النعيم في ربوع لبنان
الشيخ علي كاشف الغطاء
ثم قذفتني أمواج التقادير إلى قرية بحنس، وقد ألبستها يد الجلالوالإبداع حللاً سندسية خضراء، وتجلّت عليها مباهج الطبيعة بأجلى مظاهرها الفتانة. ورسم عليها قلم اللطف أشكالاً بديعة يخلب جمالها العقول وتسبي روعتها الألباب، يمرعليها النسيم العليل فيمتزج بشذا رياحينها العبقة وتعبق في رياضها الأزهار فتملأ أجوائها عطرأ ولذة.
هناك وهنا حيث منعطفات النعيم وكوثر الماء المعين والحدائقالنظرة ذات الروح والرياحين تصقل سمعك أغاريد الطبيعة وتبهجك تراتيل أغنية الجمال من حفيف الأوراق إلى هدير الحمام إلى زجل الشحرور إلى سجع البلابل، وتنعشك نسماتالحياة وابتسامات الطبيعة وتترنم لكَ المياه وترقص على اغنيتها الأغصان والطير.قد حفتك أفنان العنب وباسقات الصنوبر وتدلّت لكّ أثمار الشجر بعد أن بسطت لكَ الأرضفردوسها المحلّى بالأزهار العطرة والأعشاب المتنوعة والخضرة النظرة.
ما أجملك يا بحنس للرائي في وضح الصبح عندما تحضنك أشعة الشمس وقد استقبلت بوجهك نحو الغربمطلة على البحر فإنه يجد روابي قد كللت بتيجان الذهب فظهرت آية في الجمال والروعة ثم يستدرج البصر هذا المنظر الخلاب إلى بطون الأودية المنخفضة فيسايرها حتى يوصله لججالبحر الفضي وهناك تدرك عظمة الصانع وجلالة المصنوع: ما أحلاك أيها البلد الطيب للشاعر عندما يطفل الامساء أو يجنح العصر وقد عانقتك الغزالة وجهاً لوجه بعد أن توجتكأشعتها بتاج من نور فإنه يقف أمام صور بديعة ومناظر خلابة جلَّ صانعها وعظم مكونها يرى الطير قد كرت إلى أوطانها مرتلة أناشيد الوداع ويرى السكون قد هيمن على مرتفعاتالوادي ومنخفضاته ويرى أقواماً وجماعات قد انطلقوا من اصفاد المادة وراحوا يتفيؤن أظلال الشجر ويتبطنوا منخفضات الأودية ويرى الشمس قد استحالت إلى جبل من النور تهاجمهأمواج البحر لتبتلعه إلى قعرها ثم لم تلبث إلاَّ كوحي الخاطر أو كومض البرق فإذا بأمواجه قد تلاطمت عليها ورماها بالزبد ركامه وعند ذا يتبدل به الموقف وتشحط به النفس نحوالعالم الآخر.
ثم إذا أرخى عليك الليل سدوله ظهرت لكَ صورة أخرى من صور الكون ولون آخر من ألوان الحياة يعجز الشاعر عن وصفه مهما تفجّرت فيه ينابيع الفصاحة أوتدفّقت فيه أمواج البلاغة حيث تملكه الحيرة وتستولي عليه الدهشة من بداعة الفن وجمال المنظر وعند ذاك تنشدك نفسك بيت أبي الطيب:
وكم لظلام اليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
فإنك إذا ضربت بطرفك نحو الامام تمثّلت لكَ عاصمة لبنان بسماء قد هبطت على الأرض وقد انظمت نجومها بعضها لبعض وكومة منلئاليء منثورة تزهو لماعة وضائة يخيل للرائي أنها تطلع عليه باسمة مستبشرة ثم تكر خجلة راجعة ثم إذا أدرت بطرفك نحو الشمال رأيت القلائد الجمانية قد حلّت جيد الهضباللبنانية فيوحي لكَ الخاطر خيال ابن المعرة بقوله:
ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان
ربِّ ليل كأنه الصبح في الحسن
وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضنا فيه إلى اللهو لمّا
وقف النجم وقفة الحيران
هذه بحنس وقد انسكب لطفهاوأنصب جمالها في ابنائها وذويها فأنطبعوا بطابعها وانصاغ كيانهم من معناها فهم ابنائها حقاً وهي أمهم صدقاً، لقد عاشرتهم مدة اصطيافي هذه السنة فوجدت فيهم قلوباً نقيةونفوساً أرق من الخيال منبسطين هادئين لم تخالطهم نوايا السوء ولم تدنّسهم مساوي المدنية الحاضرة، الحدود عندهم محفوظة والقوانين لديهم محترمة، فقرائهم أغنياء بالتعففوالتجمّل وأغنيائهم فقراء بالمساواة وعدم التطاول.
اسم المجلة: الغري مكانالاصدار: النجف الأشرف
العدد: 15 تاريخ الاصدار: 22 ربيع الأول 1367هـ
الصفحة: 13 سنة المجلة: السنةالتاسعة