من بحوث معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة
المسلمون
في أوربا الجنوبية الشرقية
للأستاذ حارثشاكر - يوغوسلافيا المسلمون في بلاد أوروبا الجنوبية الشرقية ينتمون إلى أصل سلافي أو تركي أو ألباني، و يكونون جماعات مستقرة في أوطانهم استقرار غير من المواطنينفيها و لقد اشتهر عند بعض المؤلفين من غير المسلمين أن شعوب أوروبا الجنوبية الشرقية لم يعرفوا الإسلام إلا عن طريق الأتراك، و لم يهتدوا إليه إلا بعد أن استولىالعثمانيون على أوطانهم ، فأكرهوا بعض جماعات منهم على اعتناقه بأن خيروهم بينه و بين السيف، فدخل فيه من دخل رهبا لا رغبا. و هذا الادعاء المنافي للواقع تجاهل منشؤهالحقد على الإسلام، و مرماه اعتبار المسلمين عنصرا لا ثقة فيه فيجب إجلاؤه أو استئصاله إذا لم يرض بالرجوع إلى دين أجداده.
و الحقيقة الثابتة بأدلة تاريخية هي أنالإسلام بدأ ينتشر في هذا الأقطار قبل أن تطأها أقدام الجيش التركي بمدة طويلة، بل و قبل أن تمت عملية تنصير بعض القبائل السلافية في البلقان كانت هناك (واحات إسلامية)نشأت بجهود أفراد من السياح و التجار المسلمين، أو من الوعاظ و الزهاد المنتمين إلى مختلف الطرق الصوفية قاموا بالدعوة إلى دين الله و تحبيبه إلى قلوب الناس بالحكمة والقول اللين، كما أن بعض الفضل في هذا السبيل يرجع إلى القبائل الآسيوية التي كانت تزحف نحو الغرب بعد احتكاكها بالعالم الإسلامي بحكم الجوار أو عن طريق الغزو و تأثرهابالدعوة الإسلامية و أفكار و تقاليد الأمم الإسلامية، و لقد كان لدراسة الوثائق المتعلقة ببدء انتشار الإسلام في أوروبا الجنوبية الشرقية نتائج ساعدت على تكوين صورةعامة لماضي الإسلام
في تلك الأقطار، إلا أن الوثائق من عهد السلاطين السلجوقيين لا تزال بعضها مطمورة تنتظر من يعكف عليها و يستفرغالجهد في فحصها و نشرها ليلقي الضوء على ما غمض من تاريخ هذا الجزء من حوض الدانوب.
و بما أن معظم المسلمين في البلقان من أصل سلافي (في يوغوسلافيا و بلغاريا) فإنه يجدربنا قبل تناول مسألة انتشار الإسلام بين السلافيين الجنوبيين بشيء من التفصيل أن نشير إلى بدء اتصالات العرب بالشعوب السلافية عموما، و إلى تطور علاقاتهم بالسلافيينالجنوبيين خصوصا.
لقد كان العرب على علم بالشعوب السلافية، و كانوا يسمونهم باسم (الصقالبة) و هو اسم معرب استعاروه من البيزنطيين، و كان يشمل عندهم كثيرا من الشعوبغير السلافية، و إذا صرفنا النظر عما نسب إلى النبى من أنه قال: (ولد ياغث يأجوج و مأجوج و الترك و الصقالبة و لا خير فيهم) لضعفه أو وضعه،فإن أقدم مصدر عربي معروف و رد فيه هذا الاسم هو شعر الأخطل الشاعر العربي الهجاء (المتوفي سنة 95 هـ - 713 م) و أما السلافيون الجنوبيون فأول من ذكرهم من المؤلفين المعروفينهو أحمد بن فضلان في تقريره المفصل عن رحلته إلى أمير البلغار على نهر فولغا بأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 921 م ، و قد ورد نص ذلك التقرير في كتاب (معجم البلدان)لياقوت الحموي (توفى سنة 1229 م).
