الروح وصفاتها
د. مقداد يالجن هل يمكن أن ندرك الروح؟ وإذا لم نستطيع أن ندركها، فكيف نحدد لها تلك الحياة؟ وإذا كان من الممكن أن ندركها،فكيف يكون موقفنا من قوله تعالى: (يسألونكَ عن الرُّوح قُل الرّوح من أمر ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً). عندما يقرأ بعض الناس هذه الآية يظنون لأول وهلة أنها تفيداستحالة إدراك الروح أو عدم الجدوى من محاولة إدراكها، ومن ثم يقولون لا ينبغي للإنسان أن يقوم بمثل هذه المحاولة، لكن عندما نمعن النظر ونحلل معاني الكلمات وسياقالآية، فلا نرى ذلك الفهم، بل نرى إمكان معرفتها بالتقدم العلمي الخاص بعلم الروح.
نعم.. إن هذا العلم لم ينته بعد إلى الكمال بل أنه ليس هناك علم من العلوم وصل إلىالكمال، فإن أكبر العلماء في الغرب يصرحون ويقولون نحن ما زلنا على عتبة العلم، نعم أن هناك فرقاً بين العلوم في درجة التقدم، وأن علم الروح في نظري في مؤخرة هذه العلوم،ثم أن الطب بالرغم من أنه أصبح من العلوم المتقدمة فإنه لا يزال ناقصاً في الكشف عن كثير من جوانب الطبيعة البيولوجية للإنسان. وهذا ما قرره الدكتور ألكسيس كارل في كتابه'الإنسان هذا المجهول' فقال فيه: حقاً إن الإنسانية قد بذلت جهوداً جبارة كي تعرف نفسها ومع أننا نملك كنوز الملاحظات التي جمعها العلماء والفلاسفة والشعراء والمتصوفة،فنحن لا ندرك غير جوانب من هذا الإنسان وأجزاء منه، بل أن هذا الأجزاء ليست سوى نتاج طرائفنا في البحث، ليس كل منا غير موكب من الأشباح تسير وسطها الحقيقة التي يمكنمعرفتها، الواقع أن جهلنا مطبق، فأكثر الأسئلة التي يطرحها من يدرس أفراد الإنسان بقيت دون جوانب ولا تزال مناطق شاسعة من عالمنا الداخلي غير معلومة'، ثم ذكر كثيراً منهذه الجوانب قائلاً: 'كيف تتوافق جزئيات المواد الكيميائية فيما بينها لتكوين الأعضاء المعقدة الانتقالية للخلايا، وكيف تتحدد المورثات التي تحتوي عليها نواة البويضةالمخصبة مميزات الفرد الذي ينبثق من هذه البويضة؟ وما هي العلاقة التي تربط بين الشعور والخلايا المخية وإلى أي حد يمكن أن يتغير الفرد بفعل الإرادة؟ وكيف تؤثر حالةالأعضاء في النفس؟ وما هي العلاقة بين نمو الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء وبين نمو النشاط الروحي والعقلي؟ وما هي الأهمية النسبية لأوجه النشاط الفكري والخلقي والفنيوالصوفي؟' ثم يقول: 'وهكذا يمكن أن يوجه عدد كبير من الأسئلة الأخرى عن الموضوعات التي تعنينا وستبقى هذه الأسئلة بدون جواب هي الأخرى، من المؤكد تماماً أن الجهد الذيبذلته كافة العلوم التي تبحث في الإنسان قد ظل ناقصاً وأن معرفتنا لأنفسنا ما زالت جد ناقصة'.
ولعل السر الغامض يكتنف اليوم الجانب السيكولوجي من الطبيعة الإنسانيةأكثر مما يكتنف الجانب البيولوجي ويمكن أن نحدد ذلك الغموض في الجانب السيكولوجي بأنه هو خفاء حقيقة النفس والروح، وصلتهما بالتكوين البيولوجي ومظاهر السلوك المادية.والسر في ذلك عدم استطاعة العلم الحديث أن يغوص فيه لاستقصائه على الخضوع لمناهج العلم الحديث، ومقاييسه الموضوعية؟ ولذلك عدل علماء النفس المحدثين عن البحث في جوهرالنفس إلى البحث عن مظاهر السلوك النفسي المادي، لأنه يخضع لتلك المقاييس الموضوعية، ونتيجة لذلك تقدم علم النفس في جانبه السلوكي تقدماً مذهلاً ويدرك ذلك من يدرس هذاالعلم بأجهزته الحديثة، هنا يقول سكينر: 'إن مهمة علم النفس أن يبحث عن النظام الذي تسير وفقاً له الظاهرة النفسية'. وقال الدكتور عبد العزيز القوصي بعد أن استعرض تاريخعلم النفس: 'إن علم النفس كان يبحث أولاً في الروح ثم صار يبحث عن العقل وانتقل بعد ذلك إلى الشعور وأخيراً صار موضوع بحثه هو السلوك الخارجي'.
