المجتمع القرآنى
المجتمع الصغير
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرةوكيل كلية الحقوقبجامعة القاهرة 1- قررنا فى مقالين سابقين أن الاسلام جاء لانشاء مدينة فاضلة، تقيم الفضيلة بين آحادها، و ترتبط مع غيرها بقانون الاخلاق، فالفضائل فى الاسلام ليسلها موطن، و لا يحدها اقليم، و لا يحاجز دونها حصون.
و ان الدولة الفاضلة يجب أن يكون بناؤها فاضلا فى كل أجزائه و عناصره، فان الكل يتكون من الجزء، و لا يمكن أن يكونالكل فاضلا الا اذا كانت أجزاؤه و عناصره فاضلة.
و لذلك اتجه الاسلام الى اصلاح المجتمع الصغير، ليبنى منه المجتمع الكبير، و المجتمع الكبير انما يقوى بقوة الاتصالبين عناصره كالصرح المشيد المرتفع الى عنان السماء لايمكن أن يرتفع و يشمخ الا اذا كان الرباط الذى يربط بين أجزائه وثيقاً محكماً، و الدعائم التى يقوم عليها قويةالاركان، وثيقة البنيان، و ذلك كله لا يكون الا اذا تكونت المجتمعات الصغيرة التى تدخل فى بناء المجتمع الكبير على أسس فاضلة.
/ صفحه 130/2- و ان الاسلام قد عنىبالمجتمعات الصغيرة أبلغ عناية، فعنى بالاسرة كما نوهنا من قبل، و قد بين ذلك القرآن ببيان تفصيلى كما أشرنا.
ثم انتقلت عناية الاسلام من الاسرة الى القبيلة، و هى فىحقيقتها و معناها أوسع مدلولات الاسرة شمولا، فجعلها مترابطة الاجزاء أمر لابد منه فى الاسلام، و ذلك بأن يحمى قويها ضعيفها فى غير عصبية جاهلية، و لا تعاون على الاثم والعدوان.
و لقد انتقلت عناية الاسلام من القبيلة الى القرية، و ان شئت فقل ان القرية مجتمع صغير فى السواد يقابل القبيلة فى البادية بيد أن القرية يقوم الاتصال فيهاعلى الجوار و البيئة الواحدة، و القبيلة يقوم الاتصال فيها على النسب و اتحاد الارومة، و قد يتلاقيان، فتكون القرية من القبيلة، أو تحتاز القبيلة مكاناً خصيباً تبنى فيهو تحل فتكون القبيلة هى القرية.
و نظام القرية على العموم يكون فى البلاد الزراعية كريف مصر، فان الاهلين المنبثين فى ذلك الجناب الخصيب فى القرى لايجمع بينهم نسبجامع فى كثير من الاحوال، انما تجمعهم القرية و مصالحها المشتركة، و جوارهم الطاهر العف النزيه، و انه اذا صلحت القرية صلح الاقليم.
3- و ان كل اصلاح اجتماعى فىالاسلام أساسه الاخوة و التعاون على الخير و الفضيلة، و قد دعا القرآن الكريم الى التعاون، فقال سبحانه:((و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الاثم و العداون))فالتعاون و الاخاء هما الاساس لكل اصلاح اجتماعى فى المجتمع الصغير، و قد ذكرنا فى صدر بحثنا فى مقال سابق أن التعاون و الاخاء هو العلاقة الرابطة بين آحاد كل مجتمع، والا كان التدابر و التنابذ و وراء ذلك الفساد، و لا يمكن مع الاخاء و التعاون فساد قط.
4- و لقد ضرب لنا محمد صلى الله على و آله و سلم مثلا فى اصلاح المجتمع الصغيربالتعاون و الاخاء، فقد جاء الى يثرب و كانت مدينة متنابذة متنازعة، مع أنها فى مجموعها لا تزيد فى سكانها عن قرية كبيرة من قرى مصر، كانت ثلاث طوائف: الاوس، و الخزرج، واليهود، كان الاوس فى نزاع مع الخزرج، و كان كلاهما فى نفرة مع اليهود الذين يحاورونهم، و جاء رسول الله الى هذا المجتمع المتنافر بعنصر رابع، و هو المهاجرون الذينهاجروا معه.
