أثرا الفلسفة الاغريقية
في الفكر الاسلامى
لحضرة الكاتب الفاضل الدكتور محمد البهي
أستاذالفلسفة في كلية اللغة العربية
- 1 -
(1) مما لا شك فيه أن تنظيم الجدل و أسلوب الحجة في الفكر الاسلامى قد استفاد كثيراً من المنطق الاغريقى الارسطى و الفكرالعربي، و إن كان يعرف قبل الاطلاع على المنطق الاغريقي ضرر. التمثيل في الاقناع ـ إلا أنه قدر رضب بالتركيب المنطقى الدقيق الذي عرف في القياس الارسطى، و أفسح له المجالفي المناقشة و تبادل الحجة العقلية.
(ب) كما تجاوز به نطاق الجدل في الحجة إلى تنظيم العلوم العربية، و توسيع دائرة الاحتمال العقلى في بحث أصول الفقه على وجه خاص، وكتاب (المستصفي) للغزالي مثل واضح لذلك.
و قد كان المنطق الاغريقي بعد أن ترجم إلي اللغة العربية سبباً قوياً لدى العرب في ترجمتهم بقية أنواع الفلسفة الإغريقية منإلهية و أخلاقية، و رياضية، و طبيعية.
(ح) و الفكر الاسلامي كماانتفع في صورة إيجابية بالمنطق الاغريقى على النحوالمشار إليه ـ انتقع أيضا بالجانب الرياضي، فاستخدمتعلم الرياضة لتربية الملكات الذهنية و للتدريب العقلي على العموم. ومن ناحية أخرى نأثر بها في تنظيم العلوم العربية و ضبط قواعدها، و باب الميراث في الفقه الاسلامى، وحصر احتمال الدلالات و الامكانيات حصراً عقلياً في العلوم العربية يشير إلى هذه الظاهرة.
/ صفحه 413/
- 2 -
لكن بقية جوانب الفكر الاغريقي: و هيالالهيات و الأخلاق لم يستطع الفكر الاسلامي أن يتأثر بهابحيث تعد مقدمات أو لبنات في بنائه، أو بحيث تمثل حلقة في تطوره، وذلك لان الفكر المنطقى الاغريقى، و كذا الجانبالرياضى فيه عند ما ترجما إلي اللغة العربية و جدا ميدانا رحبا خالياً في تاريخ الفكر الاسلامى فلم يكن للإسلام رأي معين في هذين الجانبين .
هذا سبب. و هناك سبب آخر هوأن هذين الجانبين كانا جديدين كل الجدة على العقلية العربية لما لهما من طابع الدقة و الضبط.
أما الجانب الإلهي و كذا الجانب الاخلاقي من الفلسفة الاغريقية، «فبعدترجمتها إلي اللغة العرية وجدا أن الإسلام بتعاليمه في الالهيات و الأخلاق قد سبقهما في قيادة التوجيه في الجماعة الاسلامية، و في احتلال المكان الاول في تفكير المسلمينو إيمانهم.
و لهذا وضع العقل الاسلامي هذين الجانبين موضع النظر و الاخذ و الرد، و كان مقياس ردهما و دفعهما هو نفس مقياس الاخذ بهما و قبولهما، كان هذا المقياسهوالدفاع عن الإسلام.
وإذا قيل: إن الفكر الاسلامي قد تأثر بالفلسفة الالهية، و الاخلاقية الاغريقية، فذلك على معنى أن هذه الفلسفة قد أثارت عملا عقلياً لدى المسلمينواسع النطاق، يدور مرة حول قبول هذه الفسلفة، و مرة أخرى حول رفضها، و فالدين
يعرفون بفلاسفة المسلمين كالفارابي، وابن سينا، و ابن رشد دار عملهم العقلي حول التدليلعلى أن الفلسفة الالهية و الاخلاقية الاغريقبة توافق تعاليم الإسلام، و يلائم بعضها بعضاً.
وعلماء الكلام من المعتزلة و الاشاعرة و إن قبلوا بعض مبادىء الاغريق فيذلك كمبدأ الجوهر الفرد، و مبدأ الوحدة من كل وجه في العلة الاولى، إلا أن صفتهم العقلية كانت تدور حول بيان: أن الفلسفة الاغريقية الالهية و الاخلاقية تتعارض من تعاليمالإسلام، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، ففكرة قدم العالم، و فكرة الفيض، و القول بالطبع في شأن العلة الاولي، و القول بأن العلة الاولي مادة رقيقة على نحو قولالرواقيين، والقول بعدم مسئولية الإنسان أمام الموجود الاول
لايعرف مايدور في العالم، و بالتالى ليس مريداً للشرقية. و أمثال هذه الافوال كانت محور المعارضة من جانبأو دفع هذه المعارضة من جانب آخر.
