الدين والدولة
في مشروع الزكاة
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني
المفتش بالأزهر
تتجه النية في هذه الايام إلى إصدار قانون يجعل جباية الزكاة إلى الدولة، وينظم نصابها وقيمتها، وأنواع الأموال التي تكون فيها التي تعفى منها، ومصارفها التي تنفقفيها، على أن يستمد هذا القانون من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، دون تقيد بمذهب معين من مذاهب المسلمين. ولا شك أن الدافع إلى ذلك دافع شريف يجب أن يحمد ويشكر،بيد أن بعض الكتاب أثار اعتراضاً على فكرة إصدار هذا القانون، لا من حيث موضوعه فحسب، ولكن من حيث المبدأ الذي يقوم عليه أيضاً، وهو مبدأ الاعتراف بالصلة بين الدينوالدولة، مع أن الواجب ـ في نظره ـ هو قصر الدين على ميادين العبادة والأخلاق والعواطف الشريفة.
ولما كان هذا الموضوع ذا أهمية وخطر لدى المشتغلين بالفقه والقانون فيشتى البلاد الإسلامية، وكان للزكاة نفسها شأن في الدين والمجتمع بعيد الاثر، فإني أرى من الحق عليّ أن أدلي فيهما برأيي، لعل فيه خيراً للإسلام والمسلمين.
/ صفحه 171/
ينقسم البحث في هذا الموضوع قسمين:
ـ المبادئ التي ذكرها الكاتب وبنى عليها معارضته لهذا المشروع. ـ رأيي في جواز إصدار تشريع يُلزم مالكي النصاب بأنيؤدوا زكاة أموالهم للدولة.
أما القسم الأول فإني أقدم بين يدي بحثه، نص ما ذكره الكاتب، ليشترك القراء معي في فهمه، وإدراك ما ينطوي عليه:
يقول الكاتب بعد أن ساقملاحظة شكلية لا تتصل بالموضوع:
(…… أما الملاحظة الثانية فهي اخطر من أختها، لأنها لا تتعلق بالشكل والاختصاص، بل بصميم الموضوع، وأساس التشريع، فالمشروع كمايظهر من اسمه، ومن التفصيلات المحيطة باستصداره، يستمد حكمته وأحكامه من الدين الإسلامي الحنيف، وهنا يواجهنا بحث جد دقيق وخطير، وهو علاقة الدولة بالدين، وعلاقة الدينبالسياسة، ولا يخفى أننا في مصر نجري في حكمة واعتدال على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة، وأن الحركة الوطنية أورثتنا مبدأ جليلاً ينبغي لنا أن نعض عليهبالنواجذ، وهو يقضي بأن الدين لله، والوطن لجميع المواطنين، ولقد حاول البعض أخيرا خلط الدين بالسياسة، ودعا إلى جعل القرآن الكريم أساساً للتشريع، فما جنينا من هذهالتجربة غير الشر المستطير الذي نعاني بأسه حتى ألان، أقول ذلك وأنا أول الفخورين بدينهم الإسلامي الكريم، اعمل مع العاملين على أن يرجع المسلمون إليه في تهذيب نفوسهم،وتقويم أخلاقهم وتحريك همهم، وبعث وطنيتهم، ولكن الوطن المصري ليس لأهله المسلمين وحدهم، والدول المتمدنة كلها تحرص على فصل السياسة عن الدين، والتجارب المائلة عندناجديرة بأن تفتح أعيننا على الأخطار التي نتعرض لها إذا تنكبنا هذا السبيل القويم).
/ صفحه 172/ثم طالب الحكومة بالعدول عن هذا المشروع لهذه الأساليب، مبينا أنهلا يكره أن تضرب الضرائب المدنية مهما ثقلت ما دامت مطلوبة لحاجات الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وختم كلمته بقوله: (ولكنني أحرص وأخشى على مبدئنا الوطني الحكيم: الدينلله والوطن للجميع).
من هذا يتبين أن الكاتب يبني معارضته للمشروع على أمور يزعم أنها حقائق مسلمة، فرغت مصر منها، وأصبحت أسساً ثابتة في نظامها، يجب أن تفتح عينهاعلى الأخطار التي تتعرض لها إذا تنكبت سبيلها القويم.
