د. محمود اسماعيل
بواكير الفكر التاريخي الإسلامي
ليس أدل على نقلة الفكر التاريخي _بفضل الإسلام _ مما حدث بالفعل في عصر الراشدين منالاهتمام بالتاريخ كموضوع وتطور تقنية تناوله. فمن حيث الموضوع ظهرت مباحث ثلاثة؛ الأول منها يتعلق بدراسة سيرة الرسول ومغازيه، والآخران يختصان بدراسة القصص العربيالقديم والتراث القبلي. ويخطىء بعض الدارسين حين يتصور أن الفكر التاريخي آنئذ كان فكرا دينيا قحا غايته خدمة الحديث والفقه، بل لا يخفف من الخطأ تصنيف البعض الآخر هذاالفكر صنفين: الأول ديني، كما هو الحال بالنسبة للسيرة والمغازي، والثاني دنيوي متمثل في القصص العربي القديم والتراث القبلي.
والصواب _فيما نرى _ أن كل موضوعاتالتاريخ _وبالتالي فكرة التاريخ_ كانت ذات طابع دنيوي؛ فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثا ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلا عن أن الاهتمام بدراستها ودراسةالقصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثينوالفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز _التي كانت من وراء النشاط الفكري عموما _ في محاولة الخلافة _وخاصة في عهدعمر _ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت كافة المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابعدنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية، والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام... الخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلكالمشكلات. حيث أقر الخليفة عمر كافة التنظيمات الموجودة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقة بالعربأنفسهم؛ كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تياراتحزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول _إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعا للتاريخ الإسلامي،فاتسعت دائرة مباحثه باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوبا أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلا عن تراث العرب؛ تراث الشعوب الأخرى التي دخلت في نطاقالإسلام.
وبديهي أيضا أن يؤدي تشعب هذه الموضوعات إلى نوع من التخصص في معالجتها، وهذا يفسر اهتمام البعض بسيرة الرسول ومغازيه، والبعض الآخر بالتراث القبلي، وقطاعثالث بالقصص العربي القديم. وساعد على ذلك التطور التقني المتمثل في وضع التقويم الهجري. ومعلوم أنه أنجز في خلافة عمر، وكان له أبعد الأثر في خدمة المهتمين بالأخبار؛حيث أصبح توقيت الحوادث أو تأريخها العمود الفقري للمباحث التاريخية.
وسنحاول عرض ما أنجز من جهود في الميادين الثلاثة التي تشكل عصب بواكير التاريخ الإسلامي،متتبعين خيوط الجانبين الفكري والتقني في ضوء المعطيات السوسيولوجية لتلك الحقبة.
أولا: السيرة والمغازي:
يصر الدارسون على أن نشأة هذا النوع من المعارفالتاريخية كانت دينية قحة؛ على أساس أنها تمركزت في المدينة من ناحية، وارتبطت بدراسة الحديث من ناحية أخرى. ونعود لمناقشة هذا الرأي فنقول بأن ظهورها في هذا العصر فيالمدينة أمر طبيعي، نظرا لقيام الدولة العربية الإسلامية في عصر الرسول في المدينة؛ التي ظلت عاصمة للعالم الإسلامي طوال عصر الراشدين، وبالتالي أقام فيها صحابتهوتابعوه العالمون بسيرته والمشاركون في مغازيه.
فلما انتقل مركز الثقل خارج الحجاز، جرى الاهتمام بتراث الرسول من قبل رواة وإخباريين في كافة الأمصار كالعراقوالشام ومصر.
أما عن مقولة الارتباط بعلم الحديث؛ فقد سبق إيضاح أن الاهتمام بعلم الحديث وغيره من العلوم التي اصطلح على تسميتها بالعلوم الدينية، جاء لخدمة أغراضعملية وبالذات في التشريع. وهو نفس الهدف الذي دفع إلى الاهتمام بسيرة الرسول ومغازيه؛ أي الاسترشاد بها في تقرير السياسة، أو القياس عليها في المشكلات المستحدثة بعدالفتوح؛ كتنظيم العطاء ومعاملة الشعوب في البلاد المفتوحة؛ اقتداء بسنن الرسول في هذا الصدد.
