الشعوبية في السياسة والتاريخ
الشيخ علي كاشف الغطاء
أساليب الشعوبية
اولاً: وضع القصصوالانتحال:
ما كاد ينتصف القرن الاول للهجرة حتى كان فريق من سبي الفرس قد استعرب واتقن اللغة العربية واستوطن الاقطار العربية فما زال هذا الشباب الناشيء يتكلمالعربية ويحسنها احساناً تاماً كما يجيد العرب لغتهم حتى أخذ ينظم الشعر على غرار ما كان ينظم شعراء العرب شيئاً كثيراً وأضافوا إلى الجاهليين والاسلاميين اشعاراًواقوالاً لم تكن صادرة منهم[1]فهم بين ان يختلقوا القصص في سب العرب والغض منهم وبين ان يضعوا على ألسنة العرب كثيراً من النثر والشعر فيه مدح للفرس وثناء عليهم فهم زعموالنا ان الاعشى زار كسرى فمدحه وظفر بجوائزه واضافوا إلى كثير من الشعراء كثيراً من القصائد والمقطوعات على أنها صحيحة لا شك فيها[2]. فيكفي ان يحاول الشاعر من المواليالافتخار على العرب ليفكر في ان يثبت ان العرب أنفسهم كانوا قبل ان يتيح لهم الاسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدمهم ويقولون في ذلك الشعر ولا سيما اذا كانتالحوادث التاريخية والاساطير تعين على ذلك وتدني منه. وقد جاء في قصيدة مروية لأمية بن أبي الصلت يمدح بها الفرس[3]
بيضاً مرازبة غرا جحاجحة
اسدا تريب فيالفيضات اشبالا
من مثل كسرى وسابور الجنود له
او مثل وهرز يوم الجيش اذ صالا
ولعل بين هذه الابيات والابيات التي تروى لاسماعيل بنيسار وهو يفتخر بالفرس صلة وثيقة. قوله:
جحاجح سادة بلج مرازبة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابور الجنود معاً
والهرمزانلفخر او لتعظيم
ولقد فطن ابن قتيبة إلى هذا الوضع فجاء في رسالة العرب[4] (ويظهر بغض العرب. ينتقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها واظهار مثالبها وتحريفالكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهمها ألف وبآدابها تسلح عليها فان هو عرف خيراً ستره).
ولقد كان للشعوبية مجال كبير في الحديث فقد وضعوا الاحاديث الكثيرة في فضلالفرس واسندوها إلى الثقات والصحابة والتابعين مثل ما روي عن النبي(لانا بهم اوثق مني بكم) يريد الاعاجم وحديث(لا تسبوا فارسياً فما سب احد الا انتقم منه عاجلاً اوآجلاً[5]
ثانياً: الاستشهاد بالدين والاحاديث:
لعل معظم حركات هذا العصر تحاول ان تصطبغ بصبغة دينية وتحاول جهدها ان تظهر بمظهر الحق وان حركتها هذهموافقة لاحكام الدين. لتنطلي الحركة بهذا الاسلوب على الجماهير والعامة. فوراء ستار الدين كانوا يعملون كل شيء ليضموا عدم مقاومتهم من جهة وجذب اكبر عدد من الانصار فيالجهة الثانية.
ثالثاً: تأليف الكتب:
وضع الشعوبيين نوعين من الكتب:
(اولاً) كتب في مناقب العجم
(ثانياً) ما كتب في مثالب العرب
فقد ألف حميد بن سعيد بن البختكان كتاب(انتصاف العجم من العرب) وكتاب(فضل العجم على العرب)[6] وألف غيلان الوراق الشعوبي كتاب الميدان في مثالب العرب والذي يقول فيه ابنالنديم((أنه هتك فيه العرب واظهر مثالبها))[7]. وكذلك ألف الهيثم بن عدي كتاب المثالب الصغير والمثالب الكبير وكتاب مثالب ربيعة[8].