و بما أن هذا التقرير يشتمل على أخبار مهمة عن الروس و غيرهم من السلافيين، فقد نشر المتشرق الروسي (فران) نصه مرفقا بنصوص ما كتبه سائرالمؤلفين العرب عن قدماء الروس، مع ترجمة كل ذلك إلى اللغة الألمانية (بتروغراد 1823) و الأخبار عن السلافيين الجنوبيين نجدها أيضا في تقرير إبراهيم بن يعقوب، و هو يهودي مناسبانيا، أوفده الخليفة الأندلسي حكم الثاني (961/973) إلى مقر القيصر الألماني أوتون الأول الكبير (936/973) في مرسبورغ بمقاطعة ساس في ربيع سنة 973 (أو سنة 965 كما يقول بعضهم) و منهنالك قام ابن يعقوب برحلة إلى تشيك و بولندا و روسيا و هنغاريا و كرواتيا و إيطاليا، و قد أورد
البكرى العالم الأندلسي هذا التقريرفي قاموسه الجغرافي الكبير، (معجم ما استعجم) و قام المستشرق الروسي (روزن) متعارنا مع المؤرخ( كونيك) بترجمة و نشر ذلك التقرير و غيره من التقارير الواردة في كتاب: (معجم مااستعجم) و المتعلقة بالسلافيين (بتروغراد 1878) و قد كان الرحالة العربي الطرطوشي من أسبانيا معاصرا لابن يعقوب اليهودي، و رسولا للخليفة المذكور - و ربما كان مكلفا بمشاركةابن يعقوب في مهمته، و معظم ما اشتمل عليه تقريره الذي نجده في كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني خاص ببلاد أوروبا الغربية، و نشر المستشرق الألماني جورج يعقوب ترجمة كل منتقرير ابن يعقوب و الطرطوشي مع تعليقاته في كتاب (أخبار عربية يرويها المندوبون إلى قصور الأمراء الألمان في القرنين التاسع و العاشر، برلين و لا يبسيغ 1927)(Aragische Berichte vonGesand ten an germanische Fuerstenhoefe aus dem 9. Und 10. Jahrhundert, Beylin u. Leipzig, 1927)
و إن أول مؤلف عربي ذكر الصرب و الكروات باسميهما كقبيلتين من القبائل السلافية، هو: المسعودي من علماءالجغرافيا (توفى سنة 346هـ - 956 م) في كتابه: (مروج الذهب) ولكن السلافيين الجنوبيين عنده كانوا يسكنون وراء جبال الكربات، تجاورهم في الشرق دولة (الدير) التي عاصمتها كييف، وفي الغرب دولة (الفراغ) التي عاصمتها براغ، و هذا الكتاب للمسعودي مطبوع في أوروبا و مترجم إلى اللغة الفرنسية، والأخبار عن السلافييين توجد أيضا في كتاب المقدسي: (أحسنالتقاسيم في معرفة الأقاليم) كما نجد في تقارير أحمد بن عمر بن روستا التي نشرها هوولسون معلومات عن البلغار و الهنغاريين و السلافيين، و قد عني بعض المستشرقين بجمع وتنسيق ما ورد في الكتب العربية عن السلافيين، مثل المستشرق الروسي مكوشوا الذي نشر باللغة الروسية (روايات الأجانب عن خصائص السلافيين).
و من الجغرافيين العرب الذينقاموا بالرحلة إلى إقليم يوغوسلافيا الحالية الشريف الإدريسي الصقلي الذي ألف كتابه المسمى: (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) (حوالي سنة 548 هـ - 1153 م) و ذكر فيه مدن ساحلالبحر الادرياتيكي:
باكار، سني، زادار، بيوغراد، نبن، شبنيك، تروغير، سبليت، ستون ، كوتور، دوبروفنيك، (راغوزا) التي يقول عنهاإنها أقصى مدينة في كراوتيا التي يسميها جورو آسيا.
و المتتبع للأخبار عن اتصالات العرب بالسلافيين الجنوبيين يجد أن أولى تلك الاتصالات وقعت بواسطة بيزنطة في القرنالسابع الميلادي على الحدود العربية البيزنطية، فقد كان من سياسة بيزنطة في القرن السابع و الثامن أن نقلت خلقا كثيرا من السلافيين من البلقان إلى آسيا الصغرى، و تذكركتب التاريخ أن 5000 من جنود بيزنطة السلافيين في عهد الملك قسطنطين الثاني (641/668) فروا و انضموا إلى الجيش العربي تحت قيادة القائد عبدالرحمن بن خالد بن وليد (المتوفى سنة 46هـ - 666 م) مسموما، و استوطنوا في الشام سنة 45 هـ / 655 م، و ربما اشترك بعضهم مع العرب في حصار القسطنطينية سنة 49، 50 هـ ، و يذكر المؤرخ البيزنطي تبوفان أن الملك بوستنيانالثاني ألف في سنة 692 م من السلافيين في آسيا الصغرى جيشا قوامه 300 ألف جندي، فقاده إلى الحرب ضد العرب، و قد تنبه قائد الجيش العربي الذي لم يكن راغبا في الحرب في ذلك الوقتإلى أن معظم الجنود