مقوضات المودة
الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء
النجف الأشرف
بسم الله الرحمن الرحيم
حرصتالشريعة الإسلامية بتوجيهاتها الصائبة وتعليماتها السديدة على غرس الحب والمودة في النفوس ليعيش بنو البشر حياة كلها رغد وسرور وتحف بها الأفراح ويغمرها الإخاءوالوفاء، وحذرت وأنذرت الناس من كل ما يبعث في النفوس من الضغائن والبغضاء لما في ذلك من ضرر وخطر على المجتمع والفرد,فنهت عن التخلق بكل الصفات المقوضة للمودة التي تقطعهذه الصلة الروحية والرابطة المقدسة وهي:-
1. التملق: وهو الجرثومة الفتاكة التي تنخر في هيكل المودة التي تقضه من أساسه وتقوض دعائمه,لذلك أمرنا الرسول الأعظم(ص)بالإخلاص في المودة وحذرنا من التملق وأنذرنا بعواقبه الوخيمة,قال رسول الله (ص)(ذا الناس أظهروا العلم,وضيعوا العمل,وتحابوا بالألسن,وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوابالأرحام لعنهم الله عز وجل وأصمهم وأعمى أبصارهم).
وقال الإمام العسكري (ع) :(بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا,إنْ أُعطي حسدهوإنْ ابتلى خذله).
2. الخيانة: وهي من أفضع الجرائم وأقبح الرذائل تكشف عن خبث السريرة وانحطاط الأخلاق,لذلك حذروا أهل بيت العصمة الملأ الإسلامي من التلوث بهذهالصفة الرذيلة,قال أمير المؤمنين (ع) : (المؤمن لا يعير أخاه ولا يخونه ولا يتهمه ولا يخذله ولا يتبرأ منه). ومصاديق الخيانة عديدة منها: (إذا استشارك أخوك فأشرت عليه برأيتعلم أنّ فيه ضررا عليه فقد خنت,كما قال رسول الله (ص):(من أشار على أخيه بأمر يعلم أنّ الرشد في غيره قد خانه)، ومنها: أنّ تحفظ على أخيك بعض زلاته لتفضحه بين الناس,وهذهالناحية إلى الكفر أقرب لما روي عن نبي الرحمة :(أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم),ومنها: أن يستعين بك أخوك في حاجةفلا تبالغ في قضائها بكل جهدك,قال الإمام الصادق (ع) (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ فيها بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).
3. الجدل والمراء:وهما مكدر للصفاء بين الناس ومقوضا لدعائم الأخوة ولو كان المرائي والمجادل محقا في جدله فإنّ من عاشر الناس ووقف على شؤونهم يلمس ما للمجادلة والمخاصمةمن مضار وخيمة ونتائج سيئة توقع الضرر العظيم وتورث في القلوب العداوة والبغضاء. قال الرسول الأعظم (ص): (إياكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلب على الإخوان وينبتعليها النفاق). وقال الإمام الهادي (ع) :(المراء يفسد الصداقة القديمة,ويحل العقدة الوثيقة,وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة والمبالغة أس أساس القطعية).
4. التكلف:وهو الداء العضال لقطيعة الناس والتدابر,قال رسول الله (ص): (شر الأصدقاء من تكلف له), وقال أمير المؤمنين (ع) (شر الألفة ترك الكلفة),ويعرف المتكلف بالعلامات التي ذكرهارسول الله (ص)بقوله: (إن للمتكلف من الرجال ثلاث علامات: يتملق إذا شهد ويغتاب إذا غاب,ويشمت بالمصيبة).
5. الشماتة: وهي أن يفرح بما يقع على أخيه من بلية ومصيبة أويبدي بأنه مستحق لمثل هذا السوء فعله وعمله,والشماتة لا تكون إلا من العدو المستتر الذي من الصعب على الإنسان أن يحذره ويتقي شره وهو أضد على الإنسان من العدو الظاهر,لأنالإنسان يستطيع أن يبتعد عن عدوه ويفر منه لئلا يصيبه منه أذى ويقول الشاعر المتنبي في هذا:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدو له ما من صداقته بدُ
ولذلك حذرنا أهل البيت (ع) من التخلق بهذا الخلق الذميم,وأمرونا أن ننطوي على قلب سليم,قال الإمام الصادق (ع) : (من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج منالدنيا حتى يفتتن).
6. الأنانية: وهي أن يهتم بنفسه دون غيره,ولا يفكر في مصلحة سواه,فنفسه هي المطمح الأسمى في حياته,ومصلحته هي الغاية القصوى في دنياه وهي صفةبغيضة يستنكرها كل إنسان,ولكن قل ما يخلو منها إنسان,ولقد كافح الإسلام الأنانية مكافحة لا هوادة فيها حيث بنى مبادءه السامية وتعاليمه العالية على المصالح العامةوالمنافع المتبادلة وركز أسسه على القاعدة الكبرى التي صدع بها صاحب الرسالة (ص)بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
7. النسيان: وهو أكبر مقوض لكيانالمودة مفرق للإخاء,لذلك أمرنا أهل بيت العصمة (ع) بأن يتعاهد الإنسان أخيه ولا ينساه فالنسيان يسبب التباعد ويقطع علائق المودة والإخاء كما قال أبو الأئمة وسيد الأمةعلي بن أبي طالب (ع): (وترك التعاهد للصديق داعية للقطعية). وسئل (ع) عن المروءة فقال: (إطعام الطعام,وتعاهد الأخوان,وكف الأذى عن الجيران).
