من بحوث معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة
أسباب الاختلاف بين أئمة المذاهب الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد محمد المدني الأستاذ بكلية الشريعة بالازهر
ــــ
القطعي والظني في الشريعة الإسلامية
1 ـ القطعيات، أو 'ما ليس محلا للاجتهاد ': العقائد الأساسية في الإيمان ـ الأحكام العملية التي التحقت بها ـ القواعد الكلية القطعية.
الظنيات، أو ' مواطن الاجتهاد واختلاف النظر ':المعارف الكلامية ـ الأحكام الفقهية ـ القواعد الأصولية أو المذهبية.
2 ـ الحكمة في ورود الشريعة الإسلامية بهذين النوعين.
3 ـ هذا التقسيم مسلم به على الجملة منجميع علماء المسلمين، وإنما وقعت الفرقة والتشاحن من إلحاق بعض الظنيات بالقطعيات اشتباها أو تعصبا.
أمثلة لذلك في المسائل الكلامية: القضاء والقدر ـ الحسن والقبحالعقليان ـ رأي ابن القيم في هذه المسألة.
أمثلة لذلك في المسائل الفقهية: حل متروك التسمية عمداً من الذبائح ـ المسح على الخفين ـ نكاح المتعة ـ.
4 ـ الخلاف لا يمنعالإنصاف والائتلاف.
ــــ
1 ـ هناك نوعان من المسائل والأحكام يستطيع الناظر في علم الشريعة الإسلامية أن يفرق بينها، وأن يهتدي بهذا التفريق في بحثه ودرسه: ـ / صفحه 173/
النوع الأول:
الأحكام القطعية التي قام الدليل على أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، ولا يجوز الاختلاف فيها،ولاتخصع في ثبوتها ونفيها لاجتهاد المجتهدين.
ويمكننا أن نرجع هذا النوع إلى ما يأتي:
اولا: العقائد القاطعة التي يجب الإيمان بها لقيام الدليل اليقيني ـ في ثبوتهودلالته ـ عليها، وعلى أنها الحد الفاصل بين المسلمين وغير المسلمين، ومن حجد شيئا منها فقد خرج من ربقة الإسلام، وذلك كالتوحيد، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وختمالنبوة بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال في الدار الآخرة، وأن الله تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقصان، وأن الرسل لا يجوز عليهمالكذب ولا الكتمان ولا الخيانة، إلى غير ذلك من العقائد التي يكون بها المسلم مسلماً، والتي يخرج من الإسلام إذا حجد شيئاً منها.
فليس لأحد أن يجتهد في ذلك وامثاله،لنه ليس محلا للإجتهاد، إذ هو حقائق متعينة ثابتة باقية لا تتغير مهما تغير الزمان أو المكان إلى يوم الدين، وليس هناك احتمال ما لثبوت تغيرها أو بطلانها.
ثانياً:الأحكام العملية التي جاءت بها الشريعة بطريقة واضحة حاسمة في جانب الايجاب أو المنع أو التخيير، وذلك مثل وجوب الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليهسبيلاً، وكون الصلوات خمساً في اليوم والليلة، وكون هيئة الصلوات هي هذه الهيئة المعروفة، وأعداد ركعاتها هي الأعداد المعروفة، ومثل تحريم قتل النفس بغير الحق، وأكلالأموال بالباطل، وقذف الأعراض، والزنا، والإفساد في الأرض، ونحو ذلك، ومثل إباحة الطيبات وتحريم الفواحش … الخ.
ثالثا: القواعد الكلية التي أخذت من الشريعة بنصواضح ليس فيها ما يعارضه تقريراً أو تفريعاً، أو استنبطت بعد الاستقراء التام وعلم ان الشريعة.
/ صفحه 174/
تجعلها أساساً لأحكامها، وذلك مثل: ' لا ضررولا ضرار '. ' ما جعل عليكم في الدين من حرج '. ' الحدود تدرأ بالشبهات '. ' لا يعبد الله إلا بما شرع ' ' المعاملات طلق حتى يثبت المنع ' ونحو ذلك.
النوعالثاني:
أحكام أو نظريات لم تجئ على هذا النحو الواضح القاطع في وروده ومعناه، ولكنها جاءت أو جاء ما يدل عليها أو يشير اليها، على نحو صالح لأن تختلف فيهالأفهام، وتتعدد وجهات النظر، اما لأمر يتعلق بأصل الورود، أو بالدلالة والإفادة.