ويقول وود ورث عبارة فكهةفي هذا الصدد 'إن علم النفس عند أول ظهوره خرجت روحه ثم خرج عقله ثم زال شعوره ولم يبق منه إلا المظهر الخارجي وهو السلوك'، ويقول الأستاذ ت. ج. أندروز تأييداً لرأي يورنج:'إن علم النفس استقر إلى محاولة تأويل القدرات الوظيفية للإنسان ووصفها' وهذا حق يقتنع به من يقارن بين الدراسات النفسية القديمة والحديثة، فأن الدراسات القديمة كانتمنصبة بصفة خاصة على جوهر النفس أو الروح في رأي من يعبر بالنفس عن الروح أو العكس. ثم البحث عن وحدة النفس وخلودها والصلة بينها وبين الجسم والأدلة على كل ذلك، بينماالدراسات تتركز أساساً على مظاهر الأداء وصفاتها أو دورها في ميادين الحياة المختلفة ومن هنا تفرع علم النفس إلى فروع كثيرة مثل علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التربويوالصناعي والمهني والجنائي والطبي وما إلى ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك |فنحن إذا لم ندرك بعد كل حقائق الروح فينبغي ألاّ نكف عن المحاولة لمعرفة ما يمكن معرفته وخاصةصفاتها الخاصة بمجال السلوك والحياة العامة.| فالعلوم تتقدم رويداً رويداً بالمحاولات الجادة والجهود الجبارة المبذولة.
وإذا أمعنا النظر في معنى كلمة الروح التياستخدمت في القرآن مراراً لنستطيع تحديد الروح الإنسانية من بينها ولنستطيع أن نفهم أي الأرواح لا يمكن معرفتها وأيّها يمكن معرفتها، فإذا نظرنا بدقة من هذه الزاويةودرسناها وجدنا أن كلمة الروح استخدمت في القرآن لعدة معان:
أحدها: الوحي كما ورد في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)، (يلقى الروح من أمره على من يشاء منعباده لينذر يوم التلاق) ويقول ابن القيم هنا: 'وسمي الوحي روحاً لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح' وأقول إن الله سمى ذلك الوحي روحاً لأنها كالروح به يحيا الإنسان حياةسليمة أما بغير ذلك يحبون حياة المرضى ولا يمكن أن يسعدوا ولهذا قال تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
ثانيها: القوة والثبات والنصرة كما جاء في قولهتعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
ثالثها: جبريل كما جاء في قوله تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين). (قل نزله روح القدس من ربكالحق ليثبت الذين أمنوا)، (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله).
رابعها: يقال إنها هي الروح التي سأل عنها اليهود ونزل قوله تعالى: (يسألونك عن الروحقل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) وذلك لما وردت هذه الروح في قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن). (تنزَّلُالملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)، ويقول هنا ابن القيم إن كلمة الروح الواردة في قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي) هي المراد وهي الواقعة في جواب سؤال اليهود. خامسها: المسيح ابن مريم كما ورد في قوله تعالى: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه).
سادسها: روح الإنسان. وهي ما جاء في قوله تعالىعندما خلق الإنسان (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).
أما الأرواح البشرية فيمكن أن تعرف حتى على فرض أن السؤال في الآيةالكريمة (ويسألونك عن الروح) كان عن أرواح البشر فكما قلت سابقاً، إن الآية لا تفيد الاستحالة؛ لأن الله قال: (إنه من أمر ربي) والأمر قد يطلق على فعل الله، وعلى خلقه وعلىعالم الأمر أي عالم الأرواح ثم بيّن الله بأنكم لم تؤتوا إلا قليلاً من العلم ولم يقل ولن تدركوها، كما قال عند الكلام عن ذاته: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهواللطيف الخبير).