وقد ألف ابو عبيدة معمر بن المثنىوهو من أشهر العلماء في النحو والاخبار وألف كتاب مثالب العرب[9].
اثر الشعوبية
اولاً: السياسي:
مما سهل الأمر على الشعوبيين انهم استغلوا ما بينالعرب من تناحر حزبي ونزاع على الخلافة والزعامة فانهم شاركوا العرب في اغراضهم الشعرية كما قلنا سابقاً واغراضهم السياسية فكان من هؤلاء الموالي شعراء يتعصبون للأحزابالعربية السياسية ويناضلون عنها-ولا حاجة لاثبات أن هذا النضال لم يكن مندفعاً عن عقيدة واخلاص وانما هو في كنهه شعوبية صرفة فالموقف الذي وقفه هؤلاء من الاحزاب يسر لهممهمتهم تيسيراً فما يكاد أحدهم يظهر تأييده لحزب من هذه الاحزاب المتناحرة حتى يستبشر به أصحاب هذا الحزب ويعطفوا عليه ويجزلوا له العطاء ويذهبوا في تشجيعه كل مذهب علىنحو ما تفعل الاحزاب السياسية الان بالصحف التي تقف منها مواقف التأييد[10]. وان كل حزب من هذه الاحزاب كان همة الاول الفوز والانتصار على الخصم وفرض كلمته على مناوئيه وانمن أراد الفوز والانتصار لخليق بان لا يتريث في اختيار الوسائل ولا يتدبر العواقب. فنحن نرى ان الامويين والزبيريين والهاشميين يضمون كل من يعلن تأييده لأحدهم في قصيدةاو بيت وهكذا اصبحت الخصومة بين الاحزاب من العوامل المهمة التي ساعدت على اظهار الشعوبية فانها تبيح للمغلوبين الموتورين من الموالي ان يتدخلوا في السياسة العربية وانيهجون اشراف قريش وقرابة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)[11]. ويحدثنا الاغاني[12]ان الامويين كانوا يعملون على تشجيع ابي العباس الأعمى وان الزبيريين يشجعون اسماعيل بنيسار[13]. وقد كان هذان الشاعران يستبيحان لأنفسهما هجو أشراف قريش خاصة والعرب عامة بحجة التأييد لآل مروان او آل الزبير، ولعل اسماعيل بن يسار أظهر مثل لهذه الطائفة منالشعراء الموالي الذين كانوا يغضون العرب ويزدرون بهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتهم واهوائهم فقد كان اسماعيل هذا زبيري الهوى فلما أصبح الأمر إلىآل مروان انقلب اسماعيل مروانياً وقبله آل أمية. قد جاء في الاغاني[14] وكان-أي اسماعيل- منعطفاً إلى آل الزبير فلما افضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وفد إليه مع عروة بنالزبير ومدحه ومدح الخلفاء من ولده وعاش طويلاً إلى ان ادرك آخر سلطان بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية. ولقد كان المروانيون بحاجة إلى اصطناع هؤلاء الشعراء لعلمهمبمنزلة آل هاشم في النفوس ويروي لنا الاغاني[15] ((ان اسماعيل بن يسار استأذن في الدخول على الغمر بن الوليد يوماً فحجبه هذا ساعة عند الباب ثم أذن له فدخل يبكي فقال لهالغمر((ما لك يا ابا فائدة تبكي)) فأجاب كيف لا وانه يبكي على مروانيته ومروانية ابيه فكيف يحجب عن الخليفة. فلما خرج لحقه رجل فسأله عن هذه المروانية اين كانت له وكيف كانتفاجابه(بغضنا اياهم وأمرأتي طالق ان لم تكن امي تلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح) وان ابوه عندما حضره الموت قيل له قل لا اله الا الله فقال ألعن مروان تقرباً بذلك إلىالله. وله في الافتخار بالفرس والحط من شأن العرب.
