الربا في نظر القانون الاسلامي
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليلالدكتور محمد عبدالله دراز عضو جماعة كبار العلماء * * *
اشترك الازهر الشريف في مؤتمر القانون الاسلامي المنعقد بباريس في شهر يوليو سنة 1951، وكان مندوبة في هذا المؤتمر حضرة صاحب الفضيلةالاستاذ الدكتور محمد عبدالله دراز عضو جماعة كبار العلماء، وقد ألقى فضيلته هذا البحث القيم بالفرنسية.
ويسرنا أن ننشر تعريبه بقلم فضيلته أيضاً لينتفع به قراءرسالة الاسلام وسائر المعنيين بالدراسات الاسلامية.
مقدمة تاريخية
قبل أن أعرض على أنظاركم وجهة نظر الاسلام في الربا، ايذن لي يا جناب الرئيس و ياحضرات السادة والسيدات، أن أقول كلمة موجزة عن وضع المسألة في طائفة من التشريعات السابقة، مدنية كانت أم دينية.. مصر في عهد الفراعنة:
يلوح أن قدماء المصريينلم يكونوا يحظرون الربا حظراً صارماً، بل وضعوا له نظما وقواعد تحد من أضراره، ونحن، و ان لم يصل الينا نبأ هذه القواعد في جملتها، فقد نعلم بعض الشيء عنها. / صفحه377/هذا ((ديودور)) المؤرخ الاغريقي يحدثنا مثلا عن القانون الذي وضعه الملك ((يوخوريوس)) من ملوك الاسرة الرابعة والعشرين، والذي يقضى بأن الربا مهما تطاولت عليهالآجال لا يجوز أن يصل الى مقدار رأس المال.
أثينا و روما:
أما في الدولتين الاغريقية والرومانية فان الربا ـ قبل ظهور الاصلاحات التي وضعها ((صولون)) المشرعالاغريقي، و قبل الاصلاحات التي وضعها مؤلفو (الالواح الاثنى عشر) في روما ـ كان شائعا بدون قيود و لا حدود، و كان العرف(1) الجاري في كلتا المملكتين أن المدين اذا لم يوفدينه أصبح هو نفسه ملكا للدائن. فجاء تشريع (صولون) قاضيا على هذه العادة الشنيعة، حيث قرر أن تكون مسئولية المدين في ماله وذمته، لا في شخصه ورقبته. كما أنه حدد النهايةالقصوى التي يمكن أن تبلغها فوائد الدين (يقال انه حددها بنسبة 12 % من رأس المال). و كذلك صنع واضعو الألواح الاثنى عشر في روما، وبقيت هذه النسبة محفوظة في التشريعالروماني حتى جاء (جستينيان) فجعلها تدور بين 12 % للتجار وأمثالهم و 4 % للنبلاء. هذه التشريعات كلها لم تظهر الا في أعقاب اضطرابات و حروب داخلية مستمرة بين الأغنياءوالفقراء في تلك الشعوب، فكانت هذه الاصلاحات علاجا وقتيا لتلك المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي ولدتها هذه الوضعية الربوية.
هكذا مهما نصعد بنظرنا في تاريخالتشريعات المدنية القديمة. نجد أن مبدأ التعامل بالربا كان سائغا فيها، و أنه كانت توضع له في بعض الأحيان نظم تحميه اذا لم يجاوز حداً معلوما.
(1) وكذلك جرى العرف فيكلتا الدولتين بأن الفائدة السنوية يؤديها المدين على أقساط شهرية. قارن هذا بعادة العرب في الجاهلية أيضاً، كما سيأتيك نبؤه قريبا.
