التثبت قبل الحكم
لحضرة صاحب الفضيلة العلامة الكبير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ما زال أهل العلم والنظروالدراسات الصحيحة يُعْنَون أكبر العناية بالمصادر التي يعتمدون عليها في بحوثهم، ويستندون إليها في أحكامهم، ومن المعهود أن رجال الفرق، وأهل العصبية للمذاهب، ينقلونعن مخالفيهم آراء قد لا يعرفها هؤلاء المخالفون، وقد يعرفونها على صورة أخرى تختلف اختلافا قريباً أو بعيداً عن الصورة المنقولة، وأنهم قد يأتون باستدلالات لمذهبمخالفيهم يروجون لها، في ظاهر الأمر، ويوغلون في تفصيلها والعناية بدقائقها، ليوهموا الناس أنها لمخالفيهم، ثم يكرون عليها بالإبطال والتزييف والطعن والتجريح فلا تلبثأن تنهار.
لذلك كان شيوخ العلم، وحذاق النقد، يوصون تلاميذهم بأن يُعنَوْا بمصادرهم، وألا يقلدوا في بحوثهم وأفكارهم تقليداً أعمى، فيقعوا في الخطأ، ويضلوا عن سواءالسبيل، وكانوا ينصحونهم دائماً بالرجوع إلى المصادر الأصيلة لمذهب ما، أو فكرة ما، إذا أرادوا أن يصلوا إلى الحقيقة في هذا المذهب، وأن يعرفوا الواقع الفعلي، لاالتخيلي، لهذه الفكرة.
أقول هذا لأنني تتبعت كثيراً مما يكتبه الكاتبون عن الشيعة إلى عهد قريب، فوجدته مأخوذاً عن ابن خلدون الذي كان يكتب وهو في أفريقيا وأقصىالمغرب عن الشيعة في العراق وأقصى المشرق، أو عن أحمد بن عبد ربه الأندلسي،
/ صفحه 23 /أو أمثالهما، وقد يريد الكاتبون التوسع، ويقصدون إلى الدراسة والتحليل،فيرجعون إلى كتب الغربيين المعروفين (بالمستشرقين) وحينئذ يظنون أنهم قد أتوا بفصل الخطاب، واعتمدوا على المصدر الوثيق، وجاءوا بالحجة الدامغة. مع أن أمر الشيعة فيأفكارهم وآرائهم ميسر لمن أراد معرفته، فهذه كتبهم ومؤلفاتهم ومكتباتهم ـ ومن بينها مكتبتنا التي تشتمل على أكثر من خمسة آلاف مجلد ـ تشهد بأن الشيعة ما هم إلا طائفة منطوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يتفقون مع سائر المسلمين في الأصول، وإن اختلفوا معهم في بعض الفروع.
ومن الأمثلة التي تدل على عدم التثبت ما يزعمونه من أنالشيعة تقول: إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا، وكتب الشيعة جميعاً تنادي بأن الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، والنار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً.والمسلمون جميعاً يقرأون قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
ومن ذلك ما يزعمونه من أن النصرانية ظهرت في التشيع في قول بعضهم: إننسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إلى الله، وهذا قول مرسل بغير سداد، ولم يعين قائله من الشيعة ؟ فإن كان المراد ما يسمونهم غلاة الشيعة كالخطابية، والغرابية،والعلياوية، والمخمسة، والمبزيعية، وأشباههم من الفرق الهالكة المنقرضة التي نسبتها إلى الشيعة من الظلم الفاحش، وما هي إلا من الملاحدة والقرامطة ونظائرهم. فإنالشيعة الإمامية وأئمتهم يبرأون من تلك الفرق براءة التحريم، على أن تلك الفرق لا تقول بمقالة النصارى، بل خلاصة مقالتهم، بل ضلالتهم أن الإمام هو الله سبحانه وتعالىظهوراً أو اتحاداً أو حلولا أو نحو ذلك مما ينقل عن بعض المتصوفة، وقريب من ذلك ما يقول به أرباب وحدة الوجود أو الموجود.
/ صفحه 24 /أما الشيعة الإمامية، وأعنيبهم جمهرة العراق وإيران وملايين من مسلمي الهند ومئات الألوف في سوريا والأفغان، فإن جميع تلك الطائفة يبرأون من تلك المقالات، ويعدونها من أشنع الكفر والضلال، وليسدينهم إلا التوحيد المحض، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق، أو ملابسة له في صفة من صفات النقص والإمكان، والتغير والحدوث، وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية،إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم من مختصرة ومطولة.
وقصارى القول أنه إن أريد بالشيعة تلك الفرق البائدة، والمذاهب الملحدة التي لا أحسب أن علىرقعة الأرض منهم اليوم نافخ ضرمة، فنحن لا نضايق في ذلك، ولكن نسبتهم إلى الشيعة ظلم فاحش، وخطأ واضح، وسوء في التعبير، وإن أريد بالشيعة الطائفة المعروفة اليوم بهذاالاسم، والتي تعد بالملايين من المسلمين، فهذه كتبهم ومؤلفاتهم وعلماؤهم من حاضر وغابر، فأين في شئ منها أثر هذا القول الباطل ؟
وقد ينبزون الشيعة بالقول بالرجعة،فليت شعري هل القول بالرجعة أصل من أصول الشيعة، وركن من أركان مذهبها حتى يكون نبزاً عليها ؟ إن أمر الرجعة ليس إلا كبعض أنباء الغيب وحوادث المستقبل وأشراط الساعة مثلنزول عيسى من السماء، وظهور الدجال وخروج السفياني وأمثالها من القضايا الشائعة عند المسلمين، وما هي من أصول الإسلام في شئ، ليس إنكارها خروجاً منه، ولا الاعتراف بهابذاته دخولا فيه، وكذلك حال الرجعة عند الشيعة ليس التدين بها بلازم، ولا إنكارها بضار، ولا يناط بها التشيع وجوداً ولا عدماً.
وأعود فأقول إن التثبت واجب قبل الحكم،وقد أمرنا الله به لئلا نصيب قوماً بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين، وأكبر الظن أن الذين يكتبون عن الشيعة دون أن يعرفوا بأنفسهم حقيقة الشيعة، إنما يريدون تسويدالأوراق، والتلهّي
/ صفحه 25 /ببعض الحديث، ولكن الشيعي الذي هو على بينة من أمره، ينظر إلى هذه الكتابات كما ينظر إلى النادرة الطريفة التي يرويها الأصفهانيفي كتابه (المحاضرات) إذ يقول: سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان، فقال: إنه معتزلي ناصبي حروري جبري رافضي، يشتم علي بن الخطاب، وعمر بن أبي قحافة وعثمانبن أبي طالب، وأبا بكر بن عفان، ويشتم الحجاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية يوم القطائف (يريد يوم الطف أو الطائف) فقال له جعفر بن سليمان: قاتلكالله، ما أدري على أي شئ أحسدك ؟ أعلى علمك بالأنساب ؟ أم الأديان ؟ أم بالمقالات.