اللَّه
في القرآن الكريم
للأستاذ محمد محمّد المَدنيعميد كلية الشريعة
1 ـ لا نجد في القرآن الكريم حديثاًمباشراً عن ذات الله تعالى; لأن الذات الإلهية لا يمكن وصفها، ولا تصور كنهها، ولا الإحاطة بها، ولو على وجه من التقريب وإنما نحد القرآن الكريم يأتي بحديثه في هذا الجانبعلى وجه السلب والنفي، فيقول مثلا: ((ليس كمثله شىء)) فيعطينا بهذه الجملة القصيرة، قانونا وقائيا عاما نستعمله كلما احتجنا إلى مدافعة وهم من الأوهام، في تصور ذات اللهتعالى، ومحاولة معرفة كنهه جل وعلا. ويقول: ((سبحان الله عما يصفون)) فيعطينا بهذه الجملة القصيرة أيضا ما ندافع به أولئك الذين يحاولون تصوير الله، أو تمثيله بأحد منخلقه.
وكلمة: ((سبحان الله)) معناه تنزيه الله، وتقدير اللفظ فيها: أعتقد تنزه الله، أو أنزه الله تنزيها، أو نحو ذلك، وهو معنى سلبي، لأن التنزيه هو نفي كل مالا يليق عنالله تعالى، ويقول جل شأنه: ((بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة)) فيرشد أصحاب العقول إلى استحالة أن يكون له ولد، مستدلا على ذلك بأنه ليس له صاحبة، وهومعنى سلبي أيضا.
ويقول: ((لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد)) فينفي عن ذاته أن تكون متولدة من غيره، أو أن يتولد عنها غيره، أو أن يكون له مماثل وكفو.
/ صفحه310/2 ـ وفي القرآن الكريم آيات تنسب إلى الله تعالى: الوجه واليد والعين والجهة والمعية والمصحبة والعندية والاستواء ونحو ذلك، مثل قوله تعالى: ((ويبقى وجه ربك ذوالجلال والإكرام))، ((فأينما تولوا فثم وجه الله))، ((يدالله فوق أيديهم))، ((بل يداه مبسوطتان ينقف كيف يشاء))، ((وليتصنع على عيني))، ((واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)).
((مايكون من نحوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا))، ((ووجد الله عنده فوفاه حسابه))، ((الرحمن على العرش استوى))الخ.
ولكن القرآن نفسه يرشدنا إلى الصراط السوى في فهم هذه الآيات وأمثالها حيث يقول: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر تشابهات فأما الذينفي قلوبهم زيغ فيتبعون ماتشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولن آمنا به كل من عند ربنا ومايكذر إلا أولو الألباب.ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لذنك رحم إنك أنت الوهاب)).
وخلاصة ماتنصح به هذه الآيات أن نقول فيما اشتبه علينا ((كل من عند ربنا)) أي: فنحن نؤمن به، وأننرده مع هذا الإيمان به إلى المحم من الكتاب الذي جعله الله ((أما)) له، تشبيها بالأم التي يفزع إليها ابنها وفرعها، طلبا للأمن والسكن في أحضان أصله ومنشئه.
فإذا أردناطمأنينة النفس في شأن آيات: الوجه والعين واليد وأمثالها فلننظر إليها من أفق الآياية الأخرى الصريحة القاطعة المحكمة ((ليس كمثله شىء وهو السميع البصير)). ولذلك يقف السلفمنها موقف التسليم، ويقولون: لله وجه ويد وعين، كما أخبر في كتابه: وليس كمثله شىء ويقولون: استوى، ولا نسأل كيف استوى. أما الخلف فيقولون: الوجه واليد والعين أسماءاستعملت في جانب الله على وجه من المجاز; للدلالة على الذات أو القدرة أو العناية أو نحو ذلك، فهما إذاً متفقان على أصل التنزيه القطعي، وإنما يختلفان في فهم ماظاهرهينافي هذا التنزيه.
/ صفحه 311/
3 ـ وقد عنى القرآن الكريم ـ على أسلوب مباشر ـ بنوعين من الصفات فيما يتحدث به عن الله تعالى.