فكان لابد من عمل لهذا المجتمع الصغير الذى سيكون نواة لحضارة فاضلة تعلن أهل الارض أن فى الامكان أن توجد مدينة فاضلة تحكم بالفضيلة، و تحارب بالفضيلة، وتعاهد بالفضيلة، و تمكث فى الارض تحكم بأمر الله و نهيه، و أن ابن الارض لايعجز عن أن ينفذ أحكام السماء جملة، و تفصيلا ان كان معه ارادة تقية فاضلة، و أن الدولة الفاضلةليست حلماً من الاحلام، ولكنها حقيقة من الحقائق يستطيعها ابن آدم اذا أرادها، و اعتزم مخلصاً أن يوجدها.
ابتدأ محمد فى اصلاح هذا المجتمع الصغير بالاخاء و التعاون،فآخى بين كل واحد من الاوس، و كل واحد من الخزرج، و آخى بين المهاجرين، و كانوا من بطون مختلفة،و آخى بين المهاجرين و الاوس و الخزرج، و هم الذين أطلق القرآن عليهم اسمالانصار فى مقابل كلمة المهاجرين، و بذلك ترابطت الجماعة كلها بمواثيق الاخاء و التعاون، و كان الاخ بحكم هذه العلاقة التى ربطها محمد صلى الله عليه و آله و سلم يحل له فىمال أخيه ما يستحله الاخ من النسب، و بمقتضى هذا الاخاء و الادماج زال ما كان بين الاوس و الخزرج من نفرة، و زال ما بين القرشيين من تفاخر بالانساب، و اعتزاز بما كان عليهآلاباء.
و كان ذلك التآخى قوياً بحكم الاسلام حتى انه كان يجرى بسببه التوارث بين المتآخيين، فتألفت به القلوب، و اجتمعت على الحق نفوس كانت متنافرة بالباطل و فىالباطل، و كان هذا أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل يثرب التى صارت من بعد: المدينة الفاضلة، و لقد قال سبحانه و تعالى فى هده النعمة التى أنعم بها عليهم: ((و اذكروا نعمةالله عليكم اذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)).
/ صفحه 132/5- و ان هذا العمل النبوى يشير الىأن أول ما ينبغى عمله فى اصلاح المجتمع الصغير هو بث روح التعاون و الاخاء، و اذا كان الذى أوجده النبى صلى الله عليه و سلم بوضعه الاسلامى الاول لايمكن تحققه على الوجهالذى صبغه النبى صلى الله عليه و سلم، لانه عمل نبى و أنى لاحد من البشر أن يعمل ما يعمل الانبياء، الا بقبسة من نورهم، و لان التوارث بالاخاء قد نسخ و بذلك فقد الاخاءالمحمدى عنصراً من عناصر قوته، ولكن ان تعذر اخاء على النحو المحمدى فاخاء على نحو انسانى يليق بمجتمعنا، فيكون اخاء على نحو منه، و ان لم يكن مثله و ذلك بايجاد اخاءاقتصادى و اجتماعى، و يكون بجماعات تعاونية تنظم الموارد، و تنظم المصادر، و تمد المحتاج و تعين على نوائب الدهر و تخفف ويلات المكلومين، و تنظم العلاقات المادية والادبية تنظيماً يجعل الضعيف قوياً بجماعته التعاونية، و الفقير غنياً بأسرته الاقتصادية، و غير ذلك مما ينشئه التعاون الفاضل.
و ان ذلك التعاون الاقتصادى كان بعضما تضمنه الاخاء المحمدى، فان الانصار الذين آخوا المهاجرين آووهم الى منازلهم و أعانوهم حتى وجدوا لانفسهم مرتزقاً، بل عاونوهم فى ايجاد هذا المرتزق، و يرى فى ذلك أنعبدالرحمن بن عوف عندما نزل على أخيه الانصارى بمقتضى ذلك الاخاء الموثق المقدس أراد أن يشاطره الانصارى ما له، فأبى ابن عوف، و أخذ قدراً من المال على أنه دين، و كانتاجراً ماهراً يعرف كيف يكون الصفق فى الاسواق، و قد اتجر فيما أخذ من مال و اكتسب منه كسباً و فيراً ثم رد لاخيه الانصارى ما اقترضه من فضل الكسب الذى كسبه، و الخير الذىأدره الله عليه فى تجارته.