وتلك الأسس المزعومة هي: ـ
1 ـ الفصل بين الدين والدولة، وهو ' مبدأ جليل ' نسير عليه في حكمة واعتدال، وقدورثناه عن الحركة الوطنية، وأخذناه عن الدول المتمدنة، وحرصنا عليه في سائر تشريعاتنا. 2 ـ وجوب قصر الدين وأحكام القرآن الكريم، على ما يتصل بتهذيب النفوس، وتقويمالأخلاق، وتحريك الهمم، وبعث الوطنية.
ـ الاعتبار بما أثبتته التجربة حينما حاول البعض الدعوة إلى جعل القرآن الكريم أساساً للتشريع، تلك الدعوة التي ما جنينا منهاإلا الشر المستطير.
ولقد أخطأ هذا الكاتب خطأ عظيماً، وضل ضلالا بعيداً، وأساء إلى دينه ووطنه وقومه، وهو يحسب أنه من الذين يحسنون صنعاً، واليكم البيان:
1 ـ أماعن المبدأ الأول الذي زعمه متقرراً ثابتاً، فإنه قد اشتبه عليه أخذ الدولة ببعض النظم والتشريعات التي تتنافى في جملتها أو بعض تفاصيلها مع الشريعة الإسلامية، فظن ذلكرفضاً للشريعة، وفصلا بينها وبين شئون الدولة، والواقع أن نظامنا المصري، منذ العهد التركي كان قائماً على اعتبار التشريع الإسلامي هو الأساس والمصدر، فكانت الدولةالعثمانية هي دولة الخلافة الإسلامية،
/ صفحه 173 /وكانت تأخذ في أحكامها وتشريعاتها، بمذهب الحنفية، وكان كل مشروع من مشروعات قوانينها يخرج على أساس هذاالمذهب غالباً، أو على أساس غيره من المذاهب الإسلامية، إذا مست الحاجة إلى ذلك، ومن المعروف أن الشريعة الإسلامية صالحة لمسايرة الإصلاح والرقي، وأن الله لم يجعلهاكلها نصوصاً، وإنما جعل شطراً عظيماً منها، بل أعظم شطريها، راجعاً إلى الاجتهاد وتحري المصلحة في دائرة القواعد العامة التي ترشد إليها النصوص القاطعة، والأصولالمحكمة، وقد كان ذلك من أسباب الخصوبة والمرونة التي اشتهر بها الفقه الاسلامي، وأصبحنا نرى في كثير من المسائل التي تعرض للبحث على بساط هذا الفقه، سائر الاحتمالاتالتي يحكم بها العقل، وقد قال بكل احتمال فقيه مجتهد له دليله وحجته، حتى ليصعب أن نرى حكماً من الأحكام العملية ليس له إمام يقول به من بين فقهاء المسلمين.
كانتالدولة العثمانية تسير في تشريعاتها على هذا الأساس ـ ولا أقصد طبعاً أنها لم تكن تشذ عنه في شئ ما، ولكنه كان هو الأصل والكثير الغالب ـ وكانت مصر تبعاً لها، بل كانت منقبلها، تجري على ذلك في تشريعاتها وأحكامها وكان فيها قاض لكل مذهب من المذاهب يحكم بما أنزل الله، وقد ظلت على ذلك رغم تقلب حكوماتها، والدول المسيطرة عليها، لا يستطيعأحد أن يدعي خروجها على الشريعة أو الفصل فيها بين الدين والدولة، وإن كانوا في بعض الأحيان يخالفون أحكام الإسلام، ويقرّون ما لا يقره الإسلام، حتى كان عهد النفوذالأوربي، فعمل المستعمرون والمحتلون على إصدار بعض القوانين المستمدة من قوانينهم في الأمور المدنية والاقتصادية والجنائية، ليست كلها مما يخالف الشريعة الإسلامية،وليست مبنية على تقرر مبدأ الخروج عليها، والانفلات منها، وبقيت مع ذلك أمور كثيرة على حالها من الصلة الوثيقة بالفقه الاسلامي، كالوقف، والزواج، والطلاق والميراث،والوصية، وغير ذلك من الأمور التي اصطُلح فيما بعد على تسميتها ' بالأحوال الشخصية ' واُفردت لها محاكم خاصة.