النوع الأول: الصفات التي تملاءالقلوب بقظمة الله تعالى وجلاله، وتبهرها بجماله وكماله النوع الثاني: الصفات التي تدل على ربوبيته للعالمين خلقا وإيجاداً، وإنعاماً وإمداداً وإنما عنيت آياتالقرآن الكريم بالتحدث إلى الإنسان بهذين النوعين من صفات الله تعالى لمعنى تهدف إليه هو أن تقرر في نفسه أن لا إله إلا الله.
وذلك ن الإله هو الذي تأله إليه النفوس،وتنجذب، معتقدة أن له سلطاناً حقيقيا يستطيع به أن ينفع ويضر،دون قيد عليه من غيره، ولا عجز يتعريه في نفسه مع اتصافه بالكمال المطلق، والعدل المطلق، وأن عليها لذلك أنتترضاه وتخضع له الخضوع المطلق.
فالنوع الأول من الصفا يراد ببيانه والحديث عنه في القرآن الكريم أن يقتنع الإنسان بأنه حينما يتجه إلى الله بالعبودية إنما يتجه إلىالإله الكامل العظيم ذي الجلال والجمال، فهو يتجه إلى من هو جدير باتجاهه، ويأله ـ أي يعشق وينجذب ـ إلى من هو حقيق بعشقه وانجذابه.
وأهل التصوف لهم في ذلك عبارات،منبعثة عما تجلي لهم من مقامات معرفة الصفات، ومن ذلك قول العارف بالله عمر بن الفارض:
فقت أهل الجمال حسناً وحسنى
يحشر العاشقون تحت لوائي
وجميع الملاح تحت لواكا
فهم فاقة إلى معناكا
وجميع الملاح تحت لواكا
وجميع الملاح تحت لواكا
لو يسمعون كما سمعت كلامها
خروا لعزة ركعاً وسجودا
خروا لعزة ركعاً وسجودا
خروا لعزة ركعاً وسجودا
/ صفحه 312/وخضوعا لمصدره، أو هي بتعبير آخر مزيجمن الشعور بالعظمة والقوة والكمال وتمام الإحسان، ولذلك تتخذ صوراً من الثناء على الله بالقول حيناً، وبالانحناء ركعا وسجودا، وبالذكر والشكر تأملا وعرفانا، اعترافابأنه تعالى هو العظيم وهو الوهاب.
اقرءوا في النوع الأول من الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن:
((وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)) فهي تثبت((الوحدانية)) مع الرحمة الشاملة، واقرءوا: ((الله لاإله إلا هو، الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه،يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، وهو العلي العظيم)).
عشر جمل متتابعة في آية واحدة،وهي: آية الكرسي المشهورة التي ذكرت الأحاديث النبوية فضلها، وتحدثت عن بركاتها في التحصين والحفظ، وأنها تشتمل على أسم الله الأعظم، فأول جملة منها: هي إثبات الوحدانية:((الله لاإله إلا هو)) أي ليس في الوجود من له سلطة مطلقة يفعل بها ما يشاء، دون قيد ولا عجز، ويستحق بمقتضى ذلك أن ينفرد بالعبودية إلا واحد هو الله ـ وهذه هي الحقيقة الأولىالتي جاءت الأديان، وبعثت الرسل، وأتزلت الكتب لتقريرها.
والجمل التسع التالية لهذه الجملة الأولى، هي: احتجاج لهذه الحقيقة، وبراهين على ثبوتها، فالله هو الحيالقيوم، والحياة تختلف باختلاف المتصفين بها، فحياة النبات نوع من الحياة، وحياة الله تعالى هي أكمل حياة، لأنه هو واهب الحياة لكل من سواه وما سواه، ولأنهم جميعاًمستندون في حياتهم إليه، وليس هو مستنداً في حياته إلى شىء، ولأن حياته لا تنقطع، وكل حي يدركه الفناء، كما أن حياته أزلية لا أول لها، وحياة غيره محدثة بعد أن لم تكن. / صفحه 313/والله تعالى قويم، لأنه قائم بنفسه، ومقيم لغيره، وهي صفة تلخص جميع فنون التصريف، وألوان التدبير في الخلق، وهي أبلغ من القائم والقوام والقيم; بحكمالصيغة التي يعرفها أهل الذوق العربي.
