العدد الأول من مجلة الديوان
الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم انكشفت حاشية من الحجاب المرخى عن الثقافة القابعة في زوايا الاقطار العراقية، وسطع وميض من المضاء والعزيمة في أفق الآداب لما انقذت فئة من افاضلنا تصميمها علىاصدار مجلة الديوان الغراء.
كيف تكونت هذه الثقافة؟!
تخطى الفقه الإسلامي القرون الوسطى وهو يسحب من ورائه جملة من العلوم وقد فتح أمامه مضاميرها ومهّدلها ميادين العرفان والدراسة.
فإن أثمن ما تخلفته تلك القرون وورثته من القرون الأولى الإسلامية من النظريات والآراء والمعتقدات أصرارها إن خلاصته العقيدةالإسلامية وفذلكتها التي هي البذرة الأولى التي تتفرع منها فرقها ونحلها، وهي رمز الوحدة الاسلامية لشعوبها المختلفة ومعقد جامعتها، هي مناط سعادتها وهنائها الخالدوعليها ترتكز قواعد عظمتها وتبتنى عروشها وتنعقد تيجانها ولا يكفل النظام العادل إلاَّ بقوانينها ونواميسها التي يحتكرها الفقهاء الذين هم مرجع القوة التشريعيةالمؤيدة بإرادة الملأ الأعلى التي يعول عليها في تشييد الاجتماع على أسس عادلة رصينة والفقه والفقيه مستودع العدل الاسلامي والقيم عليه.
وقد نفذت روح دينية فيتلك الأيام في سائر نواحي الحياة، وشملت كافة المقدرات الشخصية فكان الناس يأكلون ويشربون وينامون في الدين ويتطببون في الدين، وتتمشى اقتصادياتهم بالدين، وقد أصبحالدين لهم كل شيء في كل شيء، وكانت العروش والتيجان تبني مذاهبها في السياسة على ما يدعيه الفقه الإسلامي من الحق في تسيير الناس على السنة القويمة، وتعالج كل قضية منالقضايا الاقتصادية والسياسية والحربية كأنها قضية لاهوتية، ومن جراء ذلك شعر الفقيه بمسؤولية عظمى ولزمه أن يحذق في سائر الفنون التي يتطلبها الاجتماع ليبني عليهااحكامه من الطب والهندسة والاقتصاد وأصول القضاء والمحكمات وغير ذلك.
التخصص في الفقه الإسلامي
والمباني والأصول الفقهية والأدلة الاستنباطيةوالقواعد الاجتهادية تنظر في القظايا الحيوية بصورة عامة وتعالجها بنواميس شاملة، والفقيه من له ملكة تطبيق تلك النظريات في مواردها وإرجاع تلك الموارد إلى وحدتهاالاساسية والفقه محاولة فنية ترتكز على براعة وذكاء يستطاع بهما مزج القضية التي انصرفت إليها العناية بما عداها، والظفر بالجهة المعنوية التي تنظمها مع غيرها في سلكواحد وقاعدة معينة، فليس للطب فقه وللاقتصاد فقه آخر وفقه ثالث للقضاء، إنما الفقه واحد لا يتعدد والغرض أنه ليس لكل ناحية من نواحي الحياة قواعد معينة تعالج قضاياها بهامنفردة وإن كان فيها ما يختص بقسم خاص، بل في أدلة الفقه ما يخص موضوعاً معيناً لا يتعداه، وكثير من القراء من طرق سمعه النزاع المحتدم بين الاصوليين في مسألة الاجتهادالمتجزئ والمطلق.
صدى تلك المسؤولية التي يتحملها الفقيه المجتهد
وكان لصدى تلك المسؤولية أثر بالغ في تطور الدراسة الفقهية ونموها وزكاها، وقد شعرالفقهاء بما يتحتم عليهم من الدروس الطويلة العريضة وما يلزمهم من الإلمام بكثير من العلوم والفنون من باب التمهيد ومن قبيل المبادئ، وقد استراحوا نوعاً ما في ما شرّع منصحة الاعتماد على ذوي الخبرة في كثير من القضايا الشخصية التي لا يستطيع الفقيه أن يبت رأياً فيها مستغنياً عنهم.