ولما قامت الحركة الوطنية لم يكن من أغراضها التخلص منأحكام الشريعة
الإسلامية، ولم نسمع أو نقرأ عن أحد قوادها أنه نادى بذلك أو عمل عليه، وكل ما حدث في ذلك، أن المغفور له سعد زغلول باشا نادى بعدمالتفرقة بين سكان مصر من حيث الأديان، فالجميع مواطنون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وذلك ليسد الثغرة التي كان المحتلون يودون لو استطاعوا توسيعها، وهي ثغرة 'الأقليات ' وقد فوَّت عليهم المصريون ذلك باتحادهم واتفاقهم على تحرير وطنهم من غير أن تسود بينهم فكرة الانسلاخ من أحكام الشريعة الإسلامية، أو أن يشترط بعضهم على بعضأحكاماً معينه، وليس من المعقول أن يشترطوا ذلك، أو يتفقوا عليه، فإنه ما دامت الأحكام المدنية في أوروبا وفي مصر لا تستمد من مبادئ الدين المسيحي أو الدين اليهودي،فسواء على أهل هاتين الملتين أن يحكموا بتشريع أوربي أو بتشريع إسلامي، وكل ما يهمهم في ذلك أن يحكموا بتشريع ملائم للمصلحة والعدل مطابق لما تقضي به سنن الحياة، ولا شكأن التشريع الاسلامي كفيل بذلك بشهادة خصومه قبل أصدقائه. وإذن فلم تأت الحركة الوطنية في هذا الشأن بجديد، وإنما ذكّرت بمبدأ إسلامي مقرر منذ أول الإسلام، هو رعايةحق المواطنين من أهل الأديان الأخرى، والسماح لهم بإقامة سائر الشعائر، حتى كانت الدولة ـ وما زالت ـ تقيم لهم الكنائس والمعابد، وتنفق على مجالسهم الملية، وتعينمدارسهم، ولا تحول بينهم وبين ما يريدون في أنفسهم وأموالهم وأقضيتهم وأنكحتهم وسائر نظمهم، إلا ما تقضي الضرورة بوحدة الحكم والنظام فيه.
وقد جاء الدستور المصريعلى أثر الحركة الوطنية، فرعى هذين الأصلين، ولم يلغ واحداً منهما: إذ اعترف بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وحفظ لكل إنسان حقه في معتقده، وفي إقامة شعائره الدينيةعلى ما يريد، وتقريره لهذا الدين رسمياً ينافي القول بالفصل بين الدين والدولة، لأن الدول التي قررت هذا الفصل، لم تنص مثل هذا النص في دساتيرها، وإنما نص بعضها على أنهادول لا دينية، وترك بعضها الأمر دون نص على شئ إيجاباً أو سلباً، والدول التي تجري
/ صفحه 175/فعلا على أساس الفصل بين الدين والدولة إنما تجري على ذلك لأنه ليسفي دينها أحكام عملية تفصيلية في شئون الحكم يمكنها أن تعمل بها، وتسير على تفاصيلها.
وما زال رجال الدولة المصرية رسميين وغير رسميين مقتنعين بأن هذه الشريعةالإسلامية هي الشريعة الصالحة للأمة، المسايرة لما ترجو من نهضة وتقدم، وإن كانوا يرون أنهم مضطرون ـ إلى وقت معلوم ـ لمسايرة الواقع العملي فيما لدينا من تشريعاتأجنبية، حتى تتهيأ النفوس تدريجياً للعمل بسائر أحكام الشريعة، وإنا لنرى كثيراً منهم يبدي نشاطاً محموداً في لفت الأنظار إلى الشريعة الإسلامية وفي اقتباس ما تتهيأالظروف لاقتباسه منها.
فالقول بأن الفصل بين الدين والدولة مبدأ متقرر ثابت تجري عليه مصر، قول باطل لا صحة له، وزعم جرئ لا دليل عليه، وفيه طعن سافر على رجال الحكموالدولة، وإغضاء عن دستورها وأحكامها.
2 ـ وأما عن المبدأ الثاني وهو وجوب قصر الدين وأحكام القرآن الكريم، على غير العمليات من شئون الحكم والسياسة، فهو يدل على جهلهذا الكاتب بطبيعة الشريعة الإسلامية أو تجاهله، فإن هذه الشريعة لم ينزلها الله شريعة روحية قاصرة على شئون العبادة والتهذيب، وإنما هي شريعة عملية، تضع أسمى المبادئالتي تكفل سعادة الأفراد والجماعات، وتنبني على المصالح وتقدرها حق قدرها، ولا تتعارض مع أي أسلوب من أساليب الحكم والسياسة والنظام ما دام مبنياً على الشورى ورعاية حقالحاكمين والمحكومين، وكفالة الطمأنينة والقرار والأمن للأمة، وإذا كان مثل هذا المبدأ الذي يطالب الكاتب بتطبيقه يقال في الشرائع الأخرى، فلأنها شرائع روحية أو نصيةحرفية ليست لها قوة الشريعة الإسلامية واستقصاؤها وقدرتها على مجابهة المشكلات، ومسايرة النهضات الإصلاحية.