وهذا النوع هو الذي جعلته الشريعة موضع اجتهاد المجتهدين، وجعلت منه مجالا للنظروالتفكير والموازنة والترجيح والاستقراء والتتبع وتقدير المصلحة والعرف وتغير الحال، إلى غير ذلك من وجوه النظر، وأسباب الاختلاف.
ومن هذا القبيل:
أ ـ في جانبالمعارف الكلامية: ما كان من اختلاف النظر في شأن القضاء والقدر، وفي تأويل ما ورد من إثبات الوجه واليد والعين ونحو ذلك لله تعالى على معنى يليق بالتنزيه، أو التفويضبإبقائها على ما وردت عليه بدون تأويل مع اعتقاد أنه تعالى ' ليس كمثله شئ '، وفي إمكان رؤية المؤمنين لله أو عدم إمكانها، وفي وجوب التوقف عن الخوض فيما شجر بين الصحابة منخلاف أفضى إلى التنازع والحرب أو إباحة ذلك لمن شاء، إلى غير ذلك.
ب ـ وفي جانب الأحكام الفقهية: اختلاف الفقهاء في مقدار الرضاع المحرم لقيام علاقة زوجية، وفي حكمالقصاص في القتل بالإكراه، وفي صحة النكاح ونفاذه ولزومه إذا باشرت المراة العقد دون وليها، وفي القضاء بشاهد ويمين من جانب المدعي، وفي القضاء بالقرائن، وغير ذلك منالمسائل الخلافية الفقهية.
ج ـ وفي جانب القواعد الأصولية أو الفقهية التي تفرع عليها الأحكام: اختلاف النظر في أن القرآن ينسخ أو لا ينسخ، وبم ينسخ، وفي العملبالقياس،
/ صفحه 175/
وفي العمل بالعقل، وفي كون الزيادة على ما في الكتاب نسخا، وفي تقديم أحاديث الآحاد أو أقوال الصحابة على القياس، إلى غير ذلك.
2ـ والحكمة في ورود هذين النوعين من الأحكام في الشريعة الإسلامية: أن أمر الناس لا يصلح إذا جاءت الأحكام والمسائل كلها على نمط واحد: فلا يصلح في أمور العقائد وأصول الدينأن يترك الناس لعقولهم وأفهامهم وظنونهم، كما لا يصلح ذلك في حقائق العبادات وصورها ورسومها، ولا في أصول المعاملات التي تقوم عليها، فكان من رحمة الله بالناس أن وقاهمشر التفرق فيها، ورسم لهم دائرة محدودة واضحة المعالم، يعرف من دخلها ومن خرج عنها، وسما بالحقائق الواقعة عن أن تكون محل خلاف أو تنازع ـ أما الفروع التي لا يضر الاختلاففيها، سواء أكانت في الجوانب النظرية ام في الجوانب العملية، فلم يكن يصلح امر الناس على توحيدها، ولو أنها وحدت لجمدت العقول، ولا صطدمت الشريعة في كل زمان ومكان بما يجدللناس من صور المعاملات، وبما لا بد منه من مراعاة المصالح، ودرء المفاسد، لذلك كان من رحمة الله بالناس وحكمته في التشريع لهم، ان يفتح للعقول مجال النظر، وأن يجعل منذلك مددا لا ينضب معينه لما يجد من القضايا والصور، ولما تساير به الشريعة المصالح (1).
3 ـ وهذا التقسيم الذي ذكرناه مسلم على الجملة لدى جميع علماء الإسلام في مختلفالمذاهب، لا تكاد تجد فيه خلافا بين سني وشيعي، ولا بين أشعري ومعتزلي، ولكن يوجد كثيراً من يبالغ في مسألة من المسائل الخلافية الكلامية أو الفقهية فيلحقها ـ اشتباهاًأو تعصباً ـ بالمسائل القطعية التي لا يجوز الخروج عنها، ويترتب على ذلك أن يرمي مخالفيه عنها بأنهم أهل بدعة أو ضلال أو هوى أو غير ذلك من الأوصاف التي تسوق إليهاالحماسة والعاطفة المذهبية.
ــــــــــ
(1) راجع في ذلك رسالة ' نقط على الحروف ' لسماحة الأستاذ الشيخ محمد التقي القمي ' وتجدها كذلك في مجلة 'رسالة الإسلام ' ص 377 من المجلد الخامس.
