أعمال المصارف
الاستاذ نوري كاشف الغطاء
تنحصر وضيفة المصارف الاساسية في استلام النقود من الاشخاص والمؤسسات غيرالقادرة على تشغيلها، وايصالها إلى الاشخاص والمؤسسات التي هي بحاجة إليها.
وتنقسم المصارف من حيث قيامها بتلك الوظيفة إلى قسمين:
القسم الأول: وهو الذييمنح قروضاً طويلة الأجل فيجهز الأموال اللازمة لشراء المكائن والاراضي وغير ذلك من النفقات الرأسمالية التي يتطلب تسديدها زمناً ليس بالقصير، ويمكننا ان نطلق على هذاالنوع، المصارف الصناعية، ولا يخفى ان ذلك لا يمنعها من القيام بمنح قروض قصيرة الاجل أيضاً.
والقسم الثاني: يقوم بمنح قروض قصيرة الاجل فقط فيجهز الاموالاللازمة لشراء البضائع المختلفة لمدة لا تتعدى تأريخ بيع هذه البضائع، ويمكننا ان نطلق على هذا النوع، المصارف التجارية.
ويوجد القسمان المذكوران في البلدانالمختلفة بدرجات متفاوتة، وقد تخصص بعض هذه البلدان بالقسم الأول كما تخصص بعضها الآخر بالقسم الثاني، وذلك لأسباب تطلبت ذلك، فقد تخصصت بلدان القارة الاوربية مثلألمانيا وفرنسا بالقسم الأول حيث كان ظهور النهضة الصناعية فيها متأخراً، أي عندما تطورت طرق الانتاج وتعقدت أساليبه؛ مما جعل من المتعذر قيام الافراد بتمويل المشاريع،فاوجدت هذه الحاجة إلى المال بدورها، ذلك النوع من المصارف الذي اظهر استعداداً للمساهمة في المشاريع بعد درسها دراسة وافية بواسطة الاخصائيين الذين كانت تحتفظ بهم تلكالمصارف لهذا الغرض وكانت هذه المصارف تشترط أيضاً ان تمثل في مجالس المدراء، لكي تضمن سيرها بصورة تطمنها على ما اسلفته اياها من أموال، وقد كانت هذه المساهمة مؤقتةتنتهي عندما تستطيع تلك المشاريع الوقوف على قدميها واثبات نجاحها للناس، فتقوم عندئذ ببيع ما لديها من أسهم وتستخدم الوارد منها لمشاريع اخرى.
وتخصصت انكلترابالقسم الثاني، ذلك لان نهضتها الصناعية قد بدأت قبل بقية الأمم وبصورة تدريجية، فكان تطور وسائل الانتاج فيها يجري على مرور الزمن مما مكن الافراد والعوائل من القيامبه بانفسهم بدون الالتجاء إلى مؤسسات قرض، وقد بقيت التشكيلات الصناعية فيها حتى الزمن الاخير على مقياس اصغر مما هي عليه في بعض البلدان التي بدأت فيها النهضة الصناعيةفي وقت متأخر، مثل امريكا وألمانيا وقد اعتبر هذا سبباً من أسباب عدم استطاعة البضاعة الانكليزية مزاحمة البضائع الاخرى في الاسواق العالمية بعد الحرب الماضية، ولكنهاوجدت ان الأخذ بالنظام القاري يؤدي إلى تقليل مرونة الجهاز المالي ضد الازمات المالية وان هذه المرونة ثمينة بدرجة توجب الاحتفاظ بها مهما كلف الامر، اذ ان هذه الازماتتعصف بالبلاد وتوقعها في مهاوي الهلاك والدمار وهذا هو الذي جعل الازمة العالمية عام(1929) على اشدها في الولايات المتحدة، حيث كانت المصارف هناك تتعاطى بالاسهم، وهذا هوالذي جعلها خفيفة الوطأة في انكلترا، وكانت النتيجة ظهور حل وسط للمشكلة وهو القيام بانشاء مؤسسات خاصة، لغرض القيام بتزويد المشاريع المختلفة بالمال اللازم لتجديد ماثبت عدم صلاحيته من معداتها.
ان الافضل هو الفصل بين النوعين أي تأسيس مصارف لكل من الغرضين على حده، مع العلم ان العادة الجارية هي ان كثيراً من الشركات-الصناعيةمنها والتجارية-تحصل على ما تحتاج إليه من المال بطريقة الاكتتاب رأساً؛أي انها تعرض اسهمها على الجمهور، ويتعين عندئذ للمساهم الغرض الذي تستعمل من أجله نقوده؛ وتوفرالشركات بهذه الواسطة مقدار الفائدة التي كانت تضطر إلى دفعها للمصارف لو انها اضطرت إلى الاستقراض منها، هذا بالاضافة إلى المضايقات والقيود التي يفرضها هذاالاستقراض، ولكن هذا لا يعني انه يمكن الاستغناء عن المصارف في هذا الميدان، اذ انها بما تقوم به من الدراسات الشاملة للمشاريع المختلفة، وبما تستخدمه من الخبراءالاختصاصيين، يمكنها ان تعطي فكرة أصح وأوضح منها، ويستطيع الفرد ان يسترشد بآرائها فتكون أعماله مأمونة العواقب، بالنسبة لما تكون عليه فيما لو تصرف بمفرده؛ ويتحتموجود المصارف؛ ولا سيما الحكومية منها، في البلدان الناشئة كبلادنا اذ يمكنها عندئذ ان تقوم بالتوجيه الاقتصادي وان تساعد المشاريع المفيدة إما مباشرة او بالواسطة.
