بين الإسلام والنصرانية:
الحروب الصليبيةلحضرة صاحب الفضيلةالأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف درازمدير الجامع الأزهر والمعاهد الدينية
ترادفت الحروب الصليبية على الإسلام والمسلمين من أهل أوربا منذ سنة 1095 إلى سنة 1270 ميلادية، وكان باعثها الأول هو ما أحسهكبار القساوسة ورجال الكهنوت، وفي مقدمتهم البابا أوربان الثاني من قوة الإسلام ومتانة مبادئه، وسرعة انتشاره، مع ضآلة الجهود التي تبذل في الدعوة له، وقوة الجهود التيتبذل في التبشير بالمسيحية.
وقد عقد هذا البابا مجمعين عظيمين، حضر هما سفراء الملوك المسيحيين، وازدحما بالوافدين إليهما من كل صوب، وبذل في كل منهما جهداً عظيما فيإقناع الحاضرين بخطر الإسلام على المسيحية، وأفتنَّ في إثاره حماستهم الدينية، وكان داهية من دواهي السياسة فضلا عن مركزه الكهنوتي الكبير، فأثروا به تأثيراً شديداً،وخرجوا من لدنه هائجين، تغلى دماؤهم، وتصطك من الغيظ أسنانهم، وتكاد عيونهم ترمي بالشرر، وزاد حماستهم وغيظهم ما قصه عليهم الراهب بطرس الذي كان قد عاد ذلك العام من حجهإلى بيت المقدس، إذ وصف لهم في صورة مثيرة للعواطف ما يلاقيه المسيحيين من الكروب والأهوال والإهانات
/ صفحة 142 /البالغة من المسلمين المتسلطين على هذا البيتالمقدس الذي هو قبلة المسيحيين، ومركز عواطفهم الدينية، فكانوا يسيرون في الطرقات لهم عواء كما تعوى الذئاب الجائعة، وقد عقلوا الصلبان الحمراء على صدورهم، ويقولون(كذا أراد الله).
عزموا من لدن ذلك الحين على النضال في سبيل هدم الإسلام، وزلزلته عن مكانة العزة والقوة التي اكتسبها بتاريخه الناصع، ووطد دعائمها، وهدد بها كيانالعالم المسيحي، واستولى على مقدساته، فاجتمعت جماهير العامة تحت قيادة بطرس الراهب، ثم اجتمعت بعد ذلك جيوشٌ أربعة كثيفة، مؤلفة من أشرافهم، واشتعلت نيران هذه الحروبالظالمة بينهم وبين المسلمين ينفخ فيها شيطان الحقد والحسد، وظلت رحاها تدور سجالا بين الفريقين قرابة قرنين من الزمان تجلي في أثنائهما أهل أوربا بالعداوة الصريحة،والتعصب الذميم، والوحشية الكاسرة التي لا تعرف الرحمة ولا تذعن لقواعد الشرف، ولا تبتغي إلا البطش والإهلاك والتدمير ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
ثم أراد الله جلتحكمته أن تهن عزائم الموقدين لهذه النار، وأن يصابوا بالهزائم تلو الهزائم، وبالنكبات تلو النكبات، فكفوا عن حروبهم الظالمة، وكفى الله المؤمنين القتال، عادت السيوفإلى أغمادها، ولكن لتثار حروب أخرى يعرفها أهل أوربا جيدا، ويتقنون أساليبها، وهي حروب الفتن والدسائس وإغراء العداوة بين المسلمين، وتحريض بعضهم على بعض، حتى إذااشتغلوا بأنفسهم ولهوا عن أعدائهم، وزاغت منهم القلوب والأبصار، جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، فلم يستطيعوا لهم دفعا، ولم يملكوا لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
على هذاالأساس وضعوا خطتهم، وأعلنوا هُدنتهم أو خدعتهم، فلم يكن سكوتهم عن الحروب الصليبية إلا سكوت السيف والمدفع، لينطلق شيطان الإفساد والفتنة والنفث في العُقَد، وضِراراًوكفوا وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وأفلحوا في خطتهم هذه ما لم يفلحوا في عزمتهم تلك، فدبَّ إلى المسلمين داؤهم، وسرت فيهم سمومهم، وشغلتهمحروب الطائفية،
/ صفحة 143 /والخلافات المذهبية عن دينهم وسلطانهم واتخاذ الحيطة لأعدائهم، حتى رأى أهل أوربا أن الفرصة قد سنحت، فأعادوا حروبهم الصليبية فيثوب جديد أرادوا به سترها، ولكنه شفَّ عنها، حتى قال السلطان عبد الحميد كلمته المشهورة التي يخيل إلىّ دائماً لشدة وقعها في نفسي كأني اسمعها من فمه: (إن أوربا تحاربناحرباً صليبية في صورة سياسية).