رب خال متوج لي وعم
ما جد محتدى كريم النصاب
انما سمي الفوارس بالفر
س مضاهاةرفعة الانساب
فاتركي الفخر يا امام علينا
واتركي الجور وانطقي بالصواب
اذ نربي بناتنا وتدسون
سفاها بناتكم في التراب
ولقد كان اصبع الشعوبية يمتد إلى ابعد من هذا الحد فلقد شاهدنا كثيراً من الحركات والثورات التي قامت ضد الدولة العباسية أصلها خيبة الموالي في استرجاع حقوقهمواعادة ملكهم. ويرى الخطيب التبريزي ان الافشين لم يكن يضمر الكراهية للدين الاسلامي فحسب وانما يضمر العداء والكره للعرب وهذا ما حمله على تشجيع مازيار على الثورة[16].
ثانياً: الاثر العلمي والادبي:
لقد رأينا كيف كان الانتحال في الشعر والادب من احدى الوسائل المهمة التي تذرع بها الشعوبيون بقصد تأييد ما يذهبون إليه ومايزعمونه. وان الشعوبية لم تلبث ان استحالت بعد قيام الدولة العباسية وحضوة الفرس ببعض ما فقدوه من سلطان ونفوذ على أيدي بني العباس إلى خلاف له صورة علمية ادبية قريبة منالبحث والجدل[17] وكان هذا النوع من الشعوبية قد حمل العرب والفرس على الانتحال والاسراف فيه مما أدى إلى طمس كثير من الحقائق في الادب والعلم. واننا نلاحظ ان الكثرةالمطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الادب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم والموالي وكانوا يستطيلون بسلطان الوزراء. والمشيرين من الفرس وكانت غايتهم قداستحالت إلى اثبات اسبقية الفرس في الملك والسلطان[18] وإلى ترويج هذا السلطان الذي كسبوه في ايام بني العباس واقامة الأدلة الناهضة على ان الأمر قد رد إلى اهله. على ان هذاالانتحال الذي قام به الشعوبيون من العجم لم يكن مقتصراً عليهم بل كان لهذه الحركة رد فعل من قبل العرب فقد كان العرب مضطرين إلى ان يجيؤا بلون من الانتحال يشبه هذا اللونالشعوبي حتى يستطيعوا منه تغليب العرب على الاعاجم وفيه اثبات بان ملك الفرس في الجاهلية وتسلطهم على العرب لم يكن من شأنه ان يذل العرب وأن يقدم عليهم اولئك فاصبح العربمكرهين على اجابة الانتحال بمثله.
والذي يلاحظ ان في هذا العصر العباسي الأول العصر الذي دونت فيه العلوم وتأسست فيه النهضة العلمية التي بنيت عليها النهضاتالتي آتت أكلها في العصور العباسية المتعاقبة في هذا العصر نفسه نرى الحركة الشعوبية قد بلغت اوجها فقد كان الاساس لكل حركة علمية مشوباً بما دسه الشعوبيون في العلوموالمعارف فافسدوا كثيراً من الحقائق. وقد هولوا كثيراً ما رووا لنا من تاريخ الفرس وآثارهم وحاولوا ارجاع كل أمر إلى اصل فارسي[19]. ومن آثار هذه الشعوبية الكتب التي ألفهاالجاحظ وابن قتيبة وغيرهما في الرد على الشعوبية والذي لا شك فيه ان الجاحظ وامثاله الذين عنوا بابرد على الشعوبية مهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا انيعصموا انفسهم من هذا الانتحال الذي اضطروا إليه لاسكات خصومهم.
وجاء في الادب الجاهلي[20] ان هناك نوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية تجده بنوع خاص في كتابالحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها اصحابها نحو الادب ذلك ان الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى ان يزعموا ان الادب العربي القديم لايخلو ولا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة. فاذا عرضوا لشيء مما في هذه اعلوم الاجنبية فلا بد من ان يثبتوا ان العرب قد عرفوه او ألمو به او كادوا يعرفونهويلمون به.