وهناك من المصارف غير التي مر ذكرها وهي المصارف الزراعية التي تقوم بتخليص المزارعين من شره المرابين، وذلك بتسليفهم المبالغ لقاء فائدة معقولة، بالاضافة إلىانها تساعدهم في أعمالهم بتزويدهم بالبذور الجيدة، والاسمدة باسعار متهاودة وبتأجير المكائن الزراعية والادوات الحديثة باجور طفيفة.
وهناك المصارف العقارية،التي تنحصر أعماها في رهن العقارات وبيعها وشرائها مما يسهل على الناس امتلاك الدور، بعد مضي مدة معينة، وذلك بتقسيط الثمن واضافة فائدة معقولة ولا يخفى ما في ذلك مناعمار للبلاد، واستثمار لمواردها؛ وايجاد عمل لأبنائها ونشر الاستقرار والطمأنينة بين أفرادها.
وهناك مصارف التوفير وهي التي تعني بتشجيع التوفير بين أبناءالشعب، ذوي الدخل الصغير، مما يمكنهم من التأمين على مستقبلهم، ومستقبل عوائلهم، في حالة الشيخوخة أو حدوث الطوارئ، وتؤدي هذه التوفيرات المودعة بدورها إلى زيادة رأسالمال في الأمة، ويؤدي استثمارها إلى زيادة مماثلة في الدخل القومي وحصة كل فرد من أفرادها.
وهناك المصرف المركزي، الذي يقوم باصدار العملة، وتلجأ إليه عادةجميع هذه المصارف عند احتياجها إلى النقود، فهو الذي يزودها بما تحتاج إليه منها وهو الذي يحتفظ بما يزيد عن حاجتها؛ ويقوم المصرف المركزي بتوجيه سياسة البلاد الماليةحسبما يرتأيه من المصلحة فاذا ظهرت عوارض التضخم النقدي بادر هو بمكافحتها برفع الفائدة فتحجم المصارف عندئذ عن الاستقراض والاقراض، واذا وجد ان من المرغوب فيه زيادةكمية النقود في التداول نظراً للهبوط الناتج في الاسعار، وما يخشى منه من تأثير سيء على الانتاج بصورة عامة سارع هو إلى تخفيض الفائدة ليشجع المصارف على الاستقراض ويشجعالمنتجين على الاستقراض أيضاً لأن ذلك يقلل من تكاليف الانتاج.
ولا يخفى وجوب ارتباط المصرف المركزي بالحكومة ارتباطاً وثيقاً وذلك للأهمية الكبرى التي يحتلهافي كيان البلاد المالي والاقتصادي،وقد ارتأى كثير من الدول ان يقوم باستملاك المصرف المركزي نظراً لهذه الأهمية وذلك ما حدث في انكلترا وفرنسا مؤخراً ويمكننا ان نشبهالتشكيلات المالية المختلفة التي مرّ ذكرها بشكل هرم تكون قاعدته المصارف على اختلاف أنواعها ويتوج قمته المصرف المركزي.
ونتطرق بكلمة أخيرة إلى المصرف الدوليالذي تقرر انشاءه بموجب مقررات(بريتون وودز) وتتلخص مهمته في تثبيت عمل الدول المختلفة بالنسبة إلى بعضها البعض وذلك رغبة في تسهيل التجارة الدولية التي هي في مصلحةالجميع والتي وجد ان من أسباب عرقلتها ما يحصل بين الحين والحين من الاضطراب في علاقة العمل ببعضها.
ان الخطوة الاولى التي يجب القيام بها في هذا الباب هو تعيينالنسب بين هذا العمل بالاستناد إلى قوتها الشرائية، ويقوم المصرف الدولي بملافاة أي اضطراب غير مستند إلى أسباب أساسية في هذه النسب، وذلك باقراض البلاد التي حصلالاضطراب في عملتها بما تحتاج إليه من العمل الاجنبية لتقوية مركزها، مثال ذلك ما يحدث من التقلبات بنتيجة الاضطرابات السياسية التي تحصل في بلاد ما أو برغبة تلك البلادفي عقد قروض في الخارج مما يزيد في عرض عملتها وطلب العمل الاجنبية، وهذا بدوره يؤدي إلى انخفاض في سعر عملة تلك البلاد، بالنسبة إلى العمل الاخرى، ولما كان هذا لا يستندإلى أسباب مبررة فان المصرف الدولي يتدخل في مثل هذه الأحوال ويمد تلك البلاد بما تحتاجه من المال من رأسماله الذي ساهمت كل دولة فيه بنصيب.
أما اذا كان الاضطرابناجماً عن تضخم نقدي حصل في احدى البلدان مما أدى إلى تقليل قوة عملتها الشرائية واوجب اعادة النظر في النسب المعينة فلا يتدخل المصرف الدولي في الأمر وانما يترك الامورتجري مجراها الطبيعي حتى تأخذ النسب وضعاً يطابق مقتضى الحال.
اسم المجلة: الاعتدال مكان الاصدار: النجف الأشرف
العدد:1 تاريخ الاصدار: ربيع الثاني 1365هـ
الصفحة: 41 سنة المجلة: السنة السادسة