حقيقة إننا ما زلنا نجهل كثيراً من حقائق الروح كما نجهل كثيراً من حقائق البيولوجية والسيكولوجية للإنسان، لكن بقدر ما نستطيع أن نعرف منها نستطيعالتحكم في سلوك الإنسان ومعالجة أمراضه، وقد عرفت بعض صفات الروح.
وقبل أن نحاول تحديد تلك الصفات لننظر ماذا قال العلماء والفلاسفة عن الروح وصفاتها وإذا رجعنا إلىدراستهم وجدناهم قد اختلفوا اختلافاً كثيراً في بعض جوانب الروح، فقال الإمام الغزالي عن الروح بأنها 'لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفةهي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب'.
وهذا المعنى عنده هو المراد من كلمة الروح الواردة في قوله تعالى: (قلالروح من أمر ربي) وهذا التعريف عنده للروح المعنوي أو الروح المادي أو الحسي فيعرفها بأنها جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائرأجزاء البدن وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت فانه لا ينتهي إلىجزء من البيت إلا ويستنير به والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان والروح مثالها السراج. وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريكمحركه'. كما يعرف كلاً من القلب والعقل والنفس بالمعنيين: المعنوي والحسي، والمعنوي هو المعنى الأول للروح الذي يشترك فيه الجميع، أما الحسي فيختلف فيه كل واحد عن الآخر،فالمعنى الحسي للقلب هو أنه 'اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر، والمعنى الحسي للنفس' 'يراد به الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان' والمعنى الحسي للعقل'هو العلم بحقائق الأمور'.
ثم يقول بعد ذلك 'فانه قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة وهي القلب الجسماني والروح الجسماني والنفس الشهوانية والعلوم، فهذه أربعةمعان يطلق عليها الألفاظ الأربعة ومعنى خامس وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها فالمعاني خمسة والألفاظ أربعة'.
ويرىابن عربي أن النفس الناطقة (ويريد بها الروح) جوهر روحي مستقل عن الجسم وهي من العالم الملكي الروحاني وهي شريفة بحسب أصلها'.
ويرى الفيلسوف الألماني ليبنتز: كما يعبرعنه الدكتور محمود قاسم بقوله: 'جوهر بسيط لا ينشأ عن طريق التأليف بين العناصر المادية وهي لا تخلق إلا في الوقت الذي ينتهي فيه تعديل الجسم وتسويته لقبولها'.
ويعرفابن سينا النفس الإنسانية بعد أن يعرف النفس النباتية والحيوانية بأنها: 'كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفاعيل الكائنة بالاختيار والاستنباط بالرأي ومن جهةما يدرك الأمور الكلية'.
ويجب أن نلاحظ هنا أن النفس تستخدم أحياناً عند البعض بمعنى الروح كما قد يكون هناك تبادل في اللفظين، ونجد ابن سينا قد أخذ التعريف من أرسطوحيث أن أرسطو أيضاً عرَّف النفس من قبل بأنها كمال أوَّل لجسم طبيعي ذي حياة بالقوَّة نعني بجسم آلي.
وقال الإمام مالك: 'إن الروح هي صورة نورانية على شاكلة الجسمتماماً'.
وأخيراً عرفها السيد محمد الحريري البيومي بقوله 'أما حقيقة الروح وماهيتها فهي جوهر نوراني غير قابل للتقدير أو الوزن أو الحصر الخاص بالمادة لطيفهاوكثيفها، منافية لجميع ما هو معلوم، عاقلة عالمة بذاتها وبربها علماً ذاتياً بكليتها لانطباع جميع محيطاتها من عالمها فيها انطباعاً تقابلياً بالذات؛ إذ هي وحدة لاتتجزأ فينطوي فيها كل ما حولها انطواء الصور بالمرآة على أقرب تشبيه. ترى وتسمع وتذوق وتلمس بذاتها لا بحواس متفرعة كما للجسم، فتعلم بمقدار قوة إمدادها من أصل منزعها منالنور الأول الصادر من الأمر الإلهي، وأسبقيتها في الرتبة والصفاء؛ إذ لكل روح قوة علمية ونورية تختلف عن الأخرى وتتميز في الشكل النوراني واللَمْحَةَ للتباين والتعارفكما جاء في حديث عالم الذر 'الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إئتلف، وما تناكر منها اختلف' وهذه اللمحة والشبه التي تظهر في ملامح الوجه البشري عند التخليق في الرحم قالتعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء)، وأن الجسم ينشأ على منوال تشجع الروح ذرة ذرة، وأن اختلاف قوة النور ومقداره هو العامل لمواهب الشخص في هذه الدنيا من قوةوضعف في المعلومات والمعارف، إذ لكل روح طاقة، كما للجسم كلٌ بماهيته وإلا تساوت المعلومات وهذا محال في الإبداع الإلهي'.