/ صفحه 378/
اسبارطة:
غير أن مدينة اسبارطة تبدو لنا في صورة استثناء من هذه القاعدة العامة، اذ لا يعرف في تاريخها أنها تعاملت بالربا أو أنها نظمته. و قد يرجع السر في ذلك الى أنها ـ من جهة ـلم تكن ذات طابع تجاري واضح، حتى انها لم يكن لها نظام نقدي، بل كانت عمدتها الرئيسية في التعامل هي المبادلة والتقايض، ومن جهة أخرى فان قانونها لم يكن يخول للغرباءالذين يحملون نقود بلادهم أن يدخروا الذهب والفضة، ومن عرف عنه أنه يكتنز شيئاً منها كان جزاؤه الاعدام. اليهودية والنصرانية:
فاذا ما انتقلنا الآن منالمنظمات المدنية الى التشريعات الدينية، فاننا نشهد ظاهرة جديدة في تاريخ التشريع في هذا الشأن، فبعد أن كنا نرى التعامل بالربا في الشرائع غير الدينية أمراً سائغاً فيحدود واسعة أو ضيقة، نرى التشريعات السماوية تتجه به نحو الحظر والتحريم الكلي. هكذا نقرأ في كتاب العهد القديم: ((اذا أقرضت مالا لأحد من أبناء شعبي … فلا تقف منهموقف الدائن: لا تطلب منه ربحاً لمالك)) (الآية 25 من الفصل 22 من سفر الخروج) وفي موضع آخر: ((اذا افتقر أخوك فاحمله لا تطلب منه ربحاً ولا منفعة)) (الآية 35 من الفصل 25 منسفر اللاويين).
وكذلك نقرأ في كتاب العهد الجديد: ((اذا أقرضتم لمن تنتظرون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟ … ولكن … افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرينعائدتها. واذا يكون ثوابكم جزيلا)) (الآيتان 34 و 35 من الفصل 6 من انجيل لوقا) ولقد أجمع رجال الكنيسة ورؤساؤها، كما اتفقت مجامعها على أن هذا التعليم الصادر من السيد المسيح(عليه السلام)يعد تحريما قاطعاً للتعامل بالربا.
حتى ان الآباء اليسوعيين الذين يتهمون غالبا بالميل الى الترخص والتسامح في مطالب الحياة وردت عنهم في شأن الرباعبارات صارمة، منها قول سكوبار: ((ان
/ صفحه 379/من يقول ان الربا ليس معصية يعد ملحداً خارجا عن الدين)) وقول الأب بونى: ((ان المرابين يفقدون شرفهم في الحياةالدنيا، وليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم))(1).
أوربا المسيحية:
هذه النظرة الدينية أقرها القانون المدني الأوربي في سنة 789 (مرسوم ايكس لا شابيل) وبقيت هي المذهبالوحيد في أوربا طوال القرون الوسطى، ولكنها بدأت تفقد مناعتها شيئا فشيئا منذ عصر النهضة، على أثر الاعتراضات المتكررة التي وجهت اليها بين القرنين السادس عشر والثامنعشر من (كالفان) الى (مونتيسكيو) وكان لهذا الضعف مظهران: مظهر عملي، ومظهر تشريعي. فأما المظهر العملي فهو أن بعض الملوك والرؤساء الدينيين أنفسهم أخذوا يجترئون علىانتهاك هذا التحريم علنا. من ذلك أن (لويس الرابع عشر) اقترض بالربا ليسدد ثمن دانكرك في سنة 1662 وأن البابا (پي التاسع) تعامل بالربا في سنة 1860. و أما المظهر التشريعي فهوأنه منذ آخر القرن السادس عشر (1593) وضع استثناء لهذا الحظر في أموال القاصرين(2) فصار يباح تثميرها بالربا باذن من القاضي. أما الضربة القاضية التي وجهت الى هذه النظرةالدينية فقد حملتها اليها الثورة الفرنسية حيث احتضنت المذهب المعارض وجعلته مبدأ رسمياً منذ قررت الجمعية العمومية في الأمر الصادر بتاريخ 12 أكتوبر سنة 1789 أنه يجوز لكلأحد أن يتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون.
بلاد العرب قبل الاسلام:
لم يكن قد بقى لعرب الجزيرة في الجاهلية من التراث الديني الذي تركه جدهم، أبوالانبياء، ابراهيم (عليه السلام)، الا آثار قليلة لا تخلو من التحريف. ولذلك (1) انظر پانكال في مراسلاته الاقليمية، الخطاب الثامن Pascai LesProvinciales(2) قارن هذا بالرخصة التي أخذت بها المحاكم في عهد الدولة العثمانية، اعتماداً على الفتوى الواردة في كتب الحنفية./ صفحه 380/