الطبيب النفسي المسلم
د. عبدالرحمن عيسوي ـ القدوة الحسنة والمثال الطيب الذي يقتدى به:
وعلى الأسرة المسلمة أن تربي أبناءها علىالإيجابية بأن نكلفهم بالقيام ببعض الأعمال، وتحمل بعض المسؤوليات، وقضاء بعض الحوائج حسبما تسمح قدرات الطفل العقلية والجسمية فلا تكلف نفساً فوق طاقتها. وعلى الأسرةأن توفر لأبنائها النماذج الفعلية في الإيجابية والجدية وتحمل المسؤولية، ذلك لأن الأب اللامبالي قلما ينجب إيجابياً، وهناك من الأمهات مَن يخفن على أطفالهن من القيامببعض الأعمال، ويعد هذا الاتجاه من الناحية السيكولوجية والتربوية والدينية، اتجاهاً خاطئاً. كذلك فإن رجال الوعظ والإرشاد، والدعاة للإصلاح، كما على الكتاب والمفكرينوأجهزة الإعلام أن تدلي بدلولها في غرس جذور الإيجابية وترسيخها وتأصيلها في أعماق الشخصية المسلمة. لا غرو أن مهنة إنسانية رفيعة، ترتبط بأسمى القيم الخلقيةوالإنسانية والمثل العليل والتضحية والإيثار والبذل والعطاء إلى الحد الذي جعل الأطباء يوصفون بحق، بأنهم ملائكة الرحمة. والتاريخ يحدثنا عن تصدي الأطباء لموجاتالأوبئة والأمراض المعدية والفتاكة في شجاعة وبسالة في المجتمعات البدائية والقديمة. وكثير ما راح الأطباء ضحية أو شهداء من أجل الحفاظ على أرواح إخوانهم من بني البشرولا سيما في المجتمعات الفقيرة. وكثير من أطباء العرب كانوا يعالجون مرضاهم بالمجان، بل إنه يروى عن الشيخ الرئيس ابن سينا. أنه كان يعالج مرضاه بالمجان، بل إنه كانيعطيهم الملابس ومصاريف عودتهم إلى ديارهم. وما زالت هذه المهنة تضم نخبة ممتازة من أصحاب العلم والخلق. ولكن ظهرت في الآونة الأخيرة، في المجتمعات العربية التي ما زالفيها العلاج بالأجر، ظهرت نزعات عند فئة قليلة من أهل هذه المهنة الشريفة جعلتهم يحولون هذه الرسالة المقدسة للطبيب إلى تجارة وإتجار، بل أخذوا في المبالغة في رض الأجورإلى حد الاستغلال والابتزاز. وسيطر عليهم نوازع الطمع والجشع والرغبة في الكسب السريع والثراء الفاحش. ومن حسن الحظ أنهم قلة نادرة وأن الغالبية الساحقة من رجال الطبالعرب يحاربون هم أنفسهم هذه النزعة ويقاومونها ويدافعون عن الدستور الخلقي لهذه المهنة الإنسانية الراقية. وإذا كان الالتزام الخلقي والديني ضرورة حتمية لكل فروعالطب، فإن الطب النفسي أكثر احتياجاً للالتزام بالمبادئ الدينية والخلقية، ذلك لأنه يتناول المريض، وقد احتواه الشعور بالبؤس والشقاء. بل إن التعاسة لا تصيب المريضنفسه وحده ولكنها تعم جميع أفراد الأسرة التي يخيم على جوها الاضطراب والقلق، ذلك لأن رعاية المريض النفسي أو العقلي مهمة صعبة. وبحكم المشاركة الوجدانية والترابط بينأفراد الأسرة فإن تعاسة أحد أعضائها تنتقل إلى بقية الأعضاء يضاف إلى ذلك ما للمريض النفسي والاضطرابات العقلية من انعكاسات سلبية على الحياة الاجتماعية برمتها. ولقدتطورت أساليب العلاج النفسي، وتعددت مناهجه وتنوعت مدارسه وأدخلت الآلات والمعدات في مناهج العلاج، وأصبح العلاج يعتمد على الفريق أكثر من اعتماده على شخص واحد بعينهوذلك لتكامل الخبرات وتضافرها، ولإمكان النظرة العامة للحالة المرضية، ولتبادل وجهات النظر المتباينة. إلا أن العلاج، في بيئة إسلامية، لابد وأن تكون له سمات خاصة،ولابد أن يتحلى الطبيب النفسي الذي يعمل على تربة إسلامية بسمات خاصة، ليتمكن من تحقيق رسالة العلاج النفسي على أكمل الوجوه وأطيبها. فإذا كان علم النفس يرمى في بلادالغرب بالإلحاد أو البعد عن حظيرة الإيمان، فإن علم النفس الذي يصلح للعمل على ارض إسلامية يجب أن يكون إسلامياً في منهجه وغاياته ومضمونه. ولابد وأن يتمشى مع أمهاتالثقافة الإسلامية ومقوماتها الأساسية، تلك الثقافة النابعة من تراثنا الإسلامي الحنيف. بل أن الطبيب الإسلامي المسلم مطالب وليس فقط في تحقيق الشفاء، وتحرير مرضاه بمايعانون من الأمراض والاضطرابات والأزمات، ويعيدهم إلى حياة التكيف مع أنفسهم ومع المجتمع الذي يعيشون فيه، بل أنه يعد مصلحاً اجتماعياً وداعية إلى الإسلام وشريعتهالسمحة، ومن هنا كان عليه أن يدعم في مرضاه تلك المبادئ الإسلامية الصالحة، فيسعى مخلصاً لغرس الإيمان وترسيخه في قلب