الدين والحياة
لحضرة صاحب الفضيلة الدكتور محمود فياض
أستاذ التاريخ الاسلامى بكلية أصول الدين بالازهر
شهدت أوربا - في فجر عصر النهضة - جدلا عنيفا حول ضرورة الدين للحياة، أو عدم ضرورته لها، و هل يمكن بعث أوربا قوية جديدة، و خلق نهضة فكرية و عمرانية فيها على أنقاضالجهل و الجمود - الذين نشرهما الدين و رجال الكنيسة (بعيدا عن سلطان الدين، و سطوة رجال الكنيسة؟ أم أن ذلك أمر غير ميسور؟
و يستطيع الباحث أن يضع يده بسهولةعلى صنوف من هذا الجدل في جميع مطاهر الحياة اذ ذاك، يتميز فيها بوضوح اتجاهان:
الاول: يدعو الى التحرر من كافة القيود، و تحرير حياة الانسان كلها من استعبادالكنيسة، و رجالها، و دينها، و انظر الى الدين نظرة ببسيطة تقوم على أساس أن الدين مجاله حياة الشخص الخاصة لا حياة المجتمع، وانه ليس الا علاقة شخصية صدفة بين الانسان وربه، لا يقوم عليها أن التزام الا بين هذين الطرفين، و لذلك فكل ما يدعيه رجال الكنيسة لانفسهم من سلطان على الناس، ليس الا زعما باطلا لا أساس له من الحقيقة فيالواقع.
و الثانى: يدعو الى التعلق بأهداب الكنيسة و رجالها، لان ذلك هو طريق الخلاص من المحن و الشرور و النجاة في الاخرة من عذاب الجحيم. لان رجال الكنيسة همخلفاء القديس بطرس، و لهم ما كان له من سلطة الحل و الربط في الارض و السماء، و هم بذلك فوق الملوك و الاباطرة، لان سلطان هؤلاء لايكون شرعيا الا عن طريق الكنيسة وتبريكها، و بالتالى فاليهم مقاليد الحياة يتحكمون فيها بما يرون أنه يرضى الرب أو لا يرضيه.
/ صفحه 97/
تجد هذين الاتجاهين واضحين في الفن، فهذا فن يتجهالاتجاه الوثنى، و يستوحى الفن الاغر بقى القديم في النحت و النقش و التصوير، و هذا آخر يستمد من تعاليم المسيحية طالع رسمه و نقشه و تصويره، و في الادب تجد الادب الطليقالمتحرر ينشد الجمال في كل شىء، و يستثير احساس الانسان. و تجد الى جانب ذلك الادب المسيحى الذى يحاول أن يلفت الانسان الى عظمة المسيح و خلفائه، و يوجهه الى نوع خاص منالسلوك الفاضل، أساسه تمجيد الدين و رجال الكنيسة ليضمن النجاة في الاخرة من العذاب عن طريق
الكنيسة، لانها الطريق الوحيد لذلك.
و لقد تأثر بذلكالكتاب السياسيون، فمنهم من اتجه ببحوثه الى التحرر من سلطان الكنيسة و تحرير الدولة منه، و منهم من اتجه الاتجاه الكنسى الذي يجعل البابوية (الكنيسة) فوق الامبراطورية،و البابا سيدا للامبراطور، و قام نضال دموى بين الاتجاهين، و تميزت نظريات في السياة لرجال الدنيا(الدولة) و نظريات أخرى لرجال الدين (الكنيسة) و تناول ذلك أصل الدولة، وما يجب أن تكون عليه لتحقيق السعادة للناس و لتكون دولة خيرة!
و اذا كانت الكنيسة قد انهزمت آخر الامر في كافة الميادين، فإن ذلك كان راجعا الى أمريناثنين:
الاول: طبيعة الدين المسيحى، الذى جاء تكملة للتشريع الموسوى في بعض النواحى فلم يقبله اليهود، و ظلوا بشريعة ناقصة، و لم يشأ المسيحيون الاخذ بالاصولالموسوية التي في أيدى اليهود، و عاشوا بديانة لا تشريع لها، و خلو المسيحية من التشريع الذي يواجه ضررويات الحياة، و اضطراب تعاليمها، جعلاها عاجزة عن مواجهة التطوراتالسياسية و الاجتماعية، غير صالحة لتعزيز و ثبات الاصلاح، فلما لم تسعف طلاب الاصلاح بما يريدون، اضطر بعض المستنيرين من رجال الدين الذين فهموا الحياة الجديدة، الىالقيام بثورة اصلاحية كان لها بعض الاثر في التحرر الفكرى، و الحط من قداسة رجال الدين بعد نشر مثالبهم، و من هؤلاء: لوثر، و كلفن، و غيرهما، و مع هذا فقد ظلت المسيحيةعاجزة عن معونة
/ صفحه 98/
المصلحين، قاصرة عن تقديم مقومات النهضة المنشودة، و لهذا اسقطتها النهضة من حسابها.