/ صفحه 176/
ومن أمثلة هذا:
أ ـ في جانب المعارف الكلامية:
1 ـ اختلاف النظر في شأن 'القضاء والقدر ' (1): فمن الناس من تأملوا في القرآن والاحاديث فوجدوا فيها أشياء ظاهرها الإجبار والإكراه، كقوله تعالى: ' ولو شاء الله لجمعهم على الهدى '. ' ختم الله علىقلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ' وكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ' السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه ' فبنوا من هذا النوع أنالعبد مجبر ليس له شئ من الاستطاعة.
ومن الناس من نظروا إلى آيات أخر، وأحاديث أخر، تدل على أن العبد مستطيع مفوض أمره إليه يفعل ما يشاء، كقوله تعالى: ' ولا يرضىلعباده الكفر:. ' وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ' وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ' كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذانيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ' ثم بنوا من هذا النوع مقالة ثانية أصلوها على أن العبد مخير مفوض إليه أمره يفعل ما يشاء، ثم عمدت كل طائفة من هاتين إلى ما خالف مذهبها منالآيات والاحاديث فأولته ما أمكنها التأويل، وردت منه ما استطاعت رده.
وطائفة ثالثة توسطت فجمعت بين مشيئة العبد ومشيئة الرب، على معنى أن للعبد مشيئة ولكنها لا تتمإلا بمشيئة ربه، وذلك أخذاً من مثل قوله تعالى: ' وما تشاءون إلا أن يشاء الله '. ' ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ' ومن مثل ما روى عن الإمام جعفر الصادق رضيالله عنه من ان رجلا سأله: هل العباد مجبرون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبده على معصية ثم يعذبه عليها. فقال له السائل: فهل أمرهم مفوض إليهم؟ فقال جعفر: الله أعز من أنيجوز في ملكه ما لا يريد، فقال السائل: فكيف الامر إذن؟ فقال جعفر:
ــــــــــ
(1) راجع في ذلك كتاب ' الإنصاف ' للبطليوسي ص 83 وما بعدها.
/صفحه 177/
أمر بين الامرين، لا جبر ولا تفويض، وكنحو ما روى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه لما انصرف من صفين قام إليه شيخ فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتمسيرنا إلى صفين؟ أبقضاء وقدر؟ فقال علي رضي الله عنه: والله ما علونا جبلا، ولا هبطنا وادياً ولا خطونا خطوة إلا بقضاء وقدر، فقال الشيخ: فعند الله احتسبت عنائي، إذن ماليمن أجر! فقال له علي: مه يا شيخ: فإن هذا قول أولياء الشيطان وخصماء الرحمن، قدرية هذه الأمة، إن الله تعالى أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرها، فضحكالشيخ ونهض مسروراً ثم قال:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ***** يوم القيامة من ذي العرش رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا ***** جزاك ربك عنا فيه إحسانا!
ويتلخصهذا في أن الله تعالى علم كل ما هو كائن قبل أن يكون، ثم خلق الإنسان فجعل له عقلا يرشده واستطاعة يصح يها تكليفه، ثم طوى علمه السابق عن خلقه، وأمرهم ونهاهم، وأوجب عليهمالحجة من جهة أمرهم ونهيهم، لا من جهة علمه السابق فيهم، فهم يتصرفون بين مطيع وعاص، وكلهم لا يعدو علم الله السابق فيه، وإلا انقلب العلم جهلا، تعالى الله عن ذلك، ولكنليس في أن يعلم الله الأمور قبل وقوعها إجبار، لأن العلم ليس من صفات التأثير، فمن فعل شيئا فقد فعله باستطاعة منه في ظل المشيئة الإلهية، ولم تجر المشيئة الالهية بأنتجبر أحداً على طاعة أو معصية، ولكن تيسر وتمد: ' فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغني وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى '.
' والذين اهتدىزادهم هدى '. ' قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ' ' ولو شاء الله لجمعهم على الهدى '. ' وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين '.
هذه مقالات الطوائف الثلاث في 'القضاء والقدر ' وذلك سر اختلافهم في هذه المسألة، والخير كل الخير في الوقف وعدم الخوض في ذلك وأمثاله لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ' إذا ذكر القضاءفأمسكوا ' ونعم ذلك مذهبا لمن آثر
/ صفحه 178/
الخلاص والسلامة، وشغل نفسه بالعمل النافع، متوفراً عليه، مستريحا من السير في طريق طالما زلت فيه الأقدام،وتحيرت الأفهام.