المريض وحسه ووجدانه وعليه أن ينمي الشعور بالزهدفي الدنيا ومتاعها ولذاتها، وكذلك الشعور بالرضا والقناعة والورع والتقوى والخشوع لله تعالى، والتواضع. ويهيئ له جو الشعور بالهدوء والاستقرار والسكينة والتوكلوالاعتماد على الله تعالى. كما يسعى لتنمية قيم الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والجدية وتحمل المسؤولية والصبر والجلد. وفي ثنايا العلاج يستطيع أن يشجع مرضاه علىالصوم والصلاة والوضوء. ولا سيما وقد كشفت الدراسات الحديثة عن أهمية الوضوء في شعور الفرد بالهدوء والاسترخاء والسكينة والطهر والطهارة، ولعل هذا هو الأصل الإسلاميالذي حدا ببعض علماء النفس في الوقت الحاضر إلى استعمال ما يطلقون عليه اسم العلاج باستخدام المطر Water Therapy حيث يستحم المريض عدة مرات بالماء الفاتر ويضع نفسه تحت الدشلفترات يحددها له الطبيب النفسي. وعليه أن يشجع مرضاه للقيام بالحج وإيتاء الزكاة. فضلاً عما لهذه القيم والأنشطة الروحية من قيمة دينية وأخلاقية واجتماعية، فإن لهاقيمة علاجية كبيرة. ولقد أسفرت دراسات ميدانية كثيرة عن وجود ارتباط كبير بين الانحراف الخلقي والسلوكي وبين الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية. ولعل هذا الارتباط هوأظهر ما يظهر في حالة الأحداث الجانحين أي المجرمين الصغار Delinquents. ولقد أسفر تحليل العوامل السببية أنها واحدة في كل من الانحراف الخلقي أو الاضطراب النفسي. فإهمالالوالدين للطفل مثلاً، أو نبذه، وعدم الرغبة فيه، وحرمانه من إشباع حاجاته، والقسوة عليه، قد تقود إما إلى المرض النفسي أو إلى الجنوح Delinquents. إن تمسك الطبيب النفسيالمسلم آداب الدين ومبادئه لا يمنع بطبيعة الحال أن يستفيد من مكتشفات العلم الحديث ومنجزاته، وأن يستخدم، في علاجه أحدث ما توصل إليه العلم ولكنه مطالب أن ينتقي من بينتلك التنقيات ما يتفق مع الدين الإسلامي وأخلاقياته، وما ينمي في المريض القيم والسمات الإسلامية. بل إن مَن ينقب في تراثنا الإسلامي الحنيف ليجد الكثير من الأسسوالأساليب التي تصل للعلاج النفسي، ولتحقيق الشفاء، من ذلك فكرة الإيمان نفسها وغير ذلك من الأدعية والأحاديث النبوية المشرفة والإرشادات والتعاليم والأنشطةالإسلامية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نسوق للقارئ الكريم دعاء رسولنا الكريم (ص) عند الكروب أو الاكتئاب بلغة العصر ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا اللهرب العرش العظيم، لا إله إلا رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)) (متفق عليه). ويروي مسلم أن النبي (ص) كان يقول هذا الحديث إذا حزبه أمر أي نزل به أمر مهم أو أصابه غمكما كان يقول: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) رواه الترمذي.
كما كان يقول: ((اللهم آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)) رواه البخاري. كما كان يقول:((اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت)) رواه أبو داود.
وعند الفزع أو الخوف كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((أعوذ بكلمات اللهالتامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين)) رواه أبو داود. وفي الحقيقة أن الحياة الدينية، عقيدة وسلوكاً، تقود إلى التمتع بالصحة العقلية والنفسية بل إن هناك منرجال الغرب مَن اعترف بهذه الحقيقة كعالم النفس السويسري كارل جوستاف يونج Jung الذي قرر أنه كان يحقق شفاء مرضاه عن طريق إعادتهم إلى حظيرة الإيمان الذي أدى افتقادهم إياهإلى وقوعهم في براثن المرض والاضطراب.
إذا كان هذا هو الحال عند بعض الغرب فما أولانا ونحن أرباب حضارة راقية هي حضارة الإسلام أن نبحث بين طيات تراثنا ونستخرج منهدرره وجواهره النفسية ونربي عليها أبناء مجتمعنا. ومن هنا كان الإيمان أحد الأسلحة القوية التي يستطيع الطبيب النفسي المسلم أن يستخدمه في إعادة تكيف المريض وتحريره ممايعانيه من الآلام ومن مشاعر البؤس والشقاء والسخط والضجر والتبرم. لابد أن يكون الطب النفسي في بلادنا شخصيته الإسلامية المتميزة.
* المصدر: علم النفس الاسري وفقاللتصور الاسلامي والعلمي