تلك هي أهم التعريفات والتحديدات التي قيلتفي ماهية الروح وأحوالها وصفاتها وإذا تأملنا فيها وجدنا جوانب مشتركة إلى جوار الجوانب المختلفة فيها. فالجوانب المشتركة هي أن الروح جوهر بسيط (أي غير مركب) ولطيف (أيليس جسماً) وحسي بذاتها (أي لا يحتاج إلى غيره في الحياة كالجسم) وهي على صورة الإنسان وهي مصدر الإدراك والمعرفة ومصدر الشعور بالمسؤولية، وأصلها من عالم الأمر أو منعالم الأرواح وليست من عالم المادة أو الدنيا. ولهذا لا تفنى بفناء الجسم والمادة وعلى ذلك يمكن إجمال تعريفها على النحو التالي 'إنها جوهر بسيط لطيف حي بذاته يختلف عنماهية الجسم لأنها من العالم الإلهي متخلق على صورة الجسم الإنساني مرتبط بالجسم كله ارتباط سريان النور في الزجاجة وهي التي تدير الجسم وتضفي عليه صفاتها الذاتية منالإدراك والتعقل والشعور بالتسامي والمسؤولية الوجدانية والاحساسات الأدبية الجمالية'.
وبعد هذه المحاولات لمعرفة الروح نستطيع تحديد أهم صفاتها وهي المهم فيميدان تحديد دورها في سلوك الإنسان وكما اتجه إلى هذا النحو علماء النفس في الدراسات النفسية لمعرفة آثارها في سلوك الإنسان وصحة الإنسان وأمراضه. ويقول الإمام الغزاليفي ميدان أحوال الروح 'وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها'.
وأهم صفاتالمتصلة بالحياة الروحية والتي بها ويمكن تحديد أهم جوانب الحياة الروحية هي الصفات الآتية:
أولاً: النزوع إلى التسامي على مواصفات الحياة الحيوانية المادية الصرفةوالتشوق إلى الصعود إلى العالم الروحاني الذي إليه تنتسب حقيقة ونوعاً وكل شيء إلى أصله ينزع وإلى وطنه يحن ويبحث عن وسائل العودة إليه كلما تذكره. ولعل نداء الله إليهابقوله: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) كان تعبيراً عن ميلها الحقيقي إلى ذلك التسامي وتذكيرها بأصلها ونزعتها الطبيعية لتنبعث من رقدتها وترجع إلىعالمها الأصلي الذي به تكون حياته مطمئنة ومستقرة.
ويقول الدكتور ألكسيس كارل هنا: 'فمن حقائق الملاحظة التي لا سبيل إلى نكرانها أن الحياة تميل في آن واحد إلىالاستمرار في البقاء وإلى الامتداد والاصطباغ بالصبغة الروحية'.
والميل إلى التسامي يدفع إلى الاتصال بالله بالتطهر الظاهري والباطني والتوبة والتضرع والتقديسوالتعبد لأنها تعلم أن ذلك وسيلة الترقي والوصول إلى الله ونيل رضاه. وقد تقوى هذه الدافعية عند الشدائد والبأساء عندئذ يلجأ إلى الله تائباً ومتضرعاً وداعياً (فلولا إذاجاءهم بأسنا تضرعوا)، (تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين).
ثانياً: إنها تضيق بالرذائل الأخلاقية والجرائم والفواحش وتفرح بالتحلي بالفضائلوعمل الخيرات الكثيرة للناس. لأنها طاهرة الأصل ومن عالم الطهارة ومن كان كذلك فلابد من أن يضيق بالقاذورات المادية والمعنوية لهذا نجد علماء النفس يرجمون كثيراً منأسباب الأمراض النفسية إلى عذاب الوجدان نتيجة وقوع الإنسان في الرذائل الأخلاقية ولأنها لا تستطيع أن تترقى إذا انغمست في الرذيلة واللذات الحسية بل لابد من تضحيةالمرء بالشهوات وكثيراً من اللذات في سبيل السمو الروحي.