وللرغبات الغريزية والميول النفسية في بعضالفنون والحرف شأن كبير في الحياة العلمية الأدبية، وتبدو لنا جلية ناصعة هذه الحقيقة متى علمنا إن إخماد الرغبات الطبيعية لا يجيء بالغاية المنشودة، بل ربما جاءبنقيضها، وقد كلفَّ جهلها الإنسانية الكثير من الآلام الروحية لما فاتها استغلال الميول والشهوات وتتسخيرها على ما انطبعت عليه غرائزها وما استدعته بواعثها.
أما تعليل هذه الميول والبواعث فهو من أسرار علم النفس الغامضة، ولو قدر لنا أن نظفر به لتقدّمت العلوم إلى أعلى مستوى فيها على أيدي من هم أحق بها من سواهم بالطبعوالغريزة.
الغرائز والبواعث
ولقد فشى العمران في الأمة الاسلامية واتسعت ممالكها وانهمرت عليها سيول الثراء واليسار، وكان الدين من وراء ذلك هو المهيمنعلى تلك الوحدة الاجتماعية الكبرى، وكان الفقهاء أو المجالس التشريعية في الحكومات الديمقراطية في كل يوم يمتحنون بشأن اجتماعي حيوي واقع في تلك الأمم الاسلامية التيتتخذ آرائهم دساتير لها في جملة قضاياها الحيوية، ويرتطمون بمسألة يتحتم عليهم أن يجدوا لها مخرجاً فقهياً سماوياً فعاد عليهم من الضروري أن يعالجوا علوم الحياةويدرسوها ويتفقهوا قواعدها.
وليست الديانة الاسلامية كأغلب الديانات العالمية قد أقتصر وحيها على العقائد ومحض الإيمان ومقترحات الناسك وصلات العبادة للإنسانببارئه، وصرفت النظر على السنن التي يتمشى عليها الاجتماع في هذه الحياة، وقد أقعدت الفقهاء هذه المداخلة في الاجتماعيات على الأسرة السامية وألبستهم جلابيب العظمةوأفسحت لهم مجالاً من الكرامة لا يحاوله من عداهم، وطأطأت العروش الجبارة لذلك مذعنة لهم صاغرة، وأغرى بعضهم هذا المجد الشامخ فأندفع لدراسته بسائق دنيوي لا لينالالسعادتين، ويكون عضواً مهماً في جسم المدينة الفاضلة بل ليتخذه سلاحاً يناضل به من يناصبه في شهواته وأهوائه.
وعندئذٍ لبّى الفقهاء داعي الضرورة وأخذوا يدرسونفروع تلك العلوم التي هي من قبيل المبادئ الفقهية وفيهم من ملكته غرائزه الفطرية وغلبته بواعثه النفسية فلم يستطع أن يقهر نفسه على استطراق ذلك الفن الذي درسه لغايتهالمنشودة فصرعه هواه فيه وميله له واستبحر فيه وتعمّق وتخصص، وقد أعقب ذلك أن بزغ في الأفق العلمي الإسلامي اساتذة بارعون وعلماء فطاحل اختصاصيون ذوو آراء قيمة ونظرياتمبتدعة واستحال المبدأ غاية والواسطة نهاية.