ولما كانت حياة الحي، وقيومية القيوم، لا تدل بطريق مباشر على استمرار التيقظ لكل شىء، واتفاء الغفلة ولو في فترة ما، جاءت جملةأخرى تصف الله تعالى بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، أي أن حياته وقيوميته لا تفتران في وقت ما، فلا يمكن أن تغالبه سنة، وهي تباشير النوم وأوائله، وحينما يقبل على الجفونفيداعبها. ولا نوم، وهو أشد من السنة قهراً للأحياء، وغلبة عليهم، وأخذاً لهم، فهذا وذاك منفيان عن الله تعالى، على سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
ثم جاءت الجملةالرابعة تقرر ملك الله لكل ما في السموات وما في الأرض، وتعرير الملك شىء جديد بعد إثبات الحياة والقيومية الكاملين.
ثم تأتي الجملة الخامسة منكرة أن يكون لأحد أمر معهذا المالك الحي القيوم فتقول: ((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) وقد كانوا يعتقدون أن ما يتخذونه من آلهة، سيكونون شفعاءهم عندالله، فأنكر الله عليهم ذلك; لأن شفاعةالشافع إما أن تكون دلي سلطان عادل، أو سلطان جائر، فإن كانت عند سلطان عادل فشأن الشافع أن يقول له: إنك فعلت ما فعلت، اعتقادا منك بأنه هو المصلحة، ولكنني أعلم أن هذاالذي أشفع فيه معذرو بكذا، أو لم يقصد كذا، فإذا قبل منه صاحب السلطان ذلك، كان هذا لأنه علم مالم يكن يعلم من أمر المشفوع فيه، وهو أمر لا يليق بالله تعالى، إذ هو الجهلبعينه.
/ صفحه 314/وإن كانت الشفاعة عند سلطان جائر، فيجوز أن يقبلها ويترك الذنب لأجل مرضاة الشفيع، وذلك إفساد لا يليق بالله تعالى.
ولم تقدر الآية هذاالشق الثاني، لأن الكلام إنما هو في الشفاعة لدى الله جل علاه، وهو أعدل الحاكمين، فبقي الشق الأول، وهو الشفاعة لدى الله الحكم العدل، فجاءت الآية بالجملة السادسة;تعليلا لإنكار أن يشفع عند الله أحد إلا بإذنه بأنه يعلم كل شىء; فلا يمكن أن يخفى عليه من أمر المشفوع فيه ما يجعله ينزل على حكم الشافع، فهو تعالى كما هو منزه عن الظلممنزه عن الجهل، وذلك هو قوله تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) ثم جاءت الجملة السابعة نفياً لأن يكون في الوجود من يعلم شيئاً من علم الله على وجه الإحاطة به إلاماشاء الله أن يعلمه أحدا من خلقه، وهذا حكم شامل للشفعاء.
وقد جاء في القرآن آيات أخرى تتحدث عن شأن الشفاعة، متضمنة علم الله وانفرداه بالسلطة، مثل قوله تعالى: ((بلعباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)) وقوله تعالى:((يومئذ لا تنفع الشفاعة إلامن أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما)). والمراد بقوله تعالى: ((إلا بإذنه)) و((إلا لمن ارتضى)) و ((إلا من أذن له الرحمن ورضي لهقولا)) فيه كلام كثير وخلاف بين العلماء، وأوفق الآراء أن نحمله على الدعاء، الذي يقبل الله تعالى عقبه ماسبق في علمه الأزلي أنه سيفعله، مع القطع بأن الشافع لم يغير شيئامن علمه، ولم يحدث تأثيرا مافي إرادته تعالى،وبذلك تظهر كرامة الله لعبده في إيقاعه الفعل عقب دعائه، وبهذا فسر الشفاعة ابن تيمية (1).
وقال الأستاذ الإمام ممد عبده:إن لهذا الاستثناء واقعا، وهو أن نبينا عليه الصلاة والسلام يشفع في فصل القضاء: فيفتح باب الشفاعة، فيدخل فيه غيره من الشفعاء، كالأنبياء والأصفياء، كما ثبت فيالأحاديث، وهي مسألة أنكرها المعتزلة وأثبتها أهل السنة، والله تعالى يأذن لمن يشاء، ويطلع على علمه باستحقاق الشفاعة من يشاء، كما يعلم من الاستثناء في الآيةوأمثالها(2).
وتأتي بعد ذلك الجملة الثامنة، وهي قوله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) وهي تعبير تمثيلي لشمول سلطان الله، وعمومه في السموات والأرض
(1) ص 33 ج 3 من تفسير المنار.،=(2) المصدر نفسه./ صفحه 315/