ثالثاً: أنها تضطرب وتقلق وتضيق بالحرمان من الحياة الروحية، كما يضطرب الجسم نتيجة الحرمان من الغذاءاللازم، لأن غذاء الروح هي الحياة الروحية وبالطبع فإن الإنسان إذا حرم من أي حاجة من حاجاته الأساسية يشعر بالكآبة والقلق والضيق ثم تضطرب حياته نتيجة لهذا وذاك،والحياة الروحية من ضمن الحاجات الأساسية بحكم الغريزة الروحية التي طبع عليها الإنسان ولهذا نرى بعض العلماء يعدون العبادة من ضمن غرائز الطبيعة الإنسانية ومن أمثالهؤلاء وليم مكدرجل والدكتور ألكسيس كارل، بل أن هذا الأخير يرجع وجود مثل هذه الغريزة في طبيعة التكوين البيولوجي في الإنسان إلى إفراز الغدة الدرقية مادة 'النيروسكين'في الأوعية الدموية فإذا كفت الغدة عن صب ذلك الإفراز لعامل خارجي أو داخلي لم يعد هناك ذكاء أو حاسة شر أو حاسة جمال أو حاسة دينية.
ونتيجة لهذا يبين كيف أصيب الناس فيهذه الحياة بالقلق والاضطراب والشعور بالضيق لما حرموا أنفسهم من الحياة الروحية وانغمسوا في المادية. يقول هنا وليس الفن والأخلاق والدين بأقل ضرورة من العلم. فالعالمالحديث يبدو لنا كالثوب المفرط في الضيق بمجرد أن يطبعه مذهب الحرية الفردية أو المذهب الماركسي بطابعه، ومما لا يقبله العقل أن يصبح الواقع الخارجي أضيق من أن يشملهالإنسان في كليته أو لا يكون تركيبه متفقاً مع تركيبنا من بعض الوجوه. فمن الحكمة إذن أن نجعل لعالم الروح نفس الموضوعية التي لعالم المادة'.
رابعاً: البحث عن اللهلشعوره بالحاجة إليه لتقديسه وعبادته.
فإذا أعدنا النظر إلى الأمم السابقة واللاحقة لا نجد أمة لم تبحث عن الإله ولا نجد أمة تركت العبادة لمعبودها الذي آمنت به،ولهذا نجد الدكتور ألكسيس كارل يعبر عن هذه الحاجة بأنها طبيعية في الإنسان فيقول: 'فلا يزال الإنسان مستمراً في سعيه الأبدي وراء الأساس الروحي للأشياء، وقد أحس بالحاجةإلى العبادة في كل العصور وفي كل الأقطار على وجه التقريب، فالعبادة تكاد تكون عنده ميلاً طبيعياً كالحب. ومن المحتمل أن يكون هذا البحث عن الله نتيجة طبيعية لتركيبعقولنا. ويقول أحد علماء الغرب: 'إن التطلع نحو المعرفة والتساؤل عن كيفية حدوث الأشياء ومسبباتها يعتبران من الصفات الهامة التي تتصف بها العقول البشرية الموهوبةفإذا آمن المشتغل بالعلوم بخالق هذا الكون فإن دراسته العلمية مهما كان اتجاهه سوف تزيده إيماناً بالله'.
ويقول هنا بسكال: 'إن طبيعة الإنسان أن يؤمن فإذا لم تتقدم لهأهداف صائبة سديدة يركز حولها إيمانه وحبه تحول إلى عبادة أهداف خاطئة فاسدة'.
إذن من هذا كله نستطيع أن نقرر بفطرية الدافع إلى التعرف على الخالق والتدين له، فالتدينفي أساسه فطري وعدم التدين انحراف عن الفطرة.
وينبغي أن نشير هنا إلى نقطة هامة وهي أن الغرائز أو الدوافع الفطرية تتفاوت فيما بينها من إنسان إلى آخر من حيث القوةوالضعف وقد تضعف أو تنمو بالإهمال أو طغيان غريزة على أخرى بحكم المهنة أو لظروف البيئة، وهذا ما يقرره رجال التربية أيضاً. وبذلك قد لا يبقى لها أثر ملحوظ في سلوكالإنسان وان كان لا يزول من الطبيعة تماماً ومن ثم يمكن أن يسلك الإنسان مسلكاً مخالفاً لتلك الدوافع الفطرية لدوافع أخرى فطرية أو غير فطرية. والدليل على وجود تلكالعاطفة أو الفطرة الدينية في الإنسان ما نراه في تاريخ الإنسانية عموماً منذ قديم الزمان إلى يومنا هذا. فما من أمة إلا ونجد في تاريخها البحث عن الله واتخاذ معبود لهاوعبادته وإن كان ذلك المعبود باطلاً.