فيجب ان يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء، وهم مضطرون إلى ذلك اضطراراً ليثبتوا فضلهم على الأمم المغلوبة. واضطرارهم يشتد ويزداد شدة بمقدارما يفقدون من السلطان السياسي، وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رؤوسها.
ثالثاً: الزندقة او الأثر الديني:
((ليست الزندقة الا مظهراً من مظاهرالشعوبية وليس تفضيل النار على الطين وابليس على آدم الا مظهراً من مظاهر الشعوبية الفارسية التي كانت تفضل المجوسية على الاسلام[21])) ولقد عمد هؤلاء الشعوبيون إلى افسادالدين بالزندقة كما عمدوا من قبل إلى افساد العلم بالاكاذيب، ولقد جاء في رسالة العرب لابن قتيبة[22] (وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوفالسيف وتغض من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اذا ذكر بالشجاعة وتطرف منه على القذى وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفاه).
وجاء في كتاب الحيوان للجاحظ[23](فانما عامة من ارتاب بالاسلام انما جاءه هذا عن طريق الشعوبية) فقد كانت في الحقيقة حركة كثير من الزنادقة شعوبية بحتة فلم تكن زندقتهم كراهة للاسلام من حيث هو دين لهتعاليم خاصة لا توافق عقولهم فحسب. ولكن كان ذلك ناشئاً بسبب شعورهم بالقومية أيضاً واكثر ما كان هذا في اقوام من الفرس يحنون إلى ملكهم الضائع على ايدي العرب[24] وان هذاالضياع لم يكن يتم للعرب لولا دينهم الجديد فهم قد كرهوا العرب وكرهوا الاسلام ولهذا السبب تزندقوا وذهبوا يطعنون في الدين ويفسدونه بشتى الحجج والوسائل. فاما الزندقةبمعنى البحث في الاديان بحثاً عميقاً يسلم احياناً إلى الشك او الانكار فذلك كان قليلاً[25].
والذي نلاحظه في حركة الزندقة انها انتشرت في موال من الفرس، ذلك لأنمن الطبيعي ان ينزع اليها من كان يرغب في اعادة المجوسية التي هي أصل مجدهم ورمز ماضيهم فقد تستر وراءها من ديانات الفرس الشيء الكثير[26].
هذا ما عن لي من حركةالشعوبية في التاريخ الاسلامي وهي من أخطر الحركات التي كادت للدولة العربية وعسى ان يكشف البحث لغيري نواحي اخرى منها لم أوفق إليها والله من وراء الجميع..
[1] الادب الجاهلي ص169.
[2] الادب الجاهلي للدكتور طه حسين ص170.
[3] الادب الجاهلي ص169.
[4] رسائلالبلغاء ص270.
[5] ضحى الاسلام ص75.
[6] الفهرست لابن النديم ص123.
[7] الفهرست ص105.
[8] ضحى الاسلام ص68 ج1.
[9] الادب الجاهلي ص173.
[10]الادب الجاهلي ص167.
[11] الادب الجاهلي ص167.
[12] ج15 ص62.
[13] الاغاني ج4 ص119.
[14] ج4 ص118.
[15] ج4 ص119.
[16] الاعتدال ص373.
[17] الادبالجاهلي ص172.
[18] نفس المصدر الادب الجاهلي.
[19] ضحى الاسلام ص158.
[20] ص174.
[21] الادب الجاهلي173.
[22] رسائل البلغاء ص158.
[23] ج7 ص68عن ضحى الاسلام.
[24] ضحى الاسلام ص158.
[25] ضحى الاسلام ص158.
[26] ضحى الاسلام ص158.
اسم المجلة: الاعتدال مكان الاصدار: النجف الأشرف
العدد:7 تاريخ الاصدار: شوال 1365هـ
الصفحة:511 سنة المجلة: السنة السادسة