2 ـ ومن الأمثلة في هذا المقام أيضاً اختلاف الأشاعرة مع المعتزلة والامامية في مسألة الحسن والقبح العقليين، وفالأشاعرة يقولون: لا حسن إلا ما حسنهالشرع، ولا قبيح إلا ما قبحه الشرع، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم والعاصي في الجنة لم يكن قبيحاً، لأنه يتصرف في ملكه ولا يسأل عما يفعل، وليس للعقل حكومة ولا إدراكللحسن والقبح في حق الله تعالى، أي أنه ليس له وظيفة الحكم بأن هذا حسن من الله، وهذا قبيح منه ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
أما المعتزلة والامامية فقالوا: إن الحاكم في ذلكهو العقل مستقلا، وجاء الشرع مرشداً لحكمه أو مؤكداً له، والعقل يحكم بحسن بعض الافعال وقبحها، ويحكم بأن القبيح محال على الله لأنه حكيم وفعل القبيح مناف للحكمة،وتعذيب المطيع ظلم، والظلم قبيح مناف للحكمة، لا يقع منه تعالى (1).
وينبغي أن يعلم أن نظرية الحسن والقبح ـ وإن نسبت إلى المعتزلة أو الامامية ـ يقول بها بعض علماءالسنة، ومنهم ابن القيم، قال في كتابه ' مفتاح دار السعادة ' (2) ' فمن جوز عقله أن ترد الشريعة بضدها من كل وجه في القول والعمل، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين هذه العبادةوبين ضدها، من السخرية والسب والبطر وكشف العورة والبول على الساقين والضحك والصفير وأنواع المجون وأمثال ذلك، فليعز في عقله، وليسأل الله أن يهبه عقلا سواه ' وقد سئلبعض الأعراب فقيل له كيف عرفت ان محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشئ فقال العقل ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شئ فقال العقل ليته أمر به، فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينهورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح
ــــــــــ
(1) راجع كتاب (القواعد الكبرى) لعز الدين بن عبد السلام ص 192 / 193 ج 1 وفي أمثلة عدةللإختلاف في الفروع الكلامية مع الاتفاق على الأصل.
(2) ص 329 وما بعدها: الطبعة الثانية سنة 1358 هـ، 1939 م.
/ صفحه 179 /
مانهى عنه، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته '. ' ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: ' ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ' فهذا صريح في أن الحلال كان طيبا قبلحله، وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه، ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم، فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، فثبت أنه أحل لهم ما هوطيب في نفسه قبل الحل فكساه بإحلاله طيبا آخر فصار منشأ طيبه من الوجهين معاً، ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: ' قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثموالبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ' وهذا دليل على أنها الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأنتشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ' وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستسنها العقول فتعلق التحريم بها لفحشها، فإن ترتيب الحكم علىالوصف المناسب يدل على أنه هو العلة المقتضية له، والعلو يجب ان تغاير المعلول، فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهياً عنه، وكونه خبيثاً هو معنى كونه محرما، كانت العلةعين المعلول وهذا محال ' ومن ذلك قوله تعالى: ' ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ' فأخبر تعالى أنما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه وتعالى لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا، ولم ينزل عليهم كتاباً، فقطعهذه الحجة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن تصيبهم بها المصيبة،ولكنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل، وهذا هو فصل الخطاب، وتحقيق القول في هذا الاصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعدإرسال الرسل '.
ومن هذا يتبين أن ابن القيم يأخذ من المعتزلة قولهم بالحسن والقبح العقليين وأن الشرع لا ينشئ في الاشياء حسنا ولا قبحا، بل يؤكد الحسن بالحل، والقبحبالتحريم، ولكن ابن القيم في الوقت نفسه ينفي أن يكون التعذيب على القبائح إلا بعد إقامة الحجة بالرسالات والكتب.
