فوائد رمضانية
الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء
النجف الأشرف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى فيمحكم كتابه العزيز :[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] . وقال تعالى: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] .
1. إن الله اصطفى أشخاصاً معينين وأمكنةً وأزمنة معينة ، فاصطفى لقيادة البشر من شاء من الأنبياء والمرسلين[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ] واصطفى من الأمكنة منذ خلق الله الأرض مهابط للوحي ومنها مثابة للتقديس والعبادة ، وجعلأفئدة من الناس تهوي إليها ، وقد اصطفاها الله من سائر الأماكن [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] و [يَامُوسَى*إِنِّي أَنَارَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى] . فالأمكنة المصطفاة مثل: وادي طوى، والمسجد الحرام، ومسجد الكوفة، ومسجد الأقصى. واصطفى منالأزمنة منذ خلق الله الليل والنهار تتابع أياماً بعد أيام وأعواماً بعد أعوام وكلها متشابهة متناسقة تطلع شمسها وتغيب ، ولكن اصطفى منها أياماً وليالي لنعمه وأفضاله[والفجر وَلَيَالٍ عَشْرٍ ]،[ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ،[لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ] ،[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍمُبَارَكَةٍ] ، واختار من الأشهر لرحمته شهر رمضان المبارك فهو الشهر الوحيد الذي صرّح باسمه القرآن الكريم بقوله تعالى :[ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِالْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ] .
2. شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي أفاض الله فيه أكثر نعمه على عباده ، وهي كتابهالذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَىوَالْفُرْقَانِ].
3.يتوحد المسلمون في أوقات العمل والفراغ في شهر رمضان وأوقات الطعام والشراب ، ويفرغ عليهم جميعاً صبغة الإنابة والرجوع إلى الله سبحانهوتعالى، ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس ، وشهر رمضان قد أظل المسلمين ووحد بينهم في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، ووحد بينهم في شعورهم وسرورهم، ووحد بينهم في ليلهم ونهارهم، وفي وقت طعامهم وشرابهم . وجعل فقراءهم وأغنياءهم وحكامهم ومحكوميهم ورجالهم ونساءهم في ذلك سواء .
4. فرضت فريضة الصوم في شهررمضان المبارك التي أنعم الله بها على عباده، والتي جعلها ركناً من أركان دين الإسلام ، وعنصراً من عناصر الشخصية الإسلامية ، فإن الله سبحانه وتعالى قد رفع شأن شهررمضان ، فرسم بنفسه أسلوب تكريمه ومظهر تعظيمه ، ففرض على المسلمين في جميع بقاع الأرض صومه .
5. يخلع المؤمن في شهر رمضان نفسه من حياة مادية مظلمة إلى حياةروحية مضيئة ، فيخلع نفسه من هموم الدنيا وأكدارها إلى لذة لا يعتريها ألم وسعادة لا يعرفها شقاء ، فيبدأ يومه : باسمك اللهم صمت ، ويختم نهاره : باسمك اللهم أفطرت ، وفيمابين الوقتين يقوم لله قانتاً يركع مسبحاً ويسجد داعياً ، مرتلاً وحيه وقرآنه حتى مطلع الفجر إذ إن روح الإنسان في هذا الشهر المبارك متغلبة على ما سواها ، قاهرة لشهواتالجسم ومطالبه المادية.
6.يوحي شهر رمضان بعوامل النصر والغلبة ، بأن النصر معقود بالصبر والإخلاص والتقوى ، ففي هذا الشهر المبارك زعزعت حصون الشرك والضلالوالبهتان في غزوة بدر قال تعالى :[ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] ، كما يوحي هذا الشهرالمبارك بالفتح الأعظم الذي عاد به أنصار الله وأولياؤه إلى أوطانهم بعد أن أُخرجوا منها بغير حق إلا أن قالوا ربنا الله ، ذلك الحادث الذي طُهِّر فيه بيت الله من الأصناموالأوثان، وأصبحت كلمة الله هي العليا وكلمة الضلال والبهتان هي السفلى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا*لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَوَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا*وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] .
7.جرى الإسلام في تشريعهللصوم على سنته في تكليف الناس بما لا يعنتهم[مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] فلا وجوب على المسافر والمريض، وكل من يشق عليه الصوم من الشيخ الكبيروالمرأة العجوز .
8.الصوم علاج نافع لكثير من العادات المألوفة ، وتمرين على التخلص من سلطانها ، والتخفف من أعبائها وأثقالها ، وتذكير للإنسان بأن هذه العاداتليست أموراً طبيعيةً لا مناص له منها ، وإنما هي أشياء فرضها على نفسه أو فرضتها عليه ظروف حياته ولو عزم وصمّم فإنه يستطيع أن يتركها ويتخلى عنها دون أن يصيبه أذى أويلحقه ضرر.
9. الصوم تعويد على الصبر وتمرين عليه ، والصبر هو خلق الأخلاق وروح الفضائل الإنسانية ، فقد ورد أن الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان حيث يدعالصائم طعامه وشرابه وكل ما تشتهيه نفسه ، ويرى بعينه أطايب ما ترك فيكبح جماح نفسه امتثالاً لأمر الله . أمّا هؤلاء الذين يغضبون في شهر رمضان ويثورون لأتفه الأسباب ولايتسلحون بالصبر ، فهم الذين ظنوا أن الصيام عقوبة وحرمان ، فثارت لذلك نفوسهم واضطربت أعصابهم وخرجوا عن اتزانهم . ومن العجيب أن الناس إذا رأوا رجلاً ثائراً وقد أخرجهالغضب عن حده في شهر رمضان قالوا : لا عتب عليه ولا ملامة فهو صائم ، كأن الصيام مبرر للغضب والسخط ومساوئ الأخلاق ألا ساء ما يحكمون .
إن في الصوم تعويد للنفس علىالمراقبة والخوف من الله في السر والعلن ، فترى الصائم أميناً رقيباً في الصغيرة والكبيرة، وتتمثل فيه هيبة مولاه ومراقبته كأتم ما تكون. فجدير بالمسلمين أن يفقهواإيحاءات هذا الشهر المبارك وأن يذكروه ويعملوا بمقتضاه فمرحباً حباً بك أيها الشهر الكريم ، وهنيئاً لكم أيها الصائمون المؤمنون المحتسبون.