البيزنطيين هم السلاقيون، فاستعان على يوستنيان بالحيلة، فحمل 20 ألفا من الجنود السلاقيين على الانضام إليه بأن دفع الرشوة لقائدهم (نبول) و بذلكانتصر العرب على يوستنيان، ثم غزوا بيزنطة معتمدين على هؤلاء السلافيين العارفين بجغرفاية المناطق البيزنطية، و لقد كان لهؤلاء الجنود دور هام في الحياة السياسيةللدولة الإسلامية، فقد كانوا يتدخلون في المنازعات حول الخلافة، و انتقم يوستنيان من الأهالي السلافيين القاطنين على حدود الشام، فنقلهم إلى أقصى الشمال الغربي من آسياالصغرى، ولكن المؤرخ البلاذري، يذكر أن توطين جماعات أخرى من السلافيين على الحدود البيزنطية العربية قد تم في عهد الخليفة مروان الثاني (744/755) كما توطنت في الشمال الغربيمن آسيا الصغرى في النصف الثاني من القرن الثامن جماعة من السلافيين تزيد على مائتي ألف نسمة ، فكانت بيزنطة تستعين بأفرادها في حروبها مع العرب، و قد بقيت ذكرى السلافيينفي آسيا الصغرى
محفوظة في تسمية أحدى القلاع على الحدود الشامية باسم (قلعة الصقالبة) كما يذكر ابن خرداذبه، غير أن المصادر العربيةلاتسترسل في تفاصيل العلاقات بين العرب و السلافيين في آسيا الصغرى، كما أنها تخلوا بعد القرن التاسع عن ذكر شىء من تلك العلاقات، و بغزو الأتراك لآسيا الصغرى انتهت صلاتالسلافيين بالعرب في ذلك القطر.
إن الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي (أي مقاطعة دالمسيا في يوغوسلافيا الحالية) لم يسلم من الغزو العربي، فقد قام العرب بالحملة علىذلك الساحل سنة 841 م بأسطول قوامه 36 سفينة، فأحرقوا مدينة أوسور، و بعد هجومهم على مدينة أنكونا في إيطاليا عرجوا على الادرياتيكي و استولوا على بعض الغنائم في مدن بودواو ريسان، و كوتور، و في السنة المذكورة بعد ما اتفقت بيزنطة و ألمانيا على القيام بمحاولة استرداد إيطاليا الجنوبية من العرب اشتركت بعض قبائل الكروات في الحرب ضد العرببأمر فاسيلي الأول ملك بيزنطة، فقام اسطول مدينة دوبروفنيك بنقل جزء من القوات العسكرية، ولكنها رجعت من باري تسحب أذيال الفشل، و في سنة 866 م، عاد العرب إلى الساحلالادرياتيكي فظلوا يحاصرون مدينة دوبروفنيك طيلة 15 شهرا، و لما بلغهم اقتراب أسطول بيزنطة القوي من المدينة رأوا رفع الحصار فانسحبوا إلى باري، ولكن القيصر الألمانيلودفيك الثاني (855 /875) لم يتخل عن فكرة طرد العرب من إيطاليا، فطلب إلى الأمير الكرواتي دوما غوى أن يتوجه بأسطوله إلى باريج فاستجاب دو ما غوي لهذا الطلب، فكانت نتيجةالهجوم الخاطف أن سقطت المدينة في أوائل فبراير عام 871 م، و مع ذلك فقد بقي الساحل الادرياتيكي عرضة لهجمات القوات العربية التي بدأت تأتي من جزيرة كريت، ففي سنة 872 م،استولي العرب على بعض مدن دالمسيا، و على جزيرة براج، ثم رجعوا بما غنموا منها، ولكنهم أعادوا الكرة حتى وصلوا إلى خليج تريستا سنة 875 م، و مما يذكر من احتكاك السلافيينالجنوبيين بالعرب في الحروب ما جرى من تعاون مدينة دوبروفنيك مع بيزنطة على رد هجوم عرب صقلية على جزيرة كورفو سنة 1032 م.
في سنة 1217 م، توجه آندره الثاني ملك هنغاريا وكرواتيا (1205/1235 م)
إلى فلسطين على رأس حملة صليبية، فانضم إليه بعض أمراء الكروات مع رعاياهم، و وضعت مدينة سبليت سفينتين للنقل تحتتصرف الملك و لم يبق هؤلاء الصليبيون في فلسطين غير بضعة أشهر، ثم رجعوا إلى وطهنم عن طريق البر سنة 1218 م.
و لم تبق هذه الاتصالات بين العرب و السلافيين الجنوبيين فيآسيا الصغرى، و في ساحل البحر الادرياتيكي غير ذات أثر في علاقات مخلتفة بين الأمتين، فإن ماقد أشرنا إليه من تعاونهما العسكري في الحدود الشامية، و من معاداتهما فيسواحل البحر الادرياتيكي قد انعكس على علاقاتهما الاجتماعية و الثقافية و التجارية على غرار ما نشأ بين العرب و غيرهم من الأمم التي كانوا على اتصال بها بوجه من الوجوه،مما لا يتسع المقام لتفاصيله. و المرجع المفيد الوافي في هذا الموضوع كتاب: (فجر الإسلام) و كتاب: (ضحى الإسلام) للأستاذ المرحوم أحمد أمين.