/ صفحه 180/
والواقع أن المختلفينجميعا مستهدفون هدفا واحداً هو اتصاف الله تعالى بأوصاف الكمال والجلال، ولم يقل أحد إن العقل والشرع قد اختلفا في شئ ما، من جهة أنه حسن أو قبيح، وإنما الكلام في جوازذلك أو عدم جوازه، فمن جوزه فإنما يفر من تقييد الله تعالى المنافي لألوهيته، وكونه يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، ومن أحاله فإنما يفر من وصفه جل شأنه بأنه يجوز عليه فعلشيء يراه العقل قبيحا، وليس المصير إلى أحد القولين بواجب العقيدة.
وقل مثل ذلك في جميع المسائل النظرية التي تذكر في كتب الكلام، ويهتم بها علماؤه، وتعطي في نظر كثيرمن أهل المذاهب أو الطوائف أهمية فوق ما تستحق، ويصل بها الأمر أحيانا إلى ان تكون سببا في الفرقة بين المسلمين، بل إلى ان ينظر بعضهم إلى بعض كأنهم أهل أديان مختلفة،وربما طوعت العصبية المذهبية لبعضهم أن يستنصر بمخالفيه في الدين على مخالفيه في المذهب أو الطائفة مع أنهم جميعاً إخوة في الإسلام.
* * *
ب ـ وفي جانب المسائلالفقهية: من أمثلة ذلك:
1 ـ تشديد بعض العلماء على الشافعية في قولهم بحل الحيوان الذي تركت التسمية عليه عمداً لظنهم أن هذا مصادم مصادمة صريحة لقوله تعالى: ' ولاتأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ' وقد بلغ ببعضهم التشديد في ذلك إلى أن عدوه زيغاً مع أنها مسألة خلافية، وللشافعية فيه وجهة نظرهم حيث حملوا الآية على آيةأخرى وهي قوله تعالى: ' قل لا أجد فيما أوحى اليّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ـ فإنه رجس ـ أو فسقا أهل لغير الله به )) فهذه الآية تفيدأن المحرم من الذبائح انما هو الحيوان الذي أهل لغير الله به وهذا غير الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه ' عمداً أو سهواً فحملوا النهي في قوله تعالى: (( ولا تأكلوا ما لميذكر اسم الله عليه )) على ما أهل لغير الله به، وآزروا هذا بما روى من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
/ صفحه 181/
سئل فقيل له:أن ناساً من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ' سموا الله عليها ثم كلوها ' وما روى منقوله عليه الصلاة والسلام: ' المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ' ومن أنه سئل فقيل له: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمى الله؟ فقال: ' اسم الله في قلب كل مسلم '. فالذين شددوا على الشافعة اعتبروهم مخالفين للنهي الصريح المتبع بأن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه فسق، ولكن الشافعية متأولون في أمر محتمل، لهم فيه وجهتهم، وحاشاهمأن يرفضوا نصا لا احتمال فيه.
2 ـ ومن أمثلة هذا في المسائل الفقهية أيضا: مسألة الاختلاف في المسح على الخفين، فقد أولاها المختلفون أهمية كبرى: فبينما يعتبر أهل السنةجواز المسح على الخفين في منزلة الأصول التي لا يجوز إنكارها ولا التردد فيها، نرى الشيعة من زيدية وإمامية، ينازعون في الجواز منازعة شديدة ويقولون إنه نسخ.
وقد روىأهل السنة أحاديث كثيرة في جواز المسح وقالوا ثبت هذا الجواز عن أكثر من سبعين صحابياً، وصرح جمع من الحفاظ بأنه متواتر، ويقول بعض العلماء من أهل السنة: ' رأينا أصحابرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يقولون: ' الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله والمسح علىالخفين، فهو قد جعل المسح على الخفين عديلا للعقائد القاطعة.
والشيعة يقولون: إن ما ورد من مسح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يذكر ما كان منه قبل آيةالوضوء التي في سورة المائدة، فيكون منسوخا، ويقول يحيى بن الحسين، وهو من المنكرين لجواز المسح على الخفين ' لأن تنقطع رجلي أحب إلى من أن أمسح على خفي ' ورووا عن ابن عباسوغيره ما يدل على نسخ الجواز.