6- هذا عمل النبى صلى الله عليه و سلم فى الاخاء و ما يصح أن يقبس منه، و ليس الاخاء المحمدى الا عقد تعاون روحى يصح أن يبنى عليه عقد التعاونالمادى و الروحى الذى يجب أن يسود القرى، و سائر المجتمعات الصغيرة.
و ان القرآن الكريم لم يدع أمر اصلاح المجتمعات الصغيرة الى عقود التعاون و الاخاء فقط، بل أوصىبوصايا و قرر أحكاماً فيها ما يدل على عناية
/ صفحه 133/الاسلام بالمجتمعات الصغيرة و تقوية الروابط بين آحادها، ثم تقوية الروابط بينها و بين المجتمع الاسلامىالاكبر، و ذلك لكيلا تكون المجتمعات الصغيرة طوائف يضرب بعضها بعضا، و يكون التنافر بين الطوائف بدل آن يكون بين الاحاد و هو أشد فتكا و أذى.
و من هذه الوصايا التى منشأنها تقوية الروابط بالمجتمع الصغير، الوصية بالجار، فان الاسلام جعل من تلك العلاقة المادية ما هو طريق لعلاقة روحية بين المتجاورين، لا فرق بين جار مسلم، و جار غيرمسلم، بل لا فرق بين جار موحد، و جار مشرك، و ذلك لقوله تعالى: ((و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً، و بالوالدين احساناً، و بذى القربى و اليتامى و المساكنى، و الجار ذىالقربى و الجار الجنب و الصاحب بالجنب و ابن السبيل و ما ملكت أيمانكم، ان الله لا يحب من كان مختالا فخوراً)).
و ان الجار ليس هو القريب الملاصق فقط، ولكنه يشمل الحىكله، و لقد روى أن عائشة رضى الله عنها سألت النبى صلى الله عليه و سلم، فقالت: ((ان لى جارين فالى أيهما أهدى؟ قال: الى أقربهما باباً)).
و ان الاحسان الى الجار بالمودة والتعاون لايفرق بين جار مسلم و جار غير مسلم كما ذكرنا، و لذا قال النبى صلى الله عليه و سلم: ((الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، و هو أدنى الجيران حقاً، و جار له حقان، و جارله ثلاثة حقوق، و هو أفضل الجيران حقاً، فأما الجار الذى له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، و أما الجار الذى له حقان فجار مسلم له حق الاسلام و حق الجوار، و أماالذى له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار و حق الاسلام و حق الرحم)).
و ان حرص الاسلام على ملاحظة حقوق الجوار، و اتساع معنى الجوار حتى يشمل الحى كله - فيهدلالة على أن أهل كل حى يجب أن يكونوا متعاونين بحكم الجوار الذى كان من الدين وجوب رعايته، فيكون الارتباط بالخير بين الجيران، و من مجموع الجيران يتكون مجتمع صغيريربطه التعاون و المودة.
/ صفحه 134/7- و من النماذج الرائعة فى تكافل المجتمع الصغير و النهوض به: ما قرره الفقهاء بالاجماع من أن الزكوات و الصدقات كلها لاتنتقل من بلد الى بلد ما دام فى البلد الذى و جبت فيه الزكاة فقير، و ذلك عملا بقوله صلى الله عليه و سلم: ((خذها من أغنيائهم و ردها على فقرائهم)) و لقد قال فى ذلك الامام أبويوسف: و يقسم سهم الفقراء و المساكين من صدقة ما حول كل مدينة فى أهلها، و لا يخرج منها فلا يتصدق بها على أهل مدينة أخرى)).
و ان هذه صورة حية قائمة لعمل الشارع الاسلامىعلى النهوض بالمجتمعات الصغيرة من ناحية التكافل الاجتماعى، و معالجة الفقر و تخفيف و يلاته، و ان الفقر هو الداء الاول الذى تتربى فيه كل الادواء، و لا يمكن أن يتحقق رقىلمجتمع صغير أو كبير الا اذا عولجت مشكلة الفقر، و لا يمكن النهوض الثقافى أو الصحى أو الاجتماعى من غير معالجة مشكلة الفقر.
فاذا كان الاسلام قد أوجب صرف زكاة البلدفيه، فقد وضع الاساس للنهوض بالمجتمع الصغير.