* * *
لقد كان عبد الحميد على حق، وعلي علم عظيم حين قال هذه الكلمة، فقد بلغ تكتل الأوربيين في عهده لمحق المسلمين مبلغاً عظيماً،وكان بحكم مركزه السامي، وطبيعة عمله المتصل بالسياسة الدولية، بصيراً بما يدبر من المؤامرات لهدم الإسلام وتحطيم نفوذه كدولة ذات جاه وسلطان وملك كبير، بل كان كثير منزعماء المسلمين الذين ليس لهم من وسائل العلم بلذلك ماله، يعرفون من أمر هذا التكتل الشيء الكثير، فنبه إليه جمال الدين الأفغاني وإخوانه وتلاميذه، وصاحوا في العالمالإسلامي صيحة الخطر، وأنشأوا المجلات والجرائد، ونشروا المقالات، وألفوا الكتب، وعقدوا الاجتماعات، وخطبوا، وسافروا، وحلوا وارتحلوا، ولم يتركوا وسيلة من وسائلالتنيبه إلا توسلوا بها، وكان السلطان يؤيدهم في قرارة نفسه لما يعلم من علمهم وصدق دعوتهم، ولكنه لم يظهر بهذا التأييد إلا اخيراً بعد أن رأى المسيحيين يحاربون هذهالدعوة، ويعلمون على كبحها وإطفاء جذوتها، ويؤلفون الجمعيات التبشيرية والدراسية من سرية وعلنية لمقاومتها، بيد أنه لم يلبث حتى عزل ثم مات.
وأحسب أن القرن الحاليهو أشد القرون على الإسلام والمسلمين، وأن الحروب الصليبية قد عادت فيه سافرة، ولم يعد مصدرها أهل أوربا فحسب بل انضم إليهم فيها أهل أمريكا.
وإذا أردنا نسوق على ذلكدليلا، فإننا نلفت النظر إلى أمور، أحدها: أن أفريقيا غُابت على أمرها، فامتدت إليها أيدي المستعمرين فاقتسموها فيما بينهم
/ صفحة 144 /غنيمة، بعضها لإنجلترا،وبعضها لفرنسا، ولإيطاليا، وبعضها لغيرهم، إلا أمة واحدة هي الحبشة، فقد احترمت هذه الدول كلها استقلالها، ولم تمسها باحتلال ولا استعمار، وما كان ذلك إلا لأنها أمةمسيحية، ولما أراد موسوليني أن يحتلها، قامت في وجهه الدول كلها، وقررت عصبة الأمم قرار العقوبات المشهور ضد إيطاليا، ثم لما هزمت إيطاليا حُرِّرت الحبشة، وطرد منهاالفاتحون، وأعيد إمبراطورها المخلوع الذي ظل ضيفاً مكرما على إحدى الدول المسيحية الكبرى طول محنته.