/ صفحه 182/
3 ـ ومن أمثلة هذا النوع أيضا ما وقع من الخلاف بين الجمهور والشيعة الامامية في نكاح ' المتعة ' وهو العقد علىالزوجة إلى أجل، فالامامية يبيحونه والسنة يمنعونه ويعتبرون إباحته خرقا للإجماع، ويذكرونه في معرض النبز للإمامية بمخالفتها أمراً مجمعاً عليه، والأمر في هذه المسألةله جانبان: جانب متفق عليه وهو أن ذلك كان مشروعاً في أول الإسلام شرعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأباحه وعمل به جماعة من الصحابة، وجانبمختلف فيه: وهو أن أهل السنة يقولون: نسخت الاباحة، والشيعة يقولون: لم تنسخ، ولكن أدلته على ما يقول، وهي أدلة صالحة للنظر والدرس والترجيح، فالمسألة إذن من المسائلالخلافية التي يباح للمجتهدين أن ينظروا فيها.
* * *
ج ـ وفي جانب القواعد الاصولية: من أمثلة ذلك:
1 ـ اختلافهم في الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة، وذلك أنه إذاورد في الكلام جمل متعاطفة، ثم جاء استثناء، ولم يكن في الكلام دليل على عوده إلى جميع الجمل أو إلى بعضها بخصوصه، فهل تكون القاعدة ان يعود الاستثناء إلى جميع الجمل، أوإلى الأخيرة منها فقط؟.
فالأول هو مذهب الشافعية والظاهر من مذهبي المالكية والحنابلة، والثاني هو مذهب الحنفية ' وذهب جماعة إلى التوقف، منهم القاضي أبو بكر، ومنهمالمرتضى من الشيعة الامامية.
ويترتب على هذه القاعدة اختلاف في مثل قوله تعالى: ' والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهمشهادة أبدا. وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم '.
فالذين يعيدون الاستثناء إلى الجمل كلها يقولون: قد ذكرت عدة جمل قبلالاستثناء هي أحكام مترتبة على القذف: ' فاجلدوهم ثمانين جلدة '،. ' ولا تقبلوا
/ صفحه 183/
لهم شهادة أبداً: ' وأولئك هم الفاسقون ' والاستثناء يعود إلىالكل إلا أن الدليل على أن التوبة لا تسقط حقوق العباد، وبقي بعد ذلك الجملتان الثانية والثالثة، فمن تاب وأصلح قبلت شهادته، ولم يعتبر فاسقاً.
والذين يعيدونالاستثناء إلى الأخيرة فقط يقولون: لا تقبل شهادة القاذف بالتوبة ولكن لا يعد فاسقاً بعد توبته، ويؤيدون ذلك بمعنى عقلي هو أن رد الشهادة من تمام الحد والعقوبة فإن اللهجعل على القاذف نوعين من العقوبة: عقوبة بدنية هي الجلد، وعقوبة أدبية هي الحرمان من مركز الشهادة، فكما أن التوبة لا ترفع الجلد لأنه حق من حقوق العباد؛ كذلك لا ترفعالعقوبة الأدبية التي هي رد الشهادة لهذه العلة نفسها.
فالمبدأ في هذا الخلاف يرجع إلى القاعدة التي ارتضاها كل من الفريقين، ولكل منهما دليله على ما ارتضى في علمأصول الفقه، ثم آزر الحنفية ما رأوا بالمعنى الذي ذكرناه، كما آزر الفريق الآخر رأيهم بأن رفع الفسق بالتوبة يناسبه قبول الشهادة، وليس مما يتناسب أن يرفع الفسق ويبقى ردالشهادة.
2 ـ ومن ذلك أيضا اختلافهم في مسألة الزيادة على النص هل تعد نسخا اولا، وستأتي أمثلة لذلك تغنينا عن التمثيل.
* * *
د ـ وفي جانب القواعد الفقهية: منأمثلة ذلك.
1 ـ ما ذكره الإمام ابو زيد الدبوسي في كتابه ' تأسيس النظر ' (1) حيث يقول: ' الأصل عندنا ـ أي الحنفية ـ ان المضمونات تملك بالضمان السابق ويستند الملك فيهاإلى وقت وجوب الضمان إذا كان المملوك مما يجب تملكه بالتراضي، وعند الإمام القرشي أبي عبد الله الشافعي: ' المضمونات لا تملك بالضمان وعلى هذا مسائل:
ــــــــــ (1) ص 56 طبع المطبعة الادبية بمصر.
