جاك ريسلر
المماليك
تشكّل سلالةُ المماليك, الأخيرة في العالم العربية، النهاية المنكقية للتفكك الذي كان يدمر الإمبراطوريةالإسلامية منذ أكثر من أربعة قرون؛ فقد كان سلالاتُ مصر، على غرار خلفاء بغداد، قط كوّنت لنفسها حرساً مؤلفاً من العبيد الأجانب. وكانتالنتيدة هي ذاتها، فقد حكم الحرسالمرتزق الدولةَ أولاً، ثم عينّ قائدها، السلطان. ولم تعد هناك قواعد خلافة واستخلاف، فالقوي هو الذي يحكم. لكن أولئك السلاطين، العبيد من حيث أعراقهم، وجنسياتهمالمختلفة الغريبة تماماً عن مصر، قد قاموا مع ذلك بإنجاز أعمالٍ جليلة في بعض الأحيان.
كان بيبرس أشهرهم، فقد وُلد عبداً تركياً، وكان يتحلى بمواصفات القائدالرفيعة، وكان بيبرس قد أحرز انتصاراته الأولى على المغول، لكنه كان بوجهٍ خاص بطل المعركة المظفّرة التي خاضها ضد الصليبيين. فهو قائد عسكري وسياسي، كان قد جدّد تنظيمالجيش، وشجع الأعمال العامة، وأنشأ مؤسسات دينية وتعليمية، ومستشفيات ومساجد، وكان كسلطان متنوّر قد عقد معاهداتٍ تحالفية مع الخان الأكبر ذي الرهط الذهبي، ومع شارلدانجو ملك صقلية، ومع جاك الأراغوني، وبكل مهارة عنّ خليفةً، ظلاً، من العباسيين الناجين من مجزرة بغداد. والحقيقة أنه لم يكن سوى خليفة اسمياً فقط، يتولى مرتبة روحيةدون أية سلطة زمنية، لكن مبدأ الخلافة استمر خلال عدَّة قرون. كان خلفاء بيبرس أقلّ سطوعاً منه. فقد فرضوا ضرائب مفرطة، وتكرّرت الأوبئة والمجاعات، وراحت الفوضى الأبديةتدمّر مصر شيئاً فشيئاً. واعتباراً من القرن الرابع عشر، لم تعد أسماء أولئك السلاطين المماليك تستحق الذَّكر، فهم لا يتميزون إلاّ بجهلهم وشراستهم. وكان أحدهم قد أمربإعدام أطبائه لأنهم لم يتمكنوا من علاج أمراضه؛ وهناك آخر اشتهر فقط بجهله وعدم فهمه وعجزه عن توقيع المعاملات الرسمية؛ وهناك آخر اشتهر فقط بجهله وعدم فهمه وعجزه عنتوقيع المعاملات الرمية؛ وأكثر طرافةً كان ذلك السلطان المملوك الذي أمر بقطع لسان كيميائي عجز عن تحويل أوكسيد الرصاص إلى ذهب.
كذلك لا بد من الإضافة أن أولئكالزعماء المماليك غالباً ما كانوا رجال أعمال، بل كانوا تجاراً مُخجلين. يروى أنَّ أحدهم احتكر الفلفل ثم عاود بيعه لرعيته بأسعارٍ باهظة وأرباحٍ كبيرة. ولم يكتفِ بذلك،فكرَّر العملية نفسها مع السكر.
ومن الطبيعي أن يؤدي تدبير سيء للشأن العام إلى انهيار الاقتصاد وندرة الحبوب وتحوّل المجاعة إلى محنة مزمنة في مصر التعسة وسوريةالتي كانت تابعةً لها. ويقدر أنَّ البلدين فقدا في ظل المماليك أكثر من ثلثي سكانهما. أخيراً جاء غزو تيمورلنك في مطلع القرن الخامس عشر, ليعيث فساداً في سورية حيث تمالقضاء على ما تبقى فيها من جوامع وآثار ومدارس.
هناك سبب آخر سيحدّد كسوف الحضارة العربية شيئاً فشيئاً. ففي أواخر القرن الخامس عشر. كان فاسكو دي غاما قد طاف مرتينحول رأس الرجاء الصالح، مما أدّى إلى تحول تجارة الهند والجزيرة العربية عن المرافئ السورية والمصرية. وكان مصدر مهّم من المداخيل قد ضاع نهائياً. وإن اكتشاف أميركا، منجهة ثانية، سجل بداية عصر جديد. فصارت النشاطات تنصب نحو الغرب, وراح مركز جاذبية الحضارة، يتحرَّك في هذا الاتجاه. ولكنّ ببدو أن القدر شاء أن تتلقى الإمبراطوريةالعربية الشرقية رصاصة الرحمة على يد الأتراك. فبعد حلب، قام العثمانيون، أبناء عم السلاجقة، الذين كانوا قد استولوا على القسطنطينية، بإحراز النصر سنة 1516 على الجيشالمملوكي، فاستولوا على سورية، وقلبوا سلطنة القاهرة واحتلوا المدن المقدسة, ولم يتردد سلطان القسطنطينية التركي في تلقيب نفسه بألقاب الخلافة، وبإعلان نفسه خليفةللمسلمين في وقتٍ لاحق. هكذا جراء إحياء الإمبراطورية العربية الشرقية.
المصدر : الحضارة العربية