ولما استغل الناس ثمرات تلك الفنون وسائهم سوء تصرّف بعض الفقهاء ظهرت في أواخر القرون الوسطى دعاية قوية لتحصيل تلكالعلوم حتى من رجال اللاهوت أنفسهم ومن ذلك ما نقرأه كتاب (تهافت الفلاسفة) و(احياء العلوم) للغزالي من تفضيل من يتعلمون الطب على الفقهاء وكلمته المأثورة معروفة وهي: (إنمن يقولون إن علوم الدنيا تنافي الدين، يجني على الدين)، وقد تردد صدى تلك الدعاية من بعد ذلك في العواصم الاسلامية، ونشأت دور العلم في مصر والشام على عهد الجراكسة وفيالقسطنطينية على عهد محمد الفاتح وأعظمت لها الاعطيات والهبات وحبست في سبيلها الاوقاف، وفي عهد العاهل التركي سليم الثالث نشأت الدولة على طراز أوربا في تعلم فنونالسياسة والحرب وما ينبغي لها من الاجتماع والرياضيات والطبيعيات.
الصراع بين علوم الدين والدنيا
لم يكن العلم الديني الإسلامي لأول عهده إلاَّ بسيطاًمجملاً وهكذا وردت تعاليمه في القرآن الكريم كقوله تعالى: [أقيموا الصلاة]، [وآتوا الزكاة]، [كتب عليكم الصيام]، [ولله على الناس حج البيت]، [أوفوا بالعقود]، [أحل اللهالبيع]، [فرهان مقبوضة] إلى غير ذلك، وكان السلم يقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلمه الدين في ساعة ثم يقول له: (أذهب راشداً وبشر عشيرتك وأهلك فقد عرفت من الدينسره). ثم تسرمت برهة من القرن الأول فأرهفت القرائح وتطلعّت النفوس الطوامح، وقد مدّت جزيرة العرب إلى الأمم التي قهرتها عنقها تكرع من غير حضارتها وتتعطر مشامها بأنفاسمدينتها، وقام سراة الدين الاسلامي يؤدون العهد السماوي والأمانة الإلهية ويمتحنون من تلك الكواظم ما يصحر عن ايجازها ويفصح عن اجمالها، وكانت من ورائهم فلسفة الأممالمجاورة للجزيرة وتكشر لهم عن أنيابها وترميهم بحمم ملتهبة من الشكوك والشبهات فالفتت النظر إلى غير العلم الديني فأمتزج العلم الديني بشيء من علوم الدنيا، وتكرنتالحلقة المفقودة ثم استلت العناصر الغربية عن العلم الديني، وأصبحت الفلسفة الاسلامية وما عداها من العلوم غير الدينية من جهة والفقه الاسلامي من جهة أخرى لكل منهمافريق وفئة تدعي احتكار الكرامة العلمية وتسوق الفضل لنفسها وتزهد فيما عند الأخرى -بل وتهزأ- لم يزل النصر حليف الفقه وصولجان الإمارة العلمية بيده والجماهير الاسلاميةقبيلة، وفي القرن التاسع والعاشر عقدت ألوية العظمة لما يسمى علوم الأوائل، وأندحر ما سواها من العلوم وقبعت علوم الحكمة شاردة عن ميادين الكفاح في الرزايا ولفظتها تلكالقرون واتهمتها بالمروق عن الدين والزندقة، وحتى النطق قيل فيه (من تمنّطق فقد تزنّدق)، ولكن الحال لم تدم حتى استعادت العلوم غير الدينية مجدها القديم بعاصفة من ردّالفعل قوية، وكانت عظمة أوربا المادية في القرون الأخيرة أكبر دعاية لها وقد مهد سبيلها رجال الحكم الذين لا يهابون إرادة الجماهير وتاقت إليها قرائح الشباب وعقدوامستقبلهم بنواصيها وتطوّر الأدب وتقدّمت الثقافة الغربية الحديثة نحو الشرق بخطى واسعة تشد أزرها دولة وتفرضها فرضاً حكوماته وقد تورثت من سلفها تلك الفلسفة البائدةوما آخاها من العلوم روح الخصام والمناواة للعلوم الشرعية وأصبحت معارف الشرق وتقاليده وأدانه أمام مصارع منها قهار ومنيت العلوم الدينية بما هو أشد بأساً وأعظمتنكيلاً.
