نماذج من المواقف الانفعالية في القرآن
د. محمد السيد محمد الزعبلاوي لقد اشتمل القرآن الكريم على مواقف انفعالية، أسوق منها على سبيلالمثال المواقف الانفعالية التي عاشها نبيّ الله موسى (ع) مع العبد الصالح ويروي الإمام البخاري في صحيحه بسبب هذه القصة: عن عمرو بن دينار قال أخبرني سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله (ص) يقول: إن موسىقام خطيباً في بني إسرائيل، فسأل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه، إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا ربكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحينما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه، يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعارأسيهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً... فلما استيقظا نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتىإذا اكن من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلىالصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً) قال فكان للحوت سرباً، ولموسى ولفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي... الحديث.
ومن هنا يحين بدء الأحداث التي أثارت انفعال نبي الله موسى (ع)، حيث وجد بعد عودته إلى المكان الذي نسي فتاه فيه الحوت فوجد العبد الصالح الذي أخبره الله به ودار بينهماالحديث وطلب موسى (ع) من العبد الصالح أن يأذن له في صحبته ليتعلم منه ما به يرشد، فأنبأه بأنه لن يستطيع الصبر معه، فأبدى موسى استعداده لأن يكون إن شاء الله صابراً، فشرطعليه ثانية أن لايسأله عن خبر ما يرى حتى يبدأه ببيان حقيقة الخبر، ثم انطلقا.
قال الله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما *قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلِّمن مما علّمت رشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً * قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً *قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً).
وهذا هو الموقفالانفعالي الأول، وهو انفعال مركب، لأن طبيعة الحدث أثارت عدة انفعالات مجتمعة، حيث أثارت في نفس موسى (ع) التعجب والاستغراب والاستبعاد والإنكار أيضاً، لما وقع منالعبد الصالح للسفينة التي أركبهم أصحابها ولم يأخذوا منهم مالاً، فإذا موسى (ع) يفاجأ بالخضر وهو يضرب أحد ألواح السفينة بالقدوم فيحدث فيها خرقاً.
فانطلق موسىثائراً منفعلاً متعجباً منكراً (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً) فذكره الخضر بما قد شرطه على نفسه قبل أ، يصحبه فهدأت ثورة موسى (ع)، واعتذر له عما بدر منه. (لقد نسي موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي!! والانسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عندما يصطدمالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعاً غير التصور النظري، فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد. وها هو ذا موسى الذي نبه من قبلإلى أنه لن يستطيع صبراً على ما لم يحط به خبراً، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط، ها هو يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفعمستنكراً).
ويأتي الموقف الانفعالي الثاني بوقع أشد فلا يملك موسى نفسه فينطلق منفعلاً ثائراً ناسياً العهد والشرط، وهو انفعال مركب أيضاً، يجمع بين التعجبوالاستبعاد والإنكار حيث يرى الرجل الصالح يقتل غلاماً يلعب مع رفاقه دون جريمة ظاهرة تستوجب القتل، إضافة إلى أنه صبي لم يبلغ حتى يكون مسؤولاً عن أفعاله.
(فانطلقاحتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت منلدني عذراً).
وهنا يعتذر موسى (ع) حين يذكره الخضر بما كان بينهما من شروط. لكنه في هذه المرة يقول إن لم أصبر على ما هو آت فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، ثم انطلقا،إلى أن مرا بقرية أهلها بخلاء، فوجدا فيها جداراً مائلاً يكاد يسقط فأقامه الخضر بيده، فقال موسى في ثورة هادئة وقد تملكه العجب والاستغراب لما وقع: قوم أتيناهم فلميطعمونا ولم يضيفونا.
(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً * قال هذافراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).
ثم أخذ الخضر في الكشف عن حقائق الأحداث التي أثارت انفعال موسى (ع).
(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فيالبحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاةوأقرب رحماً * وأما الدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وان أبوهما صالحاً فأرد رب: أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمريذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).
يبين الله سبحانه الأسرار الكامنة وراء الوقائع والأحداث التي قام بها العبد الصالح في صحبته موسى (ع)، والتي كان وقعها عليه شديداًقبل أن يعلم حقيقة الخبر وسره المكنون.
المصدر : تربية المراهق بين الاسلام وعلم النفس