إذن فإن ظهور بعض الثورات على هذه الظاهرة أو خروجها عليها بقصد أو بغير قصد من بعض الشعوب أو من بعض الطوائف في فترة من فتراتالتاريخ ليس بدليل أبداً على انعدام هذه الفطرة أو عدم وجودها في الإنسان مبدئياً، لأن السبب في ذلك قد يكون فساد صورة التعبد الشائعة فيها أو بطلان المعبود عقلياًوعلمياً. وقد يكون السبب في فساد الجماعة الخارجة. لأن الإنسان قد يفرط أحياناً في جانب من حياته أو ينمي ميلاً معيناً من ميوله الطبيعية بكثرة الاهتمام دون غيره فتؤديهذه الحالة أو تلك إلى تناسي أو تجاهل الجانب الآخر من طبيعته وحياته الفطرية. هذا إلى أنه من الممكن أن تكون ظاهرة اتخاذ المعبودات الباطلة دليلاً من أدلة وجود هذهالفطرة الدافعة في الإنسان لأنها قد دفعته إلى عبادة هذه المعبودات ولو كانت باطلة عند عدم وجود ما هو أصح منه وأحق بالعبادة في نظره، وإلا فما الذي دفعه إلى عبادةالأصنام والأبقار والأشجار وما إلى ذلك وهي كلها في الحقيقة لا تنفع شيئاً ولا تضر (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون).
ثم إن ما جاء به الإسلام من المبادئ فيهذا الصدد تتلاءم مع هذا المعنى للفطرة، ذلك أنه إذا كان الإسلام يدعو إلى التوحيد والعبادة لله الواحد الأحد فإنما يدعو بذلك إلى تطبيق ما فطر عليه الناس من الاستعدادالدافع إلى ذلك ولا يدعو إلى خلاف الفطرة ولهذا فلا يطلب ذلك من الحيوان لأنه لم يفطر ولم يخلق في طبيعته الميل والاستعداد للحياة الروحية ولا ينبغي أن يفوتنا هنا أمر مهموهو أننا إذا قلنا أن الإنسان فطر على تلك العقيدة فليس معنى ذلك أنه جميع الصفات الإلهية وأحكام العبادات التي جاء بها الإسلام مفصلة كانت كلها متطبعة في طبيعة الإنسانلأن الأمر لو كان كذلك لأفادت تلك الانحرافات وما يقوم به الأباء من تطبيع أبنائهم بعقائد مختلفة كما جاء في الحديث السابق ـ تغيير تلك الفطرة وقد نص الله تعالى في الآيةعلى أن تلك الفطرة لا تتغير ولا تتبدل (فطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ولكن الفطرة بالمعنى الذي ذكرناه 'يقبلالتوجيه وتغيير مجراه وتطبيعها بعقائد مختلفة كما حصل ويحصل دائما هنا وهناك، والإسلام يدعو إلى تطبيق الفطرة في الوجهة التي خلقت من أجلها، وبناء على ذلك فالإشهاد فيالآية السابقة لم يحصل بالفعل وإنما حصل بالقوة فان وضع الله في طبيعة الإنسان تلك الدافعية الروحية لتأليهه واعترافه بالربوبية يعتبر بمنزلة الإشهاد الحسي، وإلا لحصلالتناقض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) ولأدى الأمر إلى مسؤولية الأطفال وخاصة أطفال الكفار عن الإيمان بالله، ونحن نعرفأن الإسلام لم يجعل الأطفال مسؤولين حتى الكبار الذين لم تبلغ إليهم الدعوة لهذا ، قال تعالى: (ومن كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
من هذا كله نضطر إلى تفسير تلك الفطرةبالقوة الدافعة إلى التدين لأن القوة يمكن أن تظهر بالفعل في صور مختلفة فمثلاً القوة المدركة المخلوقة للاعتراف بوجود إله في الكون من غير تحديد الذات الإلهية في جميعصفاته المشخصة يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى أن يصور الله في أشياء معينة أو يضفي عليه صفات معينة، وكذلك قد يختلق أو يخترع صوراً معينة من العبادات لله وهذا ما حصل بالفعل.ومن هنا كان إرسال الرسل ضرورياً لتحديد الله بصفاته الكاملة وتحديد صورة العبادة له.
عن (فلسفة الحياة الروحية)