/ صفحه 184/
منها أن الغاصب إذا ضمن قيمة المغصوب ثم ظهر المغصوب فهو له، لأنه ملكه بالضمان، فاستندملكه إلى وقت وجوب الضمان عند علمائنا، وعند الإمام القرشي ابي عبد الله الشافعي لا يكون له المضمون ملكا والمغصوب منه إذا أخذ القيمة كان عليه رد القيمة وأخذ المضمون منالغاصب، لأن الغاصب لا يمكله … ومنها إذا غصب حنطة فطحنها ملكها، لأنه عجز عن ردها بعينها، فأشبه فواتها من يده فضمن مثلها ضمانا مستقراً لا موقوفا فملك المطحون، لأنالملك يتبع سابقة وجوب الضمان عندنا، فإن قيل ما الدليل على انه عجز عن ردها بعينها، ودقيقها عينها، قيل له: الدقيق غير الحنطة اسما وحكما ولونا وصورة، وعند الإمام أبيعبد الله الشافعي لا يملك ذلك الطحين بالطحن.
ومنها إذا غصب ساجة فأدخلها في بنيانه وفي نزعها ضرر لصاحب الينيان ملكها صاحب البناء عندنا، لوجوب الضمان اللازم عندناله بالملك المستقر في ذمته، وعند أبي عبد الله لا يملك الساجة، ويجب عليه نزعها. أ هـ.
* * *
4 ـ ويتبين من هذا كله أمران:
أحدهما: أن الخلاف بين المسلمين فيالمسائل الخلافية من كلامية وفقهية ليس أساسه ـ إذا أرجعناه إلى مراجعه الأولى ـ أن هؤلاء سنة وهؤلاء شيعة، أو أن هؤلاء حنفية، وهؤلاء شافعية أو مالكية … ألخ، أو أنالقائل بكذا أشعري والمخالف له معتزلي. إلى غير ذلك، ولكن أساسه هو اختلاف النظر والتقدير وما ترجح عند كل فريق، ثم جاء الأتباع فورثوا هذا عن المتبوعين وتعصبوا له، ووجدمن متأخريهم من يصور المذهبية على أنها التزام لمذهب معين، فما دام الإنسان قد اختار ان يكون حنفياً مثلا، فليس له أن يعمل بمذهب غير الحنفية، وإذا كان عالما بالفقه كانعليه أن يدور في فلك الحنفية فيخرج أقوالهم ويدافع عنها، ويجتهد في إبطال آراء الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وتفرع على ذلك أنهم قرروا أن من قلد مذهبا ليس له أنينتقل إلى غيره،
/ صفحه 185/
وقد جاء في فروع باب التعزير من كتاب (الدر المختار): ' ارتحل إلى مذهب الشافعي يعزر ' وقرروا أن ليس للإنسان إذا قلد مذهبامعينا ـ ولابد له أن يقلد ـ أن يقلد غير هذا المذهب في بعض الوقائع إلا بشروط، وقرروا أن ليس للمتأخر أن يبحث أو يرجح فيم بحثه المتقدم أو رجحه، الخ (1).
وليس هذا صحيحاً،وإنما قاله بعض المتأخرين حينما تحكمت فيهم روح الخلاف، وملكتهم العصبية المذهبية، فراحوا يضعون من القوانين ما يمنع الناس من الخروج عن مذاهبهم، وانتقلت المذاهب بهذاالوضع عن أن تكون أفهاماً يصح أن تناقش فترد أو تقبل إلى التزامات دينية لا يجوز لمن نشأ فيها أن يخالفها أو يعتنق غيرها (2).
وقد وصف الشيخ عزالدين بن عبد السلام موقفهؤلاء المتأخرين فقال: ' ومن العجب العجاب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه يبحث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده، ويترك من شهد له الكتاب والسنة،ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده ' ثم قال: ' لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى ان ظهرت هذهالمذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الادلة مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل، وهذا نأى عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من ذوىالألباب.
وقد عهدنا العلماء الراسخين يتبعون الدليل من أي أفق ظهر، ولا يعبأون بمخالفة مذاهبهم، فقد يخالف الحنفي الحنفي، وقد يخالف الشافعي الشافعي، وقد يخالفالامامي الامامي، وقد ينتصر العالم لرأي في غير مذهبه لأنه يراه
ــــــــــ
(1) انظر مقارنة المذاهب لفضيلتي الاستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخمحمد علي السايس ص 3، وما بعدها.
(2) انظر مقارنة المذاهب لفضيلتي الاستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس ص 3، ومابعدها.
