الشخصية المحمدية
تحت ضوء المقررات النفسية الحديثة - منزلة العلمفي الإسلام
لحضرة صاحب العزة الكاتب الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي بك
مدير مجلة الازهر
أثبتنا في المقال الذي تقدم هذا، ما شرح به النبي (صلى الله عليهوسلم)آية الفطرة الدينية، وبينا الآفاق العالية التي جال فيها فهمه القويم، في تحديد هذا المعنى الخطير الذي أصبح الأساس العلمي الركين للدين في الفلسفة الحديثة. ولكن الأوهام المتغلبة كثيراً ما تشتبه بالشعورات الفطرية، وتجد لدى مروجيها ما تستند إليه من الأهواء الموروثة، فما الذي يفرق بين ما هو هوى موروث، وما هو ميل فطري فيالنفس كسائر ميولها الفطرية ؟ لا شئ غير العلم، العلم المستند إلى الحقائق الطبيعية، وهذا هو ما عمد إليه محمد (صلى الله عليه وسلم)فشرع يدعو إليه في ألوان منالتعبير، وضروب من التحضيض، لم تؤثر عن غيره إلى عهده في العالم كله، فأما بلاد العرب فإن هذه الدعوة لم تؤثر فيها عن أحد غيره، وكانت غريبة لدى قوم ظلت الأمية صفة مميزةلهم قرونا كثيرة، وأما في أوروبا حيث نشأت الفلسفة اليونانية، والمدنية الرومانية، فان التعصب للدين في ذلك العهد كان آخذا بمخنقها إلى حد عادى معه أهلها العلم،واعتبروا المشتغل به والداعي إليه زنديقاً، وبقيت هذه الحالة قائمة إلى نحو القرن الخامس عشر الميلادي، وما زالت تشتد حتى كانوا يحرقون المشتغلين بالعلم، ويمثلونبأجسادهم وقد أحصى متأخرو المؤرخين ضحاياه فبلغوا اكثر من ثلاثمائة ألف في نحو ثلاثة قرون !.
/ صفحه 255/فهذه الصيحة بالعلم كانت لا تجد لها صدى الا لدىأتباع محمد (صلى الله عليه وسلم)في بلاد العرب، التي كانت لا تمت إلى مصادر العلم بسبب، وقد أثمرت ثمرتها قال العلامة (دريبر) المدرس بجامعة (هارفارد) بالولاياتالمتحدة الامريكية في كتابه: (المنازعة بين العلم والدين):
'''' إن اشتغال المسلمين بالعلم يتصل بأول عهدهم باحتلال الاسكندرية سنة 638 أي بعد وفاة محمد بست سنين، ولم يمضعليهم بعد ذلك قرنان حتى استأنسوا بجميع الكتب العلمية اليوناينة، وقدروها قدرها الصحيح، الخ ''''. وأنت خبير أن المسلمين انتهت إليهم بعد ذينك القرنين زعامة العلم وفيالعالم كله، وكانت مدنهم في اسيا وأوروبا مثابة للأمم كافة يقصدها مريدو الاستفادة من سائر بلاد العالم، فيشركونهم فيما حصلوا عليه من أنوار المعارف، ليخرجوا بلادهمالأوروبية من ظلمات الجهل، وقد شهد علماء أوروبا وفلاسفتها أن بلادهم مدينة للمسلمين بعلومها وفلسفاتها وصنائعها، وهي شهادة تؤيدها الاسانيد التاريخية، والكتبالمترجمة عن العربية التي لا تزال ماثلة في مكاتباتهم، والتي لا يزال بعضها يدرس في جامعاتهم إلى اليوم.
ليس غرضنا هنا ان نبين مدى تأثير العلوم التي أقام دولتهاالمسلمون في مدنية اوروبا، وإنما مقصدنا أن نجلي الفطرة العلوية للشخصية المحمدية التي اصطفاها قيم الوجود للقيام بخاتمة الأديان الالهية.
إني أستطيع ان أؤكد ـوعهدة هذا التأكيد على ـ أن العلم لم يجد داعياً إليه، ومحببا فيه، في جميع بلاد العالم من أول عهد الناس به إلى يومنا هذا مثل ما وجده في محمد (صلى الله عليه وسلم). ذلكلأنه أدرك لسمو فطرته، أن العاطفة الدينية المجردة في العلم، قد تستجيب لباطل مموه، وقد تصبو لهوى مزخرف، وقد يدعوها حب البحث إلى الخوض في الشئون العلوية، فتتردى فيمهاوي الضلالات وتجمد عليها، وأنت خبير أن الأديان السابقة على الإسلام قد خرجت بتحريف الجاهلين عن صُرُطها القيمة، بل استحالت إلى وثنية بحتة، ويريد الحق أن
/صفحه 256/يحفظ للإسلام طابعة الالهي، ولا يتاتى ذلك الا إذا أحيط بسياج من العلم، وتجلى كل هذا على حقيقته لمحمد (صلى الله عليه وسلم)فكان باعثا قويا له علىالدعوة اليه، في ألوان شتى من البيان، فكان مما أثر عنه أنه قال: (أطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلبة فريضة على كل مسلم) وهذا أول تصريح لداعية ديني بأن يستنفد الإنسانوسعه لطلب العلم حتى لو كان لا سبيل إليه الا بالانتقال إلى ابعد بلاد العالم.
وانظر إلى قول محمد (صلى الله عليه وسلم): (ليس مني الا عالم أو متعلم)، وقوله: (كنعالماً أو متعلما ولا تكن الثالثة فتهلك). تجده يجرد من الانتساب إلى الدين، الجاهل الذي رضى بجهله فجمد عليه، وينذر بالهلاك، من اكتفى بالدخول في الإسلام وأهمل ان يزدادعلما.
ومن أعجب ما يؤثر عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو قول يدل على غاية لا تدرك من سمو الادراك، وعلى بعد في النظر ليس بعده مرمى، قوله: (من ظن ان للعلم غاية فقدبخسه حقه، ووضعه في غير منزلته التي وضعه الله بها حيث يقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). فلعمري إذا كان هذا القول حقاً، وهو حق لا مرية فيه، فهو ليس من مدارك أمة لقبتبالأمية، ولا من حظ بلاد ليس بها أثارة من علم، بل ليس من مألوفات الأمم كافة في عهد عرف قادته بمحاربة العلم، والحط من سمعته في سبيل ترويج مزاعمهم الدينية.
هذا ولميغفل محمد (صلى الله عليه وسلم)وجها من وجوه الحث على الاستزادة من العلم الا اتى به. من ذلك قوله: (ليس الحسد والملق من خلق المؤمن الا في طلب العلم).
ولما خشى أنيطغى الميل إلى العبادة على الميل إلى العلم، صرح بأن طلب العلم من أجَل حزوب العبادة، وأكثرها ثواباً، فقال: (مجالسة العلماء عبادة) وقال: (العلم أفضل من العبادة وملاكالدين الورع). وقال في رفع أقدار العلماء، والاشادة بكرامتهم: (بين العالم والعابد سبعون درجة). ومن هنا اخذ ابن عباس رضي الله عنه تفسيره لقوله تعالى: (يرفع الله الذينآمنوا منكم والذين
/ صفحه 257/أوتوا العلم درجات '''' قوله انها سبعون درجة، أي ان درجة العلماء ارفع من درجة المؤمنين غير العلماء سبعين ضعفاً. وقال (صلىالله عليه وسلم)ـ وهو قول لا يتذوقه الا من عرف أثر العلم في بناء الامم وفي تقويم أمورها ـ: '''' لموت عالم أيسر من موت قبيلة). أي أن المجمع ينكب من موت عالم أكثر مما ينكبمن موت قبيلة، وهذه غاية لا تدرك في تعظيم شأن العلم.
فلا غرو بعد كل هذا أن يندفع المسلمون في طلب العلم اندفاعا لم يؤثر عن امة قبلهم، فحذقوا كل ما كان شائعا منه بعدأن ترجموه إلى لغتهم، ولم يقفوا عند هذا الحد بل نقبوا عن مصادره في المكتبات الاجنبية فأخذوا منها كل ما وجدوه لليونايين والسريانيين وغيرهم وترجموه إلى لغتهم وتدارسوهبهمة لا تعرف الملل حتى اتقنوه وعملوا به وزاردوا مادته ثروة، واكتشفوا علوما جديدة سجلت لهم في صحائف الخلود. كان هذا كله بركة العبقرية المحمدية التي تجلت في شخصيتهالكريمة تجليا لم يحفظ مثله لرجل غير من الناس أجمعين.
إلى الكاتب الكبير فريد بك وجدي:
جاء في مقالكم القيم (لا خلاف في الدين الحق) الذي نشر بالعدد الأول من هذهالمجلة: (أن الحدود والفاصلة بين الفرق الإسلامية ستزول لاشتغال العقول بالعلم الذي يجب ان تتألب جميع العقول البشرية لدفع خطره عن العقول الشرقية وان الله لو وفقنالصيانة الإسلام منه نكون قد أدينا للإسلام خدمة … الخ). وقد كانت هذه الفقرات من المقال موضع نقاش طويل في بعض الاندية العلمية شأن جميع ما يكتبه ا البحاثة المدققفريد وجدي بك، فهل يتفضل أستاذنا الجليل ببيان: ما هو العلم المقصود ؟ وما خطره على العقول الشرقية ؟ وعلى الإسلام دين العلم والعقل ؟ وكيف يمكن أن تتألب لدفع هذا الخطر(جميع العقول البشرية) ومن بينها العقول القوامة على إزجاء هذا الخطر ؟
محمد فؤاد السيد المدرس بالأزهر