وإني لأعجب كيف ينادي مثل هذا الكاتب المسلم بذلك، وكيفيجمع بين إيمانه بالقرآن وشريعة القرآن، وما يدعو إليه من شلِّ هذه الشريعة،
/ صفحه 176/واطراح كتابها ظهرياً، وإذا كانت المسألة في الدين والشريعة مسألةتهذيب للنفوس وتقويم للأخلاق فحسب، فأي فرق في هذا بين شريعة وشريعة، ولماذا نعتز بشريعة الإسلام، ونعتبرها أكمل الشرائع، وأجدرها باتباع الناس والفرض أنها كغيرهامقصورة أو يجب أن تكون مقصورة على التقويم والتهذيب؟
ولكن هؤلاء لا يقولون ما يقولون إلا تقليداً للغرب، وإعجاباً بما عند الغربيين، فقد رأوا القوم هناك يقولون بهذافقالوا هم أيضا به، وفاتهم أن هناك فرقاً بين الشريعة التي نؤمن بها، والدين الذي يؤمن به القوم، وأن ما يصلح أن يقال هناك لا يصلح أن يقال هنا، وقد كانت شريعة الإسلامسائدة أيام الراشدين والأمويين والعباسيين، فلم تحل بين المسلمين والتقدم، بل هي التي هيأت لهم النصر والقوة والعزة والعلم والعدل ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وإنالأمر في ذلك لواضح، وإن الحقائق فيه لمشهورة معلومة، ولكن الذين غزونا في ديارنا وأوطاننا غزونا أيضاً في عقولنا وثقافتنا، وطبعوا كثيراً من شبابنا على الشعور بالنقص،والتطلق إلى مسايرة ركب الغالبين سواء أقادونا إلى خيرنا أم إلى شرنا ولعمري إنهم لقواد الشر، ودعاة الفساد والانحلال.
3 ـ وأما عن المبدأ الثالث فما نشك في أن الكاتبأراد أن يستغل غضب الرأي العام على طائفة رآها تنحرف عن القصد، وتلتوي عن السبيل، وتجانب خطة الرشاد، فدعا إلى الاعتبار بموقفها، وأنذر بالشر المستطير إذا تغاضينا عنهفلم نفتح له أعيننا، وهذا خطأ، فما كان الإسلام ليدعو إلى الاسراف أو إلى الالتواء، وما غضب الرأي العام لأن تلك الطائفة التي يعنيها الكاتب كانت تنفذ تعاليم القرآن،وأحكام الإسلام، وتسير على نهجها القويم، وإنما غضب لأنه رآها تنحرف عن ذلك وتبعد عنه، وتسير في طريق لا تفضي إليه، والله يعلم أن كل ذي عقل وإيمان من رجال الحكومة ورجالالشعب جميعاً يسره أن تسير البلاد الإسلامية في سبيل التدرج بسائر التشريعات حتى تكون
/ صفحه 177 /كلها متفقة مع الشريعة، بل إني لأعرف بعض المسيحيين يسرهم ذلكلما عرفوه في الشريعة الإسلامية من عدل وإنصاف، وملائمة لطبيعة الناس، ومسايرة لكل خير وإصلاح.
ألا إن ما كتبه هذا الكاتب الجرئ لدليل على حاجة الأمة الإسلامية إلى منيحذرها من فتنة الغرب وضلاله، ويبصرها بما في دينها وشريعتها من مزايا، ويأخذ بأيدي شبابها الذين غرتهم بهارج المدنية، وزلزلت إيمانهم بأنفسهم وقومهم وتاريخهم وثقافتهموأفكارهم، ليعلموا أنهم قوة يخشاها أعداؤهم فيحاولون إضعافها، وأن دينهم هو الدين، وعلمهم هو العلم، وأنهم ما ضعفوا ولا استكانوا إلا حين تقبلوا في أنفسهم وفي ثقافتهمودينهم حكم الغرب، وتركوا دعواته الكاذبة الخاطئة تتغلغل في أعماق نفوسهم، وتوحي إليهم أن يتبعوهم ويغرقوا في لججهم، ويتنازلوا لهم عن شخصيتهم من حيث يعلمون أو لايعلمون.