لهذا لم يأت المسلمون في إلهيات الاغريق و أخلاقهم بجديد يعد بناءً واستمراراً في تطور الفكر الإغريقى، كما لم يتأثروا بهذا الفكر فيهاتين الناحيتين، تأثراً إيجابياً بحيث يصور في نفسه مرحلة تعد لاحقة لما قبلها و مقدمة لما بعدها.
و لكن مع ذلك بصح أن يقال: أن الفكر الإسلامي الفلسفي عند ما نقل إليالغرب لم يكن هو نفس الفكر الاغريقي الذي نقل إلي المسلمين أولا، بل الذي نقل إلي الغرب عن المسلمي، كما يمثل الفكر الاغريقي يمثل الكفاح العقلي للمسلمين حول مبادىءالفكر الاغريقي في هذين الجانبين: الالهى و الأخلاقي على وجه أخص. هذا الكفاح الذى طال أمده، واتسعت رقعته، واشتركت فيه أجيال متعاقبة من علماء المسلمين في شرق الدولةالاسلامية و مغربها.
ولهذا لاأعتبر تعليق أمثال جولد زيهر الهنغارى، و هارتمان الالماني وكارادى فوالفرنسي من المستشرقين، و أخالفهم الرأي فيما يقولونه، فهم يذهبونإلي أن المسلمين لم يستطيعوا أن يهضموا الفكر الاغريقي، و لذا لم يكن لهم بناء في مدارس الاغريق، ويعللون ذلك بأن العقل العربي يستطيع النقليد و المحاكاة، و لكنه لا يقدرعلى البناء.
لا أميل إلي اعتبار هذا التعليق اعتباراً علمياً من جانب أمثال هؤلاء المستشرقين لان السبب في أن العقل الاسلامى لم يأت بجديد في الفكر الاغريقى الالهىيعد استمراراً في تطوره ـ يرجع إلى أن في الفكر الاغريقى القديم ما يعارض
تعاليم الإسلام، ولهذا اتجه العقل الاسلامي بعد أن اطلع على الفكر الاغريقي من أول
/ صفحه 415/
الامر، إما لإبراز هذه المعارضة أو محاولة سترها، و إذن لم يكن السبب هوضعف العقل الاسلامي عن الانتاج الفكرى، إذ لو كان العقل الاسلاميضعيفاً عن الانتاج الذهني، لما استطاع الكفاح في صورة القبول و الدفع للمبادىء الاغريقية التي
/ صفحه 414/
تتعارض مع تعاليم الإسلام، و لما استطاعالبناء في جوانب أخرى كالطب و الرياضة مثلا.
فهذا الكفاح هو كفاح عقلي و إنتاج عقلي، ولكنه لا يعد استمراراً لتفكير سبقه، أساس لانه لم يقم على أساس التسليم بما سبقه والاعتراف به.
و لهذا لايصح أن يدعي أيضا أن مرحلة إباء الكنيسة في القرون الوسطى التي يمثلها توماس الا كوبنى أوغسطين، تعد فقط ترديداً للفكر الاغريقي، الذي عملهالمسلمون في إلهيات الاغريق و أخلاقهم يشبه ماعمله مفكرو المسيحية في القرون الوسطى في هذين الجانبين.
إن الفلسفه تنشد الحقيقة لانها ولدت من صراع العقل الانسانيالعام ضد الهوى و التحيز إن الفلسفة نشأت عن ثورة مفكرى الاغريق ضد اصحاب المعرفة الدينية في جماعة الاغريق بعد أن سلك هؤلاء في توجيه المعارف الدينية مسلك الحريص علىتحقيق مصلحته الخاصة، و لكن باسم الله او باسم العقل العام الذي هو آية الله في هذه الارض.
إن الفلسفة لذلك تنكر على المشتغل بها أن يتحيز، و أن يؤمن مقدما بفكرة معينةفي موضوع ينبغى بحثه والحكم عليه ؟