د. طه عبد الرحمن
شمولية نسبة الأخلاق لأصول الفقه:
لقد ظهر أن كل حكم شرعي مقترن اقتراناً بأصل أخلاقي، إما قاعدة أو شرطاً أو قيمة؛ فإذاكان الأمر كذلك، اتضح أن بيان طبيعة الحكم الشرعي توجب علينا أن نعتبر هذا الاقتران الأخلاقي، فضلاً عما يقضي به هذا الحكم من تكليف مقيد أو غير مقيد. وعلى هذا، يصح أننقول بأن للحكم الشرعي وجهين اثنين: أولهما فقهي والآخر أخلاقي.
أما الوجه الفقهي في الحكم الشرعي، فتنحصر أوصافه في ثلاثة أساسية، هي:
أ_ أن الوجه الفقهي مُلزمإلزاماً مراقَباً مراقبة مادية عن طريق الجزاء الذي يتولى الوازع الشرعي إيقاعه.
ب_ أن الوجه الفقهي يضبط من سلوك الفرد ظاهر الأعمال التي تعود بالنفع أو بالضرر عليهأو على غيره.
ج_ أن الوجه الفقهي يتوسل بالتعليل السببي في تقرير أحكامه وتنسيق بعضها مع بعض.
وأما الوجه الأخلاقي في الحكم الشرعي، فتنحصر أوصافه في ثلاثةأساسية، هي:
أ_ أن الوجه الأخلاقي مُلزِم إلزاماً مراقباً مراقبة معنوية عن طريق الوازع النفسي الذي ينبعث من ذات الإنسان.
ب_ أن الوجه الأخلاقي يضبط من سلوك الفردباطن الأعمال التي تعود بالصلاح أو الفساد عليه أو على غيره.
ج_ أن الوجه الأخلاقي يتوسل بالتعليل الغائي في بيان أحكامه وترتيب بعضها على بعض.
هكذا، يتضح أنالصورة الفقهية تنبني أساساً على محددات خارجية، وهي الإلزام المادي وظاهر الأعمال والتعليل بالأسباب، بينما الصورة الأخلاقية تنبني أصلاً على محددات داخلية، وهيالإلزام المعنوي وباطن الأعمال والتعليل بالغايات؛ فيكون كل حكم شرعي جامعاً بين وجهين، كل وجه منهما يتفرع عنه ما يقابله في الوجه الآخر، فالإلزام المادي في الأوليقابله الإلزام المعنوي في الثاني؛ وظاهر الأعمال يقابله باطنها؛ والتعليل بالأسباب يقابله التعليل بالغايات؛ أو قل بإيجاز، إن للحكم الشرعي بنيتين متشاكلتين:إحداهما، فقهية، والثانية أخلاقية.
فلننظر الآن كيف حال المكونات المقصدية الثلاثة: المقصود والقصد والمقصد، من هذه العلاقة بين الوجه الفقهي والوجه الأخلاقي فيالحكم الشرعي.
فمن جانب المقصود، يكون الحكم الشرعي موصوفاً بالتوجه المعنوي والانبناء على الفطرة مع الوقوف على صور الأعمال ورسوم الطاعات.
ومن جانب القصد،يكون الحكم الشرعي موصوفاً بالتوجه التجردي والانبناء على الإرادة مع بقاء الحكم بظاهر العمل.
ومن جانب المقصد، يكون الحكم الشرعي موصوفاً بالتوجه المصلحيوالانبناء على الحكمة مع تقديم طلب الأسباب الخفية للأحكام على طلب الأسباب الظاهرة لها.
ومعنى هذا، أن العلاقة بين الوجهين في الحكم الشرعي تختلف باختلاف جهاتهالمقصدية؛ فإن كانت الجهة هي المقصود، فإن الموافقة الفقهية قد تترجح على الملابسة الأخلاقية؛ وإن كانت القصد، فإنهما تتساويان، وإن كانت المقصد، فإن الملابسةالأخلاقية تترجح على الموافقة الفقهية؛ فأقدر الجهات المقصدية على إظهار وجهها الأخلاقي هي، إذن، المقصد، يليه القصد، فالمقصود. ولا صلاح إلا لمن تدرج في مراتبالمقاصد، حتى بلغ ذروتها؛ وكل ما صلح من أفعاله في مرتبة منها، كان أصلح في المرتبة التي دونها؛ وكل ما كان منها جالباً للملابسة الأخلاقية، فما يعلوه مرتبة كان أجلبلهذه الملابسة؛ وعليه، فإن الصورة الفقهية للحكم الشرعي تتقاسم الأدوار مع صورته الأخلاقية، وتدخل في الرجحان والتساوي معها بحسب هذه الأدوار، فيكون كل حكم شرعي جامعاًبين وجهين، كل منهما يقوم مقام المكمّل للآخر؛ أو قل بإيجاز، إن للحكم الشرعي وظيفتين متكاملتين: فقهية وأخلاقية.
المصدر : تجديد المنهج فيتقويم التراث