8. التفريق: هو العاملالرئيسي في أحداث الضغائن في القلوب,فلابد أن يساوي الإنسان في المظاهر الودية بين الناس من حيث الإقبال عليهم والترحيب بهم والتحدث معهم والإصغاء إلى كلامهم وما شابهذلك من مظاهر الود فيما لو كانوا مجتمعين أما لو لاقى الإنسان أخاه منفردا فليعط كل ذي حق حقه,والى هذا أشار الإمام الصادق (ع) (إذا كان ثلاثة في بيت فلا يتناجى اثنان دونصاحبهما فإنّ ذلك مما يغمه).
نعم يجوز للإنسان أن يفرق بين الناس من حيث الحب القلبي فإنّ هذا متفاوت لا محالة بحسب صفات المحبوب ومميزاته وخصائصه,كذلك يمكن أنيفرق بين الناس من حيث التقدير والإكبار الشخصي,فيعطي كلاً منهم ما يستحق من الإكرام والاحترام فإنّ الناس يختلفون من حيث المواهب والخصائص والملكات درجات وطبقاتفهنالك طبقة العلماء والحكماء والأتقياء وهي الطبقة العليا,وهنالك طبقة الجهال والفساق والأشرار وهي الطبقة السفلى وبين هاتين الطبقتين منازل متعددة ومراتب كثيرة,وقدنص القرآن الكريم على هذا التفاوت والاختلاف بقوله :[ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] وقال سبحانه وتعالى :[انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا] وقل عز شأنه :[ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَكَالْفُجَّارِ) وقال جلت قدرته :[ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ].
نعم الناس من حيث المبدأ والنهاية سواسية كأسنان المشط كلهملآدم وآدم من تراب.
9. الإيذاء: وهو أن يمس الإنسان أخاه بسوء وأذى فإنّ كثيرا من الناس من يستسيغون إيذاء إخوانهم بأيديهم أو بألسنتهم وهو يحسبون أنهم يحسنونصنعاً,فترى بعضهم يوجه أقسى الكلمات وأقبحها أو أشد الضربات المؤلمة لصاحبه,فإذا استنكر صاحبه منه ذلك اعتذر بأنه يمزح ويمرح وقد نهانا الرسول الأعظم وأهل بيته عنالإيذاء والاعتداء وعدوا ذلك خرقا لحقوق المودة وانتهاكاً لحرمتها فإنّ المودة يشترط فيها خلوها من الإيذاء,قال رسول الله 2:(لا يحل للمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه).نعم أمر أهل بيت العصمة 'ع' بأن تبنى حياة الناس على الإنصاف والإحسان والرحمة وألا يسيء أحد إلى أحد قال الإمام الصادق (ع) : (ثلاث يجلبن المودة:الإنصاف في
المعاشرة والمواساة في الشدة والانطواء على قلب سليم).
10. الهجران: هو قطع حبل المودة ونقض عقد الأخوة وفصم عرى الصداقة وهجران الإنسان لأخيه عمل يستنكره العقلالسليم ويأباه الضمير الحي قال رسول الله (ص)في وصيته لأبي ذر رضوان الله عليه: (يا أبا ذر إياك وهجران أخيك فإنّ العمل لا يتقبل مع الهجران يا أبا ذر أنهاك عن الهجران وإنكنت لابد فاعلا فلا تهجره فوق ثلاثة أيام فمن مات فيها مهاجراً لأخيه كانت النار أولى به) وقد أمرنا أهل بيت العصمة 'ع' بصلة الأخوان ولو بطيب الكلام فقال الإمام الصادقالصديق (ع) : (صلوا أخونكم وبروهم ولو بحسن الكلام ورد الجواب) وأنّ الوصل بعد الهجران والرجوع بعد الإدبار يحتاج إلى أمر يسير وهو شيء من حلاوة اللسان وطلاقة الوجهوالإغضاء عن الإساءة والصفح عن الذنب كما قال الإمام الصادق (ع) :(إنّ سرعة ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة اختلاط ماء السماء بماءالأنهار، وإنْ بعد ائتلاف قلوب الفجار إذا التقوا وإنْ أظهروا التودد في ألسنتهم كبعد البهائم من التعاطف وإنْ طال اعتلافها على مذود واحد) والمذود معلق الدابة وكلماكان الهجر أطول كان أعظم جرما وأكبر إثماً,كما قال رسول الله (ص): (هجر الرجل أخاه سنة كسفك دمه).
وفي الختام نسأل الله تعالى بجاه من لذنا بجواره مولانا أميرالمؤمنين (ع) أن يجنبنا مقوضات المودة ويحبب إلينا علائق الأخوة إنّه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.