاء الى حين افتتاح الأندلس,وما وجد فيها من الذهب والفضة والجوهر والأمتعة,وما أخرج منها,وعدة ملوكها ودولها...وذكر شيء من الحدثان ومايعمم منها في بعض البلدان,وكم عمر الدنيا وما مضى منها وما بقي الى أن تقوم الساعة'.ثم تناول 'فتح الأندلس ومن دخلها من التابعين ومن حكمها من الملوك'.وفي آخر الكتاب فصولفي الفقه والأخلاق والآداب,وأخرى عن قضاة الأندلس.
وبرغم الطابع الأسطوري الذي غلف الكثير من المعلومات,ورغم الخلط بين موضوعات لا تربطها صلة,فالقيمة الحقيقيةللكتاب تكمن في كونه المحاولة الأولى لكتابة 'تاريخ عالمي' في الغرب الإسلامي,عكست تأثير الأوضاع السوسيو- سياسية على اتساع المنظور التاريخي لمؤلفه.
أما محمد بنموسي الرازي فكان تاجرا ' يشتغل في الحلي والعقاقير وأشياء أخرى'ألف كتاب 'الرايات'- وهو كتاب مفقود لم نقف إلا على شذرات منه في ثنايا من نقلوا عنه - عن فتح الأندلس وإسهامالقبائل العربية في الفتح تحت رايات تلتف حولها.
والكتاب - كما يتضح من عنوانه - ينم عن نظرة ضيقة ومفهوم قاصر عن التاريخ.ورب سائل يسأل,كيف ذاك وهو تاجر جاب العالمالإسلامي من مشرقه الى مغربه'؟.الحقيقة أن الرازي لا ينتمي الى الطبقة البورجوازية,فاشتغاله بالتجارة كان ستارا لإخفاء حقيقة مهنته,وهي التجسس 'فكان وسيطا سياسيا وثيقالصلة بالملوك' كما كشفت نصوص جديدة للمؤرخ ابن حيان .وكان تجسسه 'لحساب أكثر من جهة',للعباسيين والأغالبة وبني مدرار وأمويي الأندلس,ومن ثم فهو أرستقراطي الطبقة,خربالذمة,'مؤرخ بلاط' شأنه شأن ابنه أحمد وحفيده عيسى من بعده.وقد ذكر عيسى أن أباه 'غلب عليه حب الخبر والتنقير عنه,ولو يكن من شأن أهل الأندلس,فالتقطه عمن لحق به من مشيختهمورواتهم,ووضع قواعد التاريخ بالأندلس مبتدئا,فأزلفة بالسلطان,وأعلت به منزلة ولده من بعده,وأكسبوا أهل الأندلس علما لم يكونوا يحسنونه'.
وهذا النص عينه يمكن وضع ابنالقوطية الذي أرخ لافتتاح الأندلس,فبرغم تفرده بمعلومات حول الفتح والأحداث التي أعقبته في الأندلس وبعض أخبار المغرب,إلا أن الكثير منها تلون بالتعصب القومي نظرالأصله القوطي باعتباره مالكي المذهب.وقد لا حظنا ذلك في المعلومات التي أوردها عن ثورات الخوارج,حيث حمل عليهم حملة شعواء.
وفضلا عن ذلك أفرزت البيئة الأندلسية نوعامن الأدب التاريخي الملحمي عرف باسم 'الأرجوزة الشعرية',كتلك المنسوبة الى تمام بن علقمة(ت 194 ه)واخرى نظمها يحيى الغزال (ت 250 ه).وتنطوي الأرجوزتان على معلومات تاريخية لايعتد بها.فأرجوزة علقمة تعرض عرضا سريعا مخلا لتاريخ الأندلس منذ الفتح حتى أيام عبد الرحمن الأوسط,وأرجوزة الغزال تتناول أسباب الفتح ووقائعه,وعدد الأمراءوأسماءهم...الخ.
ومعلوم أن تمام ويحيى كانا من رجال البلاط,دبجا قصيدتيهما للتغنى بمآثر بني أمية والتسبيح بحمدهم.وعلى غرارهما نهج ابن عبد ربه- فيما بعد- حيث مدحالناصر في أرجوزة طويلة.والملاحم الثلاث تعبر عن روح الإقليمية,وهي نزعة شابت أعمال المؤرخين الأندلسين ذوي الانتماءات الأرستقراطية كما سبق أن أوضحنا.وكان شيوع تلكالنزعة من المآخذ التي أخذت على منظري الإقطاع في الغرب الإسلامي بوجه عام.
وأخيرا - ننوه بأن تخلف الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي عن نظيره في الشرق لا يرجع لأسبابإقليمية أو إثنولوجية أو مذهبية,كما ذهب البعض,بقدر ما يرجع الى تأخر فتح الأقاليم الغربية,وبالتالي تخلفها النسبي في مسيرة حركة التاريخ الإسلامي العام ومع ذلك أسهمتبدور يذكر في نشأة الفكر التاريخي الإسلامي,ويعزى هذا الدور الى سيولة الفكر الليبرالي الذي أفرزته الصحوة البورجوازية.
وبعد -ألا يحق لنا الحكم بأن نشأة علم التاريخالإسلامي مدينة للتطور الاقتصادي - الاجتماعي الذي أفرز الصحوة البورجوازية,وأن الفكر الإسلامي بعامة ابن شرعي لواقعه الاجتماعي؟
المصدر : سوسيولوجيا الفكرالاسلامي ( طور التكوين ).