و من الجدير بالملاحظة أنالأخبار في المصادر القديمة عن حياة الصقالبة في الدولة العباسية ليست كثيرة و لا مستفيضة، بخلاف الأخبار عن الصقالبة في الأندلس و لعل سبب ذلك يرجع إلى أن مدلول كلمة:(الأروام) عند بعض الكتاب يشمل الصقالبة، كما أن مدلول كلمة: (الصقالبة) يشمل عند بعضهم أناسا من فرنسا و ألمانيا و إيطاليا و غيرها، و قد كان يطلق اسم الصقالبة على جميعالجنود الأجانب في الجيش الإسلامي بأسبانيا في القرن العاشر.
و لأجل تضارب المصادر و غموض بعضها و عدم دقتها في الوصف و التعبير يختلف العلماء المتأخرون في استنتاجبعض الحقائق منها، و لا سيما إذا ركبهم تعصب للجنس، أو دفعتهم رغبة في الدعاية لفكرة معينة، و مهما يكن من أمر فلنذكر طرفا من الأخبار عن السلافيين في الأقطار الإسلاميةمع شىء من التعليق على بعضها:
يذكر ابن جرير الطبرى أن أربعة من غلمان الخليفة المأمون قتلوا الفضل ابن سهل لما غضب عليه الخليفة، و كان اسم أحد الغلمان الأربعة (موفقالصقلبي) و ورد في كتاب: (يتيمة الدهر): (و يستخدم التركي عند غيبة الصقلبي) مما يدل على أن الناس كانوا يفضلون الصقالبة على الأتراك، و يصف الجاحظ في كتاب: (الحيوان) أصنافالرقيق عند النخاسين فيشبه الصقالبة بالحمام
الأبيض، و يقول المسعودي إن أم الخليفة المستعين العباسي كانت صقلبية اسمهامخمارق(المستعين 220/ 252).
و يذكر بعض المؤلفين أن شخصا سلافيا اسمه (توما) قاد الثورة سنة 821 م في أنطاكيا التي كانت تابعة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت ، فأيده العرب،فنودي به ملكا ، ولكنه لميلبث أن قتل سنة 823 م.
و لقد عرض أحد المؤلفين المعاصرين ترجمة حياة أبى ذر الغفاري عرضا رائعا، فوصف ما قاساه هذاالصحابي الجليل في سفره من دمشق إلى المدينة حين ضاق به معاوية صدرا، فأعاده إلي الخليفة عثمان ه، و عهد إلى نفر من الصقالبة ليرافقوه ، و معجهلنا بقيمة المصدر الذي تستند إليه هذه الرواية بشأن جنس هؤلاء المرافقين لهذا الذي عاش وحيدا و مات وحيدا، فإن تاريخ انضمام الأفواج الأولى من الجنود السلافيين إلىالعرب يجيز احتمال وجود بعضهم في خدمة معاوية بدمشق.
و لا شك أن السلافيين في أسبانيا و صقلية و أفريقيا الشمالية كانوا كثيرين، و كان الحرس الخاص للأمير حكم (796/822)مؤلفا منهم، و في عهد الأمير عبدالرحمن الثالث (921/961) كانوا يشغلون المناصب العليا في الجيش و الإدارة، و كان حرس الخلفاء في قرطبة مؤلفا من سلافيين بلغ عددهم في منتصفالقرن العاشر 13750 رجلا، و لم يكن جميع هؤلاء السلافيين، رقيقا جلبهم النخاسون إلى أسبانيا، فإن منهم من قدموا إليها كتجار أو جنود أو مغامرين، و اشتهر بعضهم بنظم الشعر، وقام أحدهم واسمه(حبيب) بتأليف كتاب عن السلافيين، و شعرهم و تاريخهم و غير ذلك من مفاخرهم، و تذكر بعض المصادر أن سلافيا في أسبانيا اسمه (خيران) من دلماسيا كان قائدا ماهراواسع الثقافة، و أن قائد جيش الخليفة المعز لدين الله و منشيء مدينة القاهرة كان سلافي الأصل من دالماسيا أيضا. وكانت جماعة كبيرة في خدمة الملوك الفاطميين في مصر، كمايذكر المقريزي في الخطط في عدة مواضع. و لقد كانتأجمل حارة في مدينة بالبرموا بصقليه تسمى (حارة الصقالبة) مما يدل على كثرتهم و نشاطهم هنالك، و أن مستوى حياتهم كان عاليا.