حدود العقل في ميدان التشريع:
د. عبدالرحمن الزبيدي إن العقل ليعجز عن الاستقلال بالتشريع للحياة البشرية وذلك من خلال افتقاده للشروطالضرورية له، ليكون مؤهلاً للإضطلاع وحده بتلك المهمة، والشروط هي:
1 ـ العلم بحقيقة الانسان كما هي في نفس الأمر.
2 ـ والعلم بحقيقة الخير والشر على الإجمال،والتفصيل.
3 ـ والعلم اليقيني بما ستكون عليه الحياة البشرية في مستقبلها.
وقد بينت الدراسات النقدية للعقل أنه مخفق في الوفاء بتلك الشروط جميعاً حيث:
أ ـ بقيالانسان عصياً على فهم العقل البشري له.
ب ـ وأخفقت معايير القيم الخلقية وقوانين الأنظمة عن إقامة السلوك البشري على نحو تتحقق به سعادة الانسان، وأمنه.
ج ـ ولميتجاوز ـ هذا العقل ـ حكمه على مستقبل الحياة البشرية المتفردة في أحداثها ـ خلافاً للمادة ـ الظن والتخمين، ويضاف إلى ما سبق في مجال نقد العقل في هذا المجال شرط رابعوهو: تحرر العقل من التأثر بالأشياء الخارجية، بحيث لا يكون لها تأثير على ما يقدمه من أحكام، وهذا ما يصف العلمانيون العقل الذي سيتولى تخطيط الأنظمة بنفسه به، حيث يكونفي حالة صفاء فطري خالص، وهو الصورة التي رسمها (كانت) للعقل الذي سيتسلم سلطة التشريع للأخلاق.
فهل يا ترى له وجود في عقل الانسان الذي عاش في بيئة معينة، وتعلمعلوماً متنوعة واكتسب ما شاء من ثقافات، وصار لصاحبه وضع اجتماعي، ومادي معين؟ هل باستطاعة هذا العقل أن يتجرد من الهوى، وحظ النفس، والعوامل الأخرى فيستقرئ فطرتهمباشرة.
الحقيقة التي تشهد بها الحياة البشرية: أن العادة، والوراثة، والمصالح المباشرة، والنوازع الغريزية، والشهوات، عوامل لا يستطيع العقل أن يتخلص من تأثيرها ـكلها أو بعضها.
ولقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه الحقائق مبيناً جهل الانسان بنفسه، وبمستقبل حياته، وبحقيقة الخير، والشر في الأفعال، وبتأثره بالعواطف.
فإذا ماتجاوزنا الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي في مدى أهلية العقل في هذا الميدان، وجدنا تاريخ التشريع، والنظم يشهد بصدق النتيجة التي أدت إليها المقدمات السابقة القاضيةبعدم قدرة العقل على الاستقلال مصدراً للمعرفة في هذا المجال من خلال ما طبع الأنظمة التي قدمها من إختلال وتطرف وتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، وإفراط في جانب يقابلهتفريط في الآخر، واستعباد من فئة لغيرها.
وحسبنا هنا: قول دوفرجيه، الذي يعتبر أحد العمالقة في فقه القانون الدستوري في العصر الحديث: (إن القانون الوضعي كان دائماًخادماً للسلطة الحاكمة، تستخدمه لأغراضها، مخالفة بذلك الأوضاع الطبيعية، فهي إذا أرادت أمراً، فإنها تبادر إلى إصدار قانون، تقيد به حريات الناس، وتأكل به أموالهم،وتحل به الحرام، وتحرم به الحلال).
وبعد، فلا يبقى أمامنا سوى البحث عن مصدر آخر يحقق لنا ما عجز العقل عن تحقيقه، مصدر أعلى من العقل تتوفر فيه الشروط السابقة التي لمتتوفر في العقل، وما هذا المصدر سوى الوحي، الذي أنزله الله خالق الانسان العليم بحقيقته والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فعلمه محيط بالزمان والمكان. وقد بين سبحانه إنفراد الوحي بمصدرية هذا المجال، وأن على الانسان أن يتجاوز مصادره الضعيفة ليتلقاه منه: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى).