وهذه مصر قد بلغت من الرقى والحضارة مبلغاً عظيماً، جعلها فيمصاف كثير من الدول الأوربية، والإنجليز مع هذا رابضون في بلادها لا يريدون لها براحا، ولهم في تبرير ذلك والتعلل له أباطيل تدرجت مع السبعين عاما التي قضوها، كان أولهاما زعموه من أن الغرض من بقائهم هو حماية العرش، وآخرها ما يزعمونه الآن من مركز مصر كقاعدة (استراتيجية) هامة عليها مدار التوازن العالمي، ولا سيما في الشرق الأوسط، ومنعجب أنهم يقولون ذلك في منظماتهم الدولية التي أنشأوها لغرض الاستعمار ولكن باسم الحرية والدفاع عن حقوق الضعفاء، فيجدون من يصدقهم فيه، ويؤازرهم عليه.
ولو وازنابين موقف الأوربيين من مصر، وموقفهم من بلاد البلقان، وكلها كانت تابعة للدولة العلية، لكفانا في هذه الموازنة أن بلاد البلقان كلها قد نالت استقلالها حتى الصرب والجبلالأسود؛ على حين ظلت مصر تعاني من مرارة النضال مع بريطانيا وغير بريطانيا ما تعاني إلى اليوم.
أليس ذلك من آثار الروح الصليبية؟
ثم ها هي ذي مراكش الجريحةالمضطهدة، يتركها المنادون بالحريات، المتشدقون بحقوق الإنسان، ضحية لفرنسا تنكل بها، وتشرد أبناءها، وتسجن أبطالها، وتطوق قصر سلطانها بخيلها ورجلها، وتنتزع خاتمهلتمهر به ما تشاء / صفحة 145 /من مراسيم الجور والظلم، وقوانين الاستعمار وإذلال الأحرار، فهل كان مجلس الأمن يسكت ليلة واحدة لو فعل ذلك بولاية كولاية(لكسمبورج) مثلا؟
والأمر الآخر أمر اليهود، فقد لفظتهم أوربا، وحاربهم هتلر في ألمانيا وغيرها من البلاد التي خضعت له حرباً لا هوادة فيها، وكان المسيحيون يبكونعليهم أو يتباكون، ولا يحركون في أمرهم ساكنا، ولا يجدون أمة مسيحية تتقلبهم، ولا منطقة مناطق الدول المسيحية تتفتح لهم، فظلوا مشردين، حتى سنحت الفرصة للأوربيينوالأمريكيين فرمَوا بهم بلاد فلسطين، قلب الوطن الإسلامي، رجاء أن يستريحوا من شرهم، ويتعبوا المسلمين بهم، وكم كانت الحيلة متقنة موزعة الجوانب على المشتركين فيها،حيث أعلنت انجلترا أنها ستجلو عن فلسطين في يوم معين، فأداعت عصابات الصهيونية أنها ستعلن في هذا اليوم نفسه إنشاء دولة إسرائيل، فلما جاء اليوم الموعود إذا أمريكاصاحبة الدعوة إلى حريات الشعوب تعترف بإسرائيل بعد دقيقة واحدة من إعلانها، فيالها من مهزلة تاريخية مُثلت على ملأ من أهل الدنيا وهم يشهدون!!
* * *
على المسلمين أنيواجهوا هذا الحقيقة شجعاناً غير محاولين منها فراراً: إنها الحروب الصليبية ما في ذلك شك، وإذا كان أهل أوربا وأمريكا يعلنون الحرية الدينية في كل مجتمع وعهد، فإنهميقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وآية ذلك أن الإسلام لا يجد مُتَنَفَّساً في أي مكان من الأرض، فأهله معذَّبون مضيَّعون وبلادهم مُثقلة بالاستعمار أو متخبطة فيأحابيله التي نصبت هلا من بعيد، ولو خُلِّيَ الإسلام وشأنه، ولم تحل فتنُ السياسة والاستعمار من دونه، لدخل الناس فيه أفواجا، ولنسخ بإذن الله كل ما سواه.
فإذا أدركالمسلمون هذه الحقيقة وواجهوها صرحاء، فأولى لهم أن يدفعوا الحرب عن الدين، بالتمسك بالدين، وإلا كانوا عوناً على أنفسهم، وجنداً لأعدائهم من حيث لا يشعرون.