الامر الثانى: هو ربط الدينبرجال الكنيسة، بحيث لا يرى الدين دينا الا عن طريق هؤلاء، ثم السلوك السىء جدا الذي كان عليه البابا و رجال الكنيسة جمعيا; لقد كان التعليم كفرا، لانه وسيلة الثورات،استغلوا جهالة الشعوب و سيطروا على العقول باسم الدين، و جمدوا الفكر باسم الدين، وحرموا النظر و البحث في الدين نفسه، و ليس لاحد أن يفهم من الدين الا ما يفهمه له رجالالكنيسة، حتى ظل الدين في الحقيقة مجهولا للمتدينين لا يعرفون حقيقته، هذا من ناحية، و من أخرى فقد أغرف البابوات و كبار رجال الدين أنفسهم في المتع المحرمة و الشهواتالفاجرة، وفاق ما ارتكبوه من المنكرات كل ما ارتكبه معاصروهم من الملوك و ذوى الاقطاع، و يكفى أن تقرا خطبة واحدة للقسيس الثائر الفلورنسى ((سافونا رولا)) لتعلم ما وصلاليه رجال الكنيسة، فلما لم تجد الشعوب و لم يجد طلاب الاصلاح المدنى من رجال الدين قدوة حسنة أسقطوهم ايضا من الحساب.
و قد كان يقابل هذا الانحلال الدينىوالخلقى في رجال الكنيسة، قوة جبارة سيطرت على الاغلبية في الشعوب، و وجهت الحياة كلها بروحها، و هي القوميات التي تجمعت وتكتلت ثم ظهرت على مسرح السياسة الاوربية، واندفعت كل قومية الى التحرر من سيطرة الملوك و الاباطرة الاجانب، و سيطرة رجال الكنيسة على السواء، و كان نضالها شاقا و عنيفا ضد المستعمرين و رجال الكنيسة.
ولقد خلقت الحركات القومية في أوربا أثناء كفاحها ليسطرة الاجانب و الكنيسة فكرة جديدة هي فكرة فصل الدين عن السياسة، و ابعاده عن توجيه الحياة الانسانية الحرة، و قصرةعلى ما فهم منه اذا ذاك من طقوس و مراسم خاصة، و اعتباره أمرا شخصيا يهم الشخص وحده، و كانت حجة القوميين اذ ذاك قائمة قوية: لان الدين المسيحى لايسعفهم باالتشريع الذييريدونه لمواجهة شئون السياسة، و أمور الاجتماع في العصر الجديد، و لان رجال الدين المسيحى
/ صفحه 99/
كانوا فاسدى السيرة لايصلح واحد منهم للاقتداءبه، و أكثر من ذلك. فإن رجال الكنيسة و على رأسهم پاپا روما يقفون في وجه حركة التحرير القومية في ايطاليا، و يعاونون المستعمرين الاجانب من النمساويين ثم من الفرنسيين ضدطلاب الحرية في ايطاليا ضد الشعب الايطالى نفسه، الشعب الذي يرعونه، و في أرضه تقوم كنيسة القديس بطرس الذي هو الاب الروحى للايطايين، و الذي هو مصدر السلطة الروحيةلهؤلاء لانهم خلفاؤه، و اذن فمن حق القومية الايطالية و طلاب الحرية جميعا في أوربا أن ينادوا بفصل الدين عن السياسة، و ابعاد رجال الكنيسة الملوثين عن حياة الدولة، والغرض من ذلك هو ابعاد فساد الكنيسة عن توجيه الحياة، و سجن دينها و رجالها داخل أسوار الكنيسة، لهم حياتهم الكنيسة الخاصة، و للدولة الحرة حياتها الخاصة.
وهكذا تم لرجال النهضات القومية النجاح في تحرير شعوبهم، و عزل الكنيسة و رجالها عن الدولة، و على هذا قبعوا في كنائسهم في كل دولة، و قامت ((دولة الفاتيكان)) في ركن من روماو لا زالت الى اليوم تمثل في نظر القوميين فكرة فصل الدين عن السياسة.
* * *
و لقد شهد الشرق الاسلامى مثل هذا الجدل في القرن التاسع عشر الميلادى، أوبالضبط منذ فسد حكم الاتراك العثمانيين لبلاد المسلمين، و شغل الكتاب بهذه الفكرة بشكل بارز عند ما ألغى ((كمال أتاتورك)) الخلافة الاسلامية بعد نجاح حركتهالتحريرية.
