شریعة الاسلامیة و القوانین الوضعیة بمصر (3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شریعة الاسلامیة و القوانین الوضعیة بمصر (3) - نسخه متنی

علی علی منصور

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الشريعة الاسلامية و القوانين الوضعية بمصر

لحضرة الاستاذ على على منصور

رئيس الدائرةالاولى بمحكمة القضاء الادارى بمصر

محصل ما سلف نشره من أبحاث هذا الموضوع:

أسلفنا أن البحث الاول كان في أن الشريعة الاسلامية هي الاصل الاصيللكل تقنين و تشريع في مصر، و أن الدستور المصرى يقر هذا النظر، و لقد تفضلت المجلة مشكورة بنشره في العدد الثالث من السنة الرابعة ص 26.

و كان البحث الثانى في أنالتزامات مصر الدولية لا تحد من سيادتها و بالتالى لا تحد من سيادة الشريعة الاسلامية فيها و قد تفضلت (رسالة الإسلام) بنشره في العدد الرابع من السنة الرابعة ص 403 و مابعدها.

و كان البحث الثالث و الاخير في الرد على دعوى عدم صلاحية أحكام الشريعة الاسلامية لكل زمان و مكان. و الكلام فيه من أبواب:

الباب الاول: فيصلة الشريعة الاسلامية بما قبلها من شرائع و على الاخص القانون الرومانى.

و الباب الثانى: في مصادر الشريعة الاسلامية بايجاز، وفى أن الاجتهاد و هو أحدمصادرها وسع كل تطور تشريعى. و قد تفضلت المجلة بنشره أيضاً في العدد الاول من السنة الخامسة.

و هذا هو الباب الثالث من البحث الثالث:

البحث الثالث:

الباب الثالث: في مقارنة بعض أحكامه الشريعة الاسلامية ببعض أحكام القوانين الوضعية التي تسود البلاء في هذه الاونة، من دستورية الى ادارية، الىمدنية، الى جنائية، مع اظهار ما عليه القواعد الشرعية من سمو و شمول و دقة و احكام، و اتسامها دائماً بالجدة و ملاءمة أحكامها لكل حضارة ولكل بيئة و لكل زمان و مكان.

لست أبغى بهذا البحث أن آتى على جميع أحكام الشريعة الاسلامية فأقارن بينها و بين جميع القوانين الوضعية حتى يبدو للناس ما في تراثنا التشريعى من جمال و جلال و عظمة،اذ أن ذلك عمل ضخم دونه جهود جماعات من علماء الثقافتين ممن تهيأت لهم أسباب هذا النوع من الدراسة المقارنة، و قليل ما هم، و لفترات قد تبدو من أعمارنا طويلة ولكنها فيأعمار الامم و الحضارات ضئيلة و انما الذي قصدت اليه هو أن أضرب الامثال، فتحاً للباب، و استنهاضاً للهمم و تقديماً للاسوة و الله المستعان و هو ولى التوفيق.

درج فقهاء القوانين الوضعية على تقسيمها الى قسمين عامين:

(أولا) القانون العام: و ينتظم (1) القانون الدستورى (2) القانون الادارى (3) القانون الدولى.

(ثانياً) القانون الخاص: و ينتظم(1) القانون المدنى - و التجارى (2) قوانين العقوبات (3) قوانين الاجراءات و منها قانون المرافعات و قانون تحقيق الجنايات.

و بدأتالتشريعات الاجتماعية تتميز في العصر الحديث بذاتية خاصة لتكون قسماً ثالثاً و سأسير على النهج في سرد الامثال و المقارنات.

الشريعة و القوانينالدستورية:

(1) مكانة رئيس الدولة:

عمدت جميع الدساتير التي وضعت في مختلف الامم في القرن الماضى و شطر القرن الحاضر على أن ترتفع برئيس الدولةملكاً كان أو رئيساً للجمهورية عن

المسئولية، فجعلت منه انساناً فوق البشر، أو على حد تعبيرها فوق القانون، و ذلك على الرغم من حرص كل تلكالدساتير على النص على حقوق الافراد، و أهمها المساواة في الحقوق و الواجبات و أنهم جميعاً أمام القانون سواء، و لعمرى إنها لمساواة ناقصة لا تتسامى الى تلك المساواةالحقة الكاملة التي كفلتها الشريعة الاسلامية لجميع الناس حاكمين و محكومين، و اليك قبساً من هذا النور هو بعض نوافح الامثال و روائع الاثار.

وقف النبى



(صلّى الله عليه و سلّم)

بين قومه يوماً يقول: من كان له علىّ حق أو ذنب فليطالب به، فقد أغفل

عن بعضه، فقام اليه أعرابى و قال: لقد نلتنى بضربة من درتك وأنت تسوى الصف عند ما كنت تهيئنا للغزو، فقدم اليه الرسول الدرة و كشف له عن جسده الشريف و قال له: اقتص منى يا هذا فالحياة قصاص، فقبّل الرجل جسد الرسول و قنع بذلك مؤملاأن يجنب الله فمه عذاب النار بعد أن لامس جسد رسول الله أفريت كيف أن رئيس الدولة سوّى بين نفسه و جميع أفراد أمته في المسئولية الجنائية، ثم أما سمعت أنه قد جاءه صاحب دينفطالبه به و أغلظ له الكلام، فهم به بعض الصحابة فنهاهم النبى و قال ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالا هلامع صاحب الحق كنتم، لا قدّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها و لايتعتعه)) .

صحيح أن الدساتير الوضعية بقوانينها جوزت مقاضاة الملك و رئيس الدولة أمام المحاكم في الامور المدنية فحسب، ولكنها حفظت للملك حق التعالى على مجلسالقضاء بحيث يوفد الى المحكمة من يمثله، و ينيب عنه من يرفع الدعاوى باسمه، و من ثم وجدت النظرية القانونية (لايجوز لانسان أن يتقاضى بوكيل الا الملك) فكانت صحف الدعاوىالمدنية تقدم الى المحاكم في بلادنا باسم ناظر الخاصة الملكية وما كان يجوز ان يطلب الخصم استدعاء الملك أمام القضاء ليناقشه أو ليوجه اليه اليمين الحاسمة مثلا; أين ذلكمن العدالة المطلقة و المساواة الكاملة في الشريعة الاسلامية، فلا ملك و لا مملوك، بل الكل أمام الله و القانون سواء، و لقد كان

/ صفحة 155/

خلفاء رسولالله يمثلون في مجلس القضاء اذا ما دعوا، و كان القضاة يسوّون بينهم و بين خصومهم في الخطاب و طريق التداعى و في المجلس، فهذا عمر بن عبدالعزيز خليفة المسلمين يذهب الىالمجلس القضاء حين قاضاه المصرى يطلب أرضاً بحلوان فأذن القاضى - بعد أن أجلس الخصمين أمامه - للمصرى بالكلام أولا اذ البينة على من ادعى، و لم يتلكم الخليفة الا بعد أنأذن له القاضى، ثم قضى للمصرى، فقال عمر: ان أبى أنفق عليها ألف ألف درهم في الاصلاح فيقدر القاضى غلة الارض و يجعل الربع في مقابل الاصلاح.

و هذا أبو جعفرالمنصور يقاضيه أحدهم أمام قاضى المدينة، فيكتب القاضى للخليفة بالحضور، فحضر و أمر القاضى جلساءه ألا يقوموا للخليفة عند دخوله.

و هذا المأمون يقاضيه أحدأفراد رعيته لدى القاضى فينتظر حتى يجىء دوره فينادى عليه الحاجب فيدخل، فيطرح بعض أفراد الحاشية مصلى ليجلس عليها الخليفة، فيقول القاضى: يأميرالمؤمنين لا تأخذ علىخصمك شرف المجلس.

و أمر فطرحت مصلى أخرى ليجلس عليها الخصم مساواة له بالخليفة.

و لعل أروع ما نختتم به الحديث في هذه الناحية ما كان منأميرالمؤمنين عمر ابن الخطاب لعلى بن أبى طالب حين قاضاه اليهودى و رآه عمر جالساً فقال له فم يأبا الحسن و ساو خصمك، و بعد أن قضى بينهما لاحظ شيئاً من الالم في وجه على، وظن عمر أن علياً تألم لامره بالوقوف فسأل علياً فقال لا، بل ان ألمى لانك لم تسوّ بينى و بين خصمى فانك اذ ناديتنى كنيتنى و قلت يأبا الحسن، و لم تكن خصمى بل ناديته باسمهمجرداً، فلم تسوّ بيننا.

(ب) الحريات العامة في الشريعة الاسلامية و في الدساتير الوضعية:

كفلت الشريعة الاسلامية لبنى الانسان حريتهم الشخصيةبأوسع مما خطر على بال واضعى الدساتير العصرية، و اليك بعض الامثال:

الحرية الشخصية: كتب عمر الى أحد و لانه يقول متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم امهاتهمأحراراً.

/ صفحة 156/

حرية الفكر: قال تعالى ((قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق، و لم يحد من هذه الحرية المطلقة سوى قول الرسول: (لاتفكروا في اللهفتضلوا و تفكروا في خلق الله)) .

حرية القول: و هي جماع ما عرفته الدساتير الحديثة من حرية الكلام و حرية الخطابة، و حرية الكتابة و حرية النقد، فقد أمرنا اللهأن نصدع بالحق و نأمر بالعدل و الاحسان، و ننهى عن المنكر و البغى، و نحاج باللين و المنطق، و ندعو الى ما نعتقد بالحكمة و الموعظة الحسنة، و لا نقر ظلماً، و لا نسكت علىضيم أو خسف، كل ذلك ذلك دون أن نقول زوراً، أو نفترى بهتان، أو نعصى الله و هذا أبوبكر يقول للناس في أول خطبة له عند ما ولى الخلافة (أطيعونى ما أطعت الله فيكم)) و هذا ثانىالخلفاء عمر الفاروق يخطب فيقول (من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه)) فرد عليه واحد من عامة الناس (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف) فحمد الله على أن جلع فيالامة من يقوّم اعوجاج عمر بحد السيف و هو الذي خطب الناس يحثهم على الاقلال من المهور، فتقول له امرأة من آخر المسجد (ليس ذاك يا عمر ايعطينا الله بالقنطار و تعطينابالدينار) فلم يحفل من مقاطعتها و قولها، بل قال: أصابت امرأة و أخطأ عمر... و هو الذي كان يمشى في المدينة فلقيته عجوز فاستوقفته، و أخذت تملى عليه ارشاداتها و تنبهه الى ماتراه حقاً و أوصته بالعدل في الرعية، فما تولاه منها برم، و لا أزعجه منها نقد.

حرية العمل: و هذه تنتظم أكثر ما وسعته الدساتير الوضعية من حرية الاجتماع فقدنهى النبى عن الاجتماع الى قوم في مجلسهم من غير اذن منهم، و عن الجلوس بين اثنين بغير رخصة منهم. و كذا حرية المسكن، فحرمته مصونة في الإسلام، ((لاتدخلوا بيوتاً غيربيوتكم حتى تستأنسوا)) ((و ان قيل لكم ارجعوا فارجعوا)) و نهى الرسول عن النظر الى الجيران من منافذ منازلهم (من نظر الى كوّة جاره فانما ينظر في النار) (من تتبع عوارت الناستتبع الله عوراته، و من تتبع الله عوراته فضحه و لو في عقر داره). حتى حرية اللباس، فقد حفظها الإسلام

/ صفحة 157/

للناس في حدود هي الكمال، خشية الفتنة والضرر، فللرجل أن يلبس ما يشاء ما لم يكشف عورة.

و يكره الإسلام للرجل الترف، فيحرم عليه لبس الحرير و التختم بالذهب، و لا يكرههما للمرأة، و لها أن تتخيرملابسها كما تشاء بشرط أن تكون سائرة للعورات، لا تشف و لا تفسر، فهى ان شفت عما تحتها أو كانت من الضيق بحيث تفسر تقاطع جسم المرأة، فهى بمثابة للكشف عن العورات و هوحرام.. و منها أيضا حرية التنقل، بل ان الهجرة و التنقل مأمور بها في الإسلام ((هو الذي جلعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلو من رزقه)) ((قل سيروا في الارض )) ((قالواكنا مستضعفين في الارض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)) .

حرية العقيدة: أمرنا الإسلام أن ندع أهل الاديان الاخرى، و نضمن لهم حرية اقامة شعائرهمو عباداتهم مقابل أن يدفعوا الجزية، و هي شبيهة بالضرائب التي يدفعها لخزانة الدولة المواطنون من ذوى الاديان الاخرى، بل أمرنا أن ندع لهم الحرية في أحوالهم الاجتماعيةو الاقتصادية، و أن لا نقيم عليهم من الحدود الا ما كان خاصاً بحقوق المعباد، أما ما كان خاصاً بحقوق الله فأمره الى الله

و ألا نجادلهم في دنيهم مجادلة تخرج عن الرفقبهم، و تفضى