وهذه المسألة أساسية في العقيدة الاسلامية، فلا يقوم إيمان المسلم إلا بالاعتقاد بأن المشرع وحده هو الله ـ سبحانه ـ ، وأنه لا يحق لأحد سواه أن يشرع شيئاً من عندنفسه، إلا ما أذن له فيه، ذلك أن التشريع تدبير للمشرع له، والتدبير تابع للخلق، كما قال سبحانه: (ألا له الخلق والأمر). وقد بين تعالى في آية أخرى أنه هو خالق الكون كله،وبيده مقاليده، وهو الذي وضع له ناموسه الذي يسير عليه، والانسان جزء من هذا الكون، ومقاليده بيد الله، فكيف يتأتي خروجه عنه في هذا المجال ـ التشريع ـ ؟ يقول تعالى: (ومااختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيءوهو السميع البصير . له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء إنه بكل شيء عليم).
وفي الآية حيثية أخرى تتمثل في أنه سبحانه كما خلقهم، فهو الذي رزقهم من خلال ماخلقه لهم وسخره في هذا الكون، فهو أولى من يكون له حق تدبيرهم، وإرشادهم نحو منهج السير في هذا الكون.
وقد أنزل سبحانه تشريعه على نبيه في الكتاب الكريم، والسنةالمطهرة، لكل نظم الحياة، ومناهج السلوك و (جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى، فلا عمل يفرض، ولا حركة، ولا سكون يدعىإلا والشريعة حاكمة عليه إفراداً وتركيباً).
الحق: أن مجال العقل هنا أوسع مدى منه في الميدان السابق إذ يتجاوز نطاق التلقي والتفهم إلى الإجتهاد في إيجاد أحكاملقضايا مستجدة وفق ضوابط معينة والكلام على عمل العقل هنا يأتي في نقطتين:
الأولى:
المعرفة الفطرية بالحسن والقبح: وقد أثيرت هذه المسألة قديماً، واختلف فيهاالباحثون على ثلاثة أقوال: 1 ـ فالأشاعرة: لا يرون لأفعال الانسان صفة حقيقية، تكون باعتبارها تلك الأفعال حسنة أو قبيحة، فلا حكم للعقل في قبح شيء أو حسنه، بل ما أمربه الشرع، أو لم ينه عنه فهو حسن ـ عرفنا ذلك بعد مجيء الشرع ـ ، وما نهى عنه فهو قبيح، ولو انعكس أمر الشارع لانعكس الأمر فيصير ما كان حسناً قبيحاً وبالعكس.
2 ـ أماالمعتزلة: فإنهم يرون أن الحسن والقبح ذاتيان في الأفعال، وأن هاتين الصفتين توجبان الحكم من الله ولو لم ينزل التشريع.
لكن هذا التحسين والتقبيح إنما يكون لجملالأفعال لا تفاصيلها، لأن هذا مما لا يستطيعه العقل، ومن ثم فالوحي وحده هو مصدر التحسين والتقبيح في التفاصيل.
3 ـ القول الثالث: وهو قول سلف الأمة كما يقول ابنتيمية، والماتريدية والصوفية.
ويتفق هذا الرأي مع قول المعتزلة بأن الأفعال في نفسها حسنة أو قبيحة، وأن العقل يدرك هذا الحسن والقبح في بعضها دون الآخر.
لكنهميفارقونهم في عدم قيام الحكم بناء على تحسين العقل وتقبيحه، حيث يرون أنه لا يترتب على تحسين العقل وتقبيحه ثواب ولا عقاب، إلا بالأمر والنهي الصادرين عن الشرع، وقبل ذلكلا يكون القبح موجباً ـ مع قبح الفعل في نفسه وإدراك العقل له ـ فالزنا والفواحش قبيحة في ذاتها، ويدرك العقل السليم ذلك، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع.
وهذا هو ـوالله أعلم ـ الصواب الذي تؤيده النصوص الشرعية التي تنفي التكليف قبل مجيء الرسل كقوله سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
ويجدر بالذكر هنا: أن القائلينبالتحسين والتقبيح لم يقصدوا أن العقل بذاته هو الذي يخلقها مستقلاً عن أي× سلطة أخرى ـ كما يقول أتباع الدين الوضعي: (العقل يمنح نفسه قانونه).
وإنما مرادهم أن اللهسبحانه طبع في العقل معرفة الحسن والقبح بشكل فطري.
المصدر: مصادر المعرفة