و اذا كان مصطفى كمال قد تخلص من الخلافة التي يفترض أن حكمها يقوم على دين الإسلام فانه لم يستطع أن يتخلص من الدين الاسلامى كعامل موجه لحياةالشعب التركى حتى اليوم، رغم كثرة تشريعاته الديكتاتورية و حكمه العسكرى، ثم خفت صوت الداعين الى فصل الدين عن السياسة، و توجيه حياة الشعوب العامة ردحا من الزمن، ثمتحول الى الالحاح في التقليل من أهمية رجال الدين
/ صفحه 100/
الاسلامى، و معاهد التعليم الاسلامية بصفة عامة، و الازهر الشريف بصفة خاصة، و بين الحين والحين تقوم زوبعات في العالم الاسلامى، يثيرها قوم من طراز خاص، حول أهمية علماء المسلمين، و معاهد الدين التعليمية، أو عدم أهمية هؤلاء، و تلك، و في كثير من الاحيان يقعالهجوم على الدين و رجاله و معاهده من قوم يلبسون مسوح الاصلاح و الغيرة على الدين و الاثار الاسلامية، و النصيحة لالائمة و الخاصة و العامة. و عجيب أن تقع تلك التوجيهاتالقاسية ((الشيطانية)) ممن لم يعرف بأثر في الاصلاح و النصح و الغيرة، أو ممن أخذ عليه الحاد في الدين، و تحريف للكلم عن مواضعه باسم الفن تارة، أو التفلسف تارة أخرى، وعجيب أنهم يؤمون بأن الدين متمكن من نفوس الناس، و أن منزلة علماء الإسلام في نفوس بنيه تعظم كلما تحامل عليهم هؤلاء، و يؤمنون بأنهم يلبسون الحق بالباطل. و أن لعبهم هذاليس من ورائه طائل، ولكنهم لفائت خاص فاتهم. حاقدون. و هم لهذا يشوهون الحقائق، و يسرفون على الدين و رجاله، و يربطون أحيانا بين الدين و بعض علمائه المنحرفين في نظرهم،كما يستدل خصوم الإسلام بضعف المسلمين اليوم على تفاهة دينهم، و عدم صلاحيته لتطورات الزمن.
و من سوء حظ هؤلاء الذين يخاصمون المثل العليا الفاضلة، أن ما وقعفي أوربا المسيحية، لايمكن أن يقع في بلاد المسلمين، للاختلاف الشديد بينهما من الجهات الاتية:
(1) طبيعة الإسلام و طبيعة المسيحية.
(2) و الشرق غيرالغرب.
(3) و الازهر و ما ماثله من الجامعات الدينية في بلاد الإسلام غير معاهد التعليم الكنسية.
(4) و القومية هنا غير القومية هناك. فخصائص الشرق و قومياته، و الإسلام و معاهده و رجاله، تكاد تكون واحدة، و أهداف الإسلام و رجاله، هي نفسها أهداف القوميات الشرقية و رجالها،
/ صفحه 101/ اذ تلتقى أهداف هذه العناصر كلها عند نقطة واحدة، هي تحقيق السلام و الاخوة و الحرية، و الاستقلال في ظلال الايمان بالله رب العالمين، أى أن العوامل التي انتجت فيأوربا فكرة فصل الدين عن السياسة، لا وجود لها عند المسلمين، بل الموجود عكسها تماما عوامل حافزة و دافعة الى غاية واحدة مشتركة بينهما تحقق السعادة للجميع; و لهذا لنتتحقق فكرة فصل الدين عن السياسة في الشرق، كما نجحت في الغرب.فالاسلام شريعة عامة تسعف البشرية بالعلاج الناجع من كل أدوائها، في السياسة و الاجتماع و الاقتصاد والاخلاق، و هو خير منظم لحياة حرة فاضلة، لانه يقرر الحرية و الاخوة و المساواة في كل شىء، و هو بذلك يغاير المسيحية التي لم تسعف طلاب النهضة بما يريدون، واذا قدّر للشرقالحديث ان ينهض من كبوته فلن يكون ذلك الا عن طريق الاسلام و اذا كانت النهضة الاوربية قد استمدت كثيرا من التشريعات الاسلامية، فإن الشرق في نهضته لا يمكن أن يغفل تعاليمالإسلام.