إن الأمة الإسلامية لفي حاجة إلى من يبصرها بذلك، وإن حقاً على كل ذي علم وإيمان وغيرة على دينه ووطنه أن يساهم في حمل جانب من هذا العبء، لننهض جميعاًبأنفسنا، ونخرج من هذه المحن المتلاحقة التي شككتنا في أنفسنا وشككت فينا أبناءنا ونحن خير أمة أخرجت للناس.
أما التشريع المراد إصداره، فإني ـ مع إعظامي وإجلاليللروح الكريم الذي دفع إليه وأوحى به ـ أحسب أن ضرره أكبر من نفعه، ذلك أن الزكاة بمقاديرها المقدرة في نصابها، وقيمة المخرج منها، والأموال التي تكون فيها وكل ما يتصلبها في الشريعة، شأن يجب أن يبقى له خطره وجلاله، وألا يشوه بجعله ضريبة كسائر الضرائب، فإن المالك هو أعرف الناس بنصابه، وما له وما عليه، وهو أعرفهم بمن يستحق بذلهومعروفه من جيرانه وعشيرته وذوي رحمه، وهو أحوج الناس إلى استحضار معنى العبادة فيما يؤديه من زكاة ماله، واستشعار روح الطاعة
/ صفحه 178/لربه الذي أعطاهوأغناه، وقد جعل الله من حكمة الزكاة أنها توجد بين الغني والفقير صلة مودة وحب شخصي، فالغني يتعرف أحوال الفقير وتأخذه عليه الرحمة والشفقة، والفقير يدرك هذه العاطفةفي الغني فيحبه ويطهر نفسه من درن الحقد عليه، ويتمنى له المزيد من الفضل والخير، وبهذا يتطهر المجتمع من كثير من أسباب الشر والعداوات، أما إذا جمعت الزكاة من ذويالأموال بواسطة الحكومة فإن هذه المعاني تضيع، ويشعر الناس بأنها ضريبة كسائر الضرائب، ويأبى الفقير إلا أن يأخذ من الغني ما تعود أن يأخذه في كل عام، فإما أن يعطيه وهوكاره متبرم، وإما أن يقول له: لا حق لك عندي فقد أعطيت الحكومة زكاة مالي، وكلا الأمرين له مرارته وغضاضته، على أن مشروع الزكاة الذي يراد إصداره سيصطدم بكثير من العقباتفي تشريعه وتنفيذه، كجعله على جميع أبناء الوطن دون تفريق بين مسلم وغير مسلم، وجعله على الأرباح دون رؤوس الأموال، وجعله على نصاب غير النصاب الذي تعرفه الشريعة،وسيحمِّل الدولة أموالاً كثيرة لتحصيله وضبطه، والفقراء والمساكين أولى بهذه الأموال، وقد علل الفقهاء المسلمون أفضلية دفع المالك زكاة ماله لمستحقيها بنفسه، بمثل هذهالأسباب التي ذكرتها، وربما كانت أجمع عبارة في ذلك هي عبارة موفق الدين بن قدامة في كتابه ' المغني ' جزء 2 ص 509 إذ يقول:
' وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلإنه إيصال الحقإلى مستحقه مع توفير أجر العمالة، وصيانة حقهم عن خطر الخيانة، ومباشرة تفريج كربة مستحقها، وإغنائه بها مع إعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه وذوى رحمه، وصلة رحمهبها، فكان أفضل كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل، فان قيل فالكلام في الإمام العادل إذ الخيانة مأمونة في حقه، قلنا الإمام لا يتولى ذلك بنفسه وإنما يفوضه إلى سعادته،ولا تؤمن منهم الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شئ منها وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته '.
لهذا أرجو من أصحاب الشأن فيهذا المشروع أن يتريثوا ولا يقدموا على هذه
/ صفحه 179 /الخطوة، فإن ضررها فيما أعتقد أكبر من نفعها، ولهم أن يضربوا ما شاءوا من الأموال غير الزكاة المعلومةالمقدرة نوعاً ونصاباً وقدراً، كما هو رأي كثير من الفقهاء، يقول الغزالي في كتاب الزكاة من ' إحياء العلوم ' ما نصه: ' وقد ذهب جماعة من التابعين ـ إلى أن في المال حقوقاًسوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة ؟ قال: نعم. أما سمعت قوله عزوجل: ' وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامىوالمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ' ـ يريد مع قوله في هذه الآية بعد ذلك ' وآتى الزكاة ' ـ واستدلوا بقوله عزوجل ' ومما رزقناهم ينفقون: وبقوله تعالى: ' وأنفقوامما رزقناكم ' وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجاً أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة '.