ادب الجدال في القرآن
لفضيلة الأستاذ الجليل
الشيخ عبد المتعال الصعيدى
المدرس بكلية اللغة العربية
هذا موضوع يتصل أيضا بدعوة جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، و قد أردت أن أكتب فى موضوع آخر لا يمت من قريب أو بعيد إلى دعوة هذه الجماعة الكريمة، فلم يخطر علىبالى إلا هذا الموضوع، و لا أدرى ما يحصل لى بعده إذا أردت ذلك أيضا، و لكنى سوف أفعل ما فعلته الآن، من ايتار كل موضوع يتصل بدعوة هذه الجماعة على غيره حتى تتأيد دعوتهابيننا، و يعلم المسلمون جملعاً أنها دعوة الحق، قد قيض الله لها فى هذا العصر هذه الجماعة، لتعيد بها المسلمين أمة واحدة كما كانت فى عهدها الأول، لا يفرق بينهم خلاف فىالرأى و لا يثير بينهم العداوة تعدد المذاهب.
عباد الأوئان هم المشركون الذين ذكر الله تعالى أنهم من أشد الناس عداوة للمؤمنين، و هذا فى قوله تعالى فى الآية - -82- منسورة المائدة: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا، و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لايستكبرون»
/ صفحه 50 /
و مع هذا وضع الله تعالى أدباً كريماً للجدال بيننا و بينهم، يقف به عند حد الجدال المقبول، و لا يدخل به فى باب المهائرة والخصومة، لأن الإسلام لم يأت ليثير خصومة بين الناس، و إنما أتى لإرشادهم بالتى هى أحسن، و إذا كان هذا هو شأن الجدال فيما بيننا و بين عباد الأوثان، فما أحراه بأن يكونهذا شأنه فيما بين فوق المسلمين، لأن الخلاف فيما بينهم قريب الحدود، و لا يبلغ درجة الخلاف بينهم و بين عباد الأوثان.
و قد ورد أدب الجدال فيما بيننا و بين عبادالأوثان فى الآية - 108 - من سورة الأنعام: «و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوايعملون، وقد قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم، فإنهم قوم جهلة لا علم لهم الله.
وقيلإنه لما نزل قوله تعالى فى الآية - 98 - من سورة الأنبياء: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها و اردون» قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا و شتمها لنهجونإلهك، فنزلت تلك الآية. و الحق أن قريشاً قد خفى عليها الفرق بين نقد القرآن لعبادتها لآلهتها و بين شتمها، فعدت نقد القرآن و نقد النبى صلى الله عليه و سلم لعبادتهالآلهتها شتما لها، و هددت بشتم الله إذا استمر ما تراه شتما لها فى زعمها، وقد خفى هذا الفرق أيضا على كثير من المفسرين، حتى قال الفخر الرازى فى تفسير الآية: لقائل أنيقول إن شتم الأصنام من أصول الطاعات، فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ و الجواب أن هذا الشتم و إن كان طاعة إلا أنه إذا هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله، و على فتح باب السفاهة، و على تنفسير هم عن قبول الدين، و إدخال الغيظ و الغظب فى قلوبهم، فلكونه مستلزما لهذه المنكرات وقع النهى عنه.
/ صفحه 51/
و لا عجب أن يخفى على المفسرين الفرق بين سب آلهة المشركين و نقد عبادتهم لها، فإن أهل اللغة من قريش قد خفى عليهم هذا الفرق، و هم أرباب الكلام، و فرسان الفصاحة والبلاغة، و عنهم أخذت أحكام اللغة، و لكن هذا فرق علمى دقيق يخفى مثله على العرب فى أميتهم و جاهليتهم، و ما كان لمثلهم فى هذه الجاهلية أن يفرق بين الشئم و النقد، و أنيدرك أن مثل قوله تعالى فيما سبق «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون» يدخل فى باب النقد، و لا يدخل فى باب السب و الشتم، لأنه ليس إلا بيانا لعجزها فىالآخرة، و أنها لا تقدر أن تدفع عن نفسها عذاب الله تعالى، و هذه هى حقيقة أمرها، و بيان الحقيقة لا يدخل فى باب السب و الشتم، و لا سيما إذا كان يراد منه تنبيه الأذهانإليها، و إيقاظها من غفلتها عنها، و كانت هذه الغفلة تجلب عليها الشقاء فى دنياها و أخراها، و كان تنبهها إليها سبب سعادتها فى الدنيا و الآخرة. و لا يكاد يخرج عن هذا قولبعض المفسرين: إن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى زيادة منكر، و غلبة الظن قائمة مقام العلم فى هذا الباب، و فيه تأديب لمن يدعو إلى الدين، لئلايتشاغل بما لا فائدة له فى المطلوب، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع و لا تضر يكفى فى القدح فى إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شمتها. فهذا التفسير يقرب فى آخرة منالصواب، و يكاد يهتدى إلى الفرق بين نقد عبادة الألهة و شتمها، و لولا أنه سمى نقد عبادتها قدحا لا نقداً، و لكنه فى أوله يقع فيما يقع فيه غيره من إدخال شتم الآلهة فى بابالأمر بالمعروف، و أنه لا يقبح إلا لأنه يؤدى إلى شتم الله تعالى، و هذا ينافى حكمه عليه فى آخر كلامه بأن التشاغل به تشاغل بما لا فائدة له فى المطلوب، و مثل ليس فى شىء منالأمر بالمعروف.
/ صفحه 52 /
فالله تعالى لايريد بنهينا عن ذلك إلا يبدنا عن موقف الخصومة فى الجدل، لنسلك به الطريق الذى يراد منه الوصول إلى الحق، ويقصد منه التمييز بين الحق و الباطل، فلايراد منه إلا الإقناع و الإرشاد، و إلا أخذ الناس فى الجدال بالهدوء و الرفق، حتى لا ينقلب إلى خصومة و تعصب، يعمى فيهما الحق علىالناس، و يشتد بهما العناد و اللجاج، و هذا لا يخرج عن كونه تعليما لنا، و لا يقتضى سبق وقوع شىء منه فى القرآن أو من النبى أو من المسلمين. و لهذا يقول الله تعالى بعد النهىعن ذلك السب «كذلك زينا لكل أمة عملهم، فلا يصح أن نصادم شعورهم بشتم ما زين لهم، و إنما يجب أن نقتصر على بيان الحقيقة فى أمره، و أن نترفق فى تفهيمهم قبح ما زين لهم، حتىيعلموا حقيقة حاله، و يصلوا إلى الصواب فيه من غير أن يخرج الجدال معهم عن الأدب اللائق به، و عن الحدود التى تجعله مناسباً لشرف الدعوة، ملائماً لنبل ما تدعو إليه. و لهذاأيضاً يقول الله تعالى بعد ذلك «ثم إلى ربهم مرجعهم فينبهم بما كانوا يعملون» تأكيداً لذلك النهى عن سب آلهتهم، و ليدل به على أن أمرهم فى ذلك يرجع إلى الله تعالى لاإلينا، فهو الذى يعاقبهم على شركهم، و ليس إلينا هذا العقاب حتى نعاقبهم بشتم أو نحوه، و إنما وظيفتنا الإرشاد و الدعوة بالتى هى أحسن.