8- و ان فقهاء المسلمين يتجهون الى وجوب التعاون بين أهل القرية أو المدينة الواحدة، حتى انه يجب عليهم اذا كانت أموالالزكاة لا تكفى لسد حاجة الفقراء أن يعملوا على سد الحاجة، و يجبرهم ولى الامر على ذلك ان لم يقوموا به. و لقد جاء فى المحلى لابن حزم: ((ان الله فرض الله على الاغنياء من أهلكل بلد أن يقوموا بفقرائهم، و يجبرهم السلطان على ذلك ان لم تقم الزكوات، و لا الفىء، و لا سائر أموال بيت مال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذى لابد منه ومن اللباس فى الشتاء و الصيف بمثل ذلك، و بمسكن يكنهم من المطر و الشمس و عيون المارة)).
و ان هذا النص الذى يتفق مع منطق الفقه الاسلامى كله قاطع فى مقدار عناية الاسلامبالنهوض بالمجتمع الصغير.
9- و ان المسلمين عند الفتح الاسلامى، وضعوا نظام الخراج على أساس
/ صفحه 135/سليم بين أهل القرية بعضها مع بعض، و بين القرى فىعلاقاتها بعضها ببعض فى مجموعها، و قد ذكر لنا ابن عبدالحكم فى تاريخه صورة للقرية المصرية بمقتضى النظام الذى وضعه عمرو بن العاص، فقال:
((يجتمع عرفاء كل قرية، ورؤساء أهلها فيتناظرون فى العمارة و الخراب، ثم يجتمعون هم و رؤساء القرى، فيضعون الخراج على احتمال القرية وسعة المزارع ثم ترجع كل قرية بقسمها، و ما فيها من الارضالعامرة فيبذرون فيها، و يخرجون من الارض فدادين لكنائسهم و حماماتهم من جملة الارض، ثم يخرج منها عدد للضيافة للمسلمين، و نزول السلطان، فاذا فرغوا نظروا الى ما فى كلقرية من الصناع و الاجراء، فقسموا عليهم بقدر احتمالهم... ثم ينظرون فيما بقى فيقسمونه بينهم على عدد الارض، ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع على حسب طاقتهم، فان عجز أحدأو شكا ضعفه عن زرع أرضه، و زعوا ما عجز عنه، و ان كان منهم من يريد الزيادة أعطى ما عجز عنه أهل الضعف، فان تشاحوا قسم ذلك على عدتهم))(1).
10- هذا مجتمع القرية كما وضعهعمرو بن العاص على النظام الاسلامى، و نرى فيه التعاون الصادق و العمل على انتاج أكبر قدر ممكن، و التوزيع بالعدل و على قدر العمل، و يبدو من ذلك التوزيع ما يأتى:
(الف)أن القرية كلها تتعاون فى القيام على شئون معابدها، فيخصص قدر من الاطيان لخدمة المعابد، و القيام بشعائرها، و هذا القدر يؤخذ من أرض القرية كلها، لا من حصة بعضها.
(ب)أن القرية كلها تتعاون أيضاً فى الضيافة و نزول المسلمين و ذوى الامر و ذلك بتخصيص جزء من الفدادين لذلك.
(ح) أنهم يقسمون الارض على العاملين كل على قدر احتماله و عمله،على أن يكون فيها ما خصص للمعابد و الضيافة، ولكن لا يقسم ما تنتجه الارض كله، انما يقسم الصافى بعد الضيافة و نفقات المعابد و الخراج.
/ صفحه 136/(د) أنهم يقسمونبعد الخراج و الكنائس صافى الثمرات بين العاملين، كل بقدر عمله و بنسبة ما عمل و أنتج، و الضعيف تؤخذ منه الارض و تعطى القوى القادر، و على الجماعة أن تسد حاجة الضعيف وتغنيه عن السؤال.
11- و ان هذا نوع من التعاون لا نظير له، فهو ارتباط معنوى و مادى و هو نظام اشتراكى عال، لا يحرم العامل من ثمرات عمله، و ما يصل اليه الجميع يشتركونفيه بمقدار جهد كل واحد و ما أنتج.
و انهم بذلك يتعاونون على العمل، و على تخير خير الاعمال انتاجاً، و أقواها اثماراً، ألم تر أهل كل قرية يجتمعون و يتناظرون فىالعمارة و الخراب، فيحاولون اصلاح الخراب، و الانتفاع بالعامر، و فى هذه المناظرة يكون التفكير فى محاولة الانتاج و تزكية ثماره.
1- تاريخ ابنعبدالحكم ص152 و 153.