إن القيمة الحقيقية لهذا التراث تبرز في كونه مرتبطا بتاريخ الأمةبرمتها؛ لذلك لم يقتصر رواته على الإلمام بحياة الرسول ودوره في المغازي فقط، إنما رووا تاريخا لفترة الرسالة بكاملها، وأحاطوا بكافة أدوار أعلام الإسلام ومآثرهم فيصنع هذا التاريخ، هذا فضلا عن تقديم صورة جلية لقوى المعارضة، ليس فقط في موقفها من الدعوة، بل لأطوار حياتها قبل ظهور الإسلام أيضا.
وليس أدل على سوسيولوجية هذاالنوع من المعرفة التاريخية من اختلاف الرواة _رغم كونهم مصادر للأخبار _ اختلافا عبر عن مواقف التيارات السياسية التي انتموا إليها. فأبان بن عثمان بن عفان (ت 95) كانعثماني الهوى، ومشايعا للأمويين فيما بعد؛ يستدل على ذلك من رواياته _التي نجد نصوصا منها عند اليعقوبي _ في تبجيل عثمان، وإظهار مآثر معاوية ككاتب من كتاب الوحي. أماعروة بن الزبير (ت 94ه) الذي عاصر الراشدين وفترة من الحقبة الأموية؛ فبديهي أن تتأثر رواياته _التي نجد بعضها عند الطبري وابن كثير _ بميوله للأرستقراطية الثيوقراطية؛ولا غرو فقد 'كان شديد الاغترار بنسبه'. فلما فقدت طبقته مكانتها _بانتقال الخلافة إلى علي _ ضرب صفحا عن السياسة، وهجر المدينة إلى مصر، وانصرف لتحصيل العلم، فلما آلالأمر لبني أمية اتصل بهم حينا ثم اعتزلهم 'وكان رأيه اعتزال أهل الجور'، ثم خرج من عزلته مناصرا أخويه عبد الله ومصعب؛ حتى إذا ما فشلت حركتهما؛ تصدى للتنديد ببني أمية.
أما عن مناهج رواة السيرة والمغازي الأول، فإن النصوص القليلة المتناثرة في كتب التاريخ لا تكفي لتحديد طرائق رواياتهم، بل من الخطأ اعتبارهم رواة للأخبار لأنهمكانوا مصادر لها، إذ عايشوا معظم الأحداث وعاينوها. أما تلك التي استقوها من الصحابة فقد أوردوا أسانيدها. وتلمح بعض الاشارات إلى اطلاعهم أحيانا على وثائق مكتوبة.والروايات الخاصة بمرحلة ما قبل الإسلام لا تخلو من بصمات التأثر بأيام العرب. كما تلونت رواياتهم عن الحقبة التي عاشوها بلون انتماءاتهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية،وفي ذلك كله دلالة على صدق مقولة سوسيولوجية الفكر حتى لو تعلق الأمر بسيرة الرسول وكبار صحابته.
ثانيا: التراث القبلي:
يقصد بالتراث القبلي الأخبار المتعلقةبالقبائل العربية وأنسابها سواء قبل أو بعد ظهور الإسلام. ولقد حاول الرسول وضع حد للعصبية القبلية، وإحلال مبدأ الأخوة الإسلامية محلها، لكن بعد وفاته عاودت العصبيةادراجها فيما عرف بحركة الردة. وبرغم قمعها دون هوادة ظلت تمارس فعالياتها بشكل سافر حينا ومستتر وراء التيارات الاجتماعية المتصارعة حينا آخر. بل ظلت بصماتها واضحةفيما جرى من تنظيم الدولة العربية الإسلامية بعد حركة الفتوح الكبرى في الشام والعراق ومصر، فكانت القبائل تشترك في الجهاد تحت رايتها، وتوزيع العطاء جرى على قواعد وأسسقبلية، والهجرات العربية إلى الأمصار ظلت وثيقة الصلة بالأصول القبيلة، واختطاط المدن الجديدة وسكناها سار على نفس الوتيرة؛ فكان لكل قبيلة خططها وأحيائها.
لذلكتواجدت أصداء النمط القبلي البطريركي في صدر الإسلام جنبا إلى جنب النظم الإسلامية المستحدثة، وإن دل ذلك على شيء فعلى صدق القاعدة السوسيولوجية بأنه في التحولاتالتاريخية الكبرى لا تختفي انماط الإنتاج القديمة تماماً، إنما تظل تمارس وجودا وفعالية تتراوح قوة وضعفا بمدى ترسيخ النمط الجديد وإقراره.
المصدر : سوسيولوجيا الفكر الاسلامي