و الشرقيون روحانيون منذ فجر الحياة، و مهما أسرفوا في ماديتهم، فلن تتمكن ماديتهم من اقتلاع الروحانية المتأصلة فيهم، و لعل ذلك هو سر سخريةالشرقيين - حتى غير المعتصمين بالدين تماما - من كل دعوة الحادية تظهر في محيطهم، كما أننا نجدهم يهملون كل دعوة الى الحط من أقدار علمائهم و معاهدهم الاسلامية; و المتتبعلحركات النهوض في بلاد المسلمين، يجد أنها قد اعتمدت على الدين و مبادئه، كما يجد علماء الإسلام يتزعمون معظهما، أو يناصرون زعماءها.
و الذي نيرد معرفتهبالحاح، أن يدلنا انسان على حركة تحريرية أو قومية في بلاد المسلمين تخلف عنها علماء الإسلام، و طلاب معاهده، أو قاوموها، و ساعدوا خصومها كما كان يفعل رجال الكنيسةالبابوية في روما; و عندئذ يكون لنا كلام آخر نواجه به تلك الفكرة الملحدة!! و هل يستطيع منصف أن ينسى أثر السيد جمال الدين و الشيخ محمد عبده في النهضات الاسلامية؟ و اذن،فالاسلام
/ صفحه 102/
و رجاله، يشاركون في كل نهضة، و يدعمون كل حركه اصلاحية يراد بها الخير للناس، و لا يقفون في وجه حركات التحرير! لان أولى تعاليمالإسلام تدفعهم دفعا الى العزة و الكرامة و السيادة، و تحرضهم على الجهاد في سبيل الحرية ضد الغاصبين، بل الجهاد في تحرير العالم كله من العبودية لغير الله رب العالمين،و لهذا سيظل الإسلام أقوى عناصر التحرير للشرقيين عامة، و سيظل رجال الإسلام و علماؤه دعاة كل نهضة، مهما أرجف المرجفون، و مهما تقول المبطلون، و هكذا يلتقى الدين ورجاله، مع القومية و القوميين الصالحين، الذين يرجون الخير لاوطانهم على هدى و بصيرة، و تبطل حجة الملحدين.
و لقد كان أمل المستعمرين الاوربيين الذينأجهدهم العمل على تحقيقه، و لا زال يتعبهم و يضنيهم، و يركبون في سبيله كل مركب، هو التقليل من أهمية رجال الدين الاسلامى في الشرق، و القضاء على مكانة الثقافة الاسلاميةفي نفوس المسلمين عامة و المصريين خاصة، ليسلس لهم قياد الشرق، و يسهل عليهم استغلاله، و من ثم عاونهم في ذلك الملحدون، و المستغربون من الشرقيين المسلمين، أملا فيالسيادة و السلطان ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، و يأبى الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون)) .
و هؤلاء الدعاة الصادون عن سبيل الله و خيربلادهم يظهرون عادة عقب كل حركة تحريرية، و اثر كل فورة أو ثورة خيّرة يراد بها وجه الله و الوطن و صالح المسلمين، فليحذرهم أخواننا الشرقيون و المسلمون، ليحذروا هذهالافكار المدخولة، التي يراد بها دوام أسرهم و ذلهم، و هو انهم على أنفسهم و على الناس و من حقنا اليوم أن نطلب في رفق غير هدامين و لا عيابين - الى شيوخ الإسلام - كثيرا مناليقظة لعوامل الهدم، و الوقوف بعزم في وجهها، كما نطلب تنشيط التوجيه الخيّر للشعوب، و الاخذ سريعا في اصلاح أدوات الدعوة الى الله و تقويم المعوج من ألسنتها، والمشاركة الفعالة بأكبر نصيب في وتوجيه الشعوب الى الخير و الجمال، و الحرية و الاخوة، و تدعيم الاشراف الخلقى على سلوك الافراد و الجماعات،
/ صفحه 103/ لخلق جيل جديد، قوى عزيز، يكون جديراً بميراث أمجاد أجداده، قادرا على تمثل مبادىء الإسلام، والعمل بها، و الدعوة اليها، و لا غيرو فالاصلاح أمل عند المؤمنين يتجددبتجدد الزمن، و تطور الاحوال و وجود المقتضيات، لانه تطلع الى الكمال، و نشدان للجمال، ثم هو ينصب على الوسائل و الكيفيات، لا على المبادىء و الاصول الكلية الدائمةالخالدة.
أما بعد: فهذه كلمة نوجهها الى الذين يريدون الخير و الاصلاح ابتغاء مرضاة الله و نبصر بها أولئك السادرين في غوايات الغربيين، الذين يشيعونالريب، و يشككون الناس في امكان نهضة الشرق تحت لواء الإسلام، و يحضونهم على عزل الدين عن الحياة، و فصله عن السياسة، و سجنه مع رجاله في ((فاتيكان)) شرقية، كما حدثالمسيحية و رجالها في الغرب، و ان ربك لبالمرصاد.