التطور العلمي والطوائف الإسلامية
لقد مرّت هذه الأدوار العلمية والنزعات الأدبية على كافة النحل والفرق الإسلامي وكان أثرها مختلفاً بحسب ماتفسح العقيدة لمنتحليها من حرية التعليم والدراسة وما تنفثه من روح التشجيع على طلب العلم وما تحث عليه من الجد والصبر في جنب تحصيل الثقافة والتعاليم المأثورة في أصلالشريعة الإسلامية وإن كانت تخص العلم الديني ولكنها شجّعت على العلم بصورة عامة بطرف خفي وكان ذلك من أسباب دراسة العلوم غير الدينية بأعتبار إنها من المبادئ ولاعلامالعترة النبوية مزيد فضل في ذلك ولا يكلفك عناء الوقوف على ما يؤثر عنهم من الحث على طلب العلم وإيجابه الكرامة للعلم والعالم وتخصيصه بقداسة محترمة ودرجة سامية ومنحهالولاية العامة والمتبوعية الكبرى وتخصيصه بالأمانة على الأموال وبكثير من الحقوق وتقديم الأعلم على غيره وغير ذلك من المشوقات والرغبات.
ما أثمرته تعاليمهم(عليهم السلام)
ولا يوجد في تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ما يحجر على العقل البشري النظر في سائر المعارف والفنون أو يحرم على الفكر التمتع بحريته ويحجزالبصائر عن التعمق في أسرار الطبيعة وإدراك غوامض الفلسفة بل أنها حضرت التقليد في عقائدها وكفّت الشخص أن يجتهد في إيمانه وأفسحت له مجال التدبر والدرس في الشبهاتوالضلالات ليكون ذا يقين جازم، وأذكت فيه النشاط العقلي فلا يتقلد عقله بالتقليد الأعمى ولا يغل فكره بآراء غيره واجتهاد من عداه ولا يمتهن بالركود والجمود.
وأنتج ذلك أن تزكي العقول وتنطلق البصائر وتتوفر دواعي النبوغ وإذا استعرضنا هذه التعاليم أعجزنا أحصاء امراء الفضيلة في اتباعها وضاق بنا العد عن استيفاء فطاحلهم فيالفلسفة والأدب والفقه وفي سائر علوم الحياة، وقد خلفت للعالم ميراثاً علمياً قيماً أودعته في مؤلفات غزيرة المادة وقد دفعت بعض علمائهم غيرتهم الأدبية فنشط لتأليفالمعاجم لمؤلفاتها ودون تراجم رجالها وأحسن للعالم أي احسان بكشف ناحية من التاريخ العلمي الإسلامي كانت ولا تزال مستورة في طيات القرون الخالية.
وعلى ضوء هذهالتعاليم العالية تنور فريق كبير غني بعلمه قوي بثقافته فذ بمواهبه، وقام منهم معشر ممتاز لم تجمد عواطفهم ولا تحجرت بصائرهم فما صرعه الحديث ولا كمشته حبائل القديم فلميرَ طرحه كله ولا الأخذ بالحديث بجملته بل آثر أن يأخذ النافع من كل شيء ويضم شتاته ويجمع بين الخطتين في خطة مثلى ويشرب من الكأسين فلم يغرهم الحديث لأنه حديث ولا تفضواأيديهم من القديم لأنه قديم فكانوا معقد الصلة بينهما ونتيجة قياس مؤلف من مقدمتيهما وشدوّا عزيمة مباركة على إصدار مجلة غراء (الديوان) تسقى بماء تلك الثقافة وتقدملقرائها ثمار تلك الدوحة من دون تحيز إلى فئة ولا ركون إلى طائفة، ومن الله التوفيق والسداد.
اسم المجلة: الديوان مكان الإصدار: بغداد
العدد: 1 تاريخ الإصدار: 5 رمضان 1354هـ
الصفحة: 3 سنة المجلة: السنة الأولى