/ صفحه 186/
الصواب، ومن أمثلة هذا مخالفة ابن تيمية وابن القيم لجميع مذاهب أهل السنة في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وأخذهم بمذهبالامامية الذين لا يوقعون به إلا طلقة واحدة، لأن الدليل معهم، وقد كان لبعض العلماء المعاصرين يوم قرر قانون الأحوال الشخصية في مصر الأخذ بمذهب الامامية في ذلك، ضجةكبرى، لأن المذاهب الأربعة توقع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، وقد استقر أمر الناس عليها حتى اعتبرها العامة والخاصة مسألة في صف المسائل الاساسية، فكان هذا القانونسبباً في قيام اعتراضات كثيرة ومناقشات متعددة، ثم استقر أمره وصار العمل عليه، وهجر رأي المذاهب الاربعة وما يوافقها في ذلك، ولم يعد أحد يهتم بهذا أو يراه حدثا فيالإسلام.
الأمر الثاني: أن كلا من الاتفاق والاختلاف أمر لازم لا مناص منه، فلا يمكننا ان نتصور المسلمين أو أية أمة من الأمم متفقين في كل شئ، ولا أن نتصور هؤلاءوأولئك مختلفين في كل شئ، ولكن الذي هو واقع فعلا، ولا مناص من أن يقع، هو أن الأمة الواحدة لها مواضع كثيرة تتفق عليها، وهي التي ربطت بينها وجعلتها أمة واحدة، ولها معذلك مواضع كثيرة تختلف فيها لاختلاف العقول والمصالح والأدلة بينها، وهي بحكم اتفاقها فيما اتفقت فيه أمة واحدة، وبحكم اختلافها فيما اختلفت فيه مذاهب متعددة،والمذهبية الخاصة لا تخرج أهلها عن كونهم من الامة، ولا تعطيهم في نفس الوقت قربا أو نسبة في القرب من الدين ليست لأصحاب مذهب آخر ومن ثم لا يستطيع منصف أن يقول: إن مذهبيحق كله وصواب كله ومذهب غيري باطل كله وخطأ كله، ولكن يقول أن هذا هو ما رأيته بحسب فهمي واجتهادي وما علمته، فأنا أرجحه ولا أقطع به، ويحتمل أن يكون ما رآه غيري هو الحقوالصواب، ولست مكلفاً إلا بما وصلت اليه، وليس مخالفي مكلفاً إلا بما وصل هو أيضا إليه.
وقد اشتهرت في هذا المعنى عبارة جيدة تصور اختلاف المختلفين المنصفين لأنفسهموغيرهم، إذ تقول بلسان كل مجتهد: ' مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب '.
/ صفحه 187/
وما من مجتهد إلا وقد روى عنه ما يدل على سماحتهالعلمية، وأنه كان يأبى على الناس أن يقلدوه في كل ما قال، ويلغوا ما سواه.
فأبو حنيفة رضي الله عنه كان يقول: ' لا ينبغي لمن لم يعرف دليل أن يفتي بكلامي، وكان إذا أفتىيقول: هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
والشافعي رضي الله عنه كان يقول: ' إذا صح الحديث فهو مذهبي 'وقال يوما للمزني ' يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وأنظر في ذلك لنفسك فإنه دين '.
وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: ' ليس لأحد مع الله ورسوله كلام ' وقال يومالرجل: ' لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة '.
وهذه النظرة المنصفة تغيب أحيانا عن بعض أهل العلم،أو تغمرها العصبية، أو المصلحة الشخصية، فيشتد الخلاف، وينقلب لجاجا وخصومة، وربما أدى إلى قطيعة.
وقد عرف التاريخ العلمي الإسلامي كثيرا من صور الخلاف والتعصب ليسالمجال لبيانها أو تحليل أسبابها، كما عرف صوراً رائعة من صور الاختلاف المهذب بين الائمة الأعلام والعلماء الراسخين، أفادت العلم ووسعت دائرة الفكر، وجعلت معين الفقهالإسلامي فياضاً.
وإن خير ما يقدمه خاصة أهل العلم إلى أمتهم في هذا العصر، أن يتناولوا بحوثهم العلمية في انصاف ورفق، وأن يكون رائدهم الحق من أي أفق ظهر، وأن يحسن كلمنهم الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، فربما وجد عنده صوابا وربما استعان به على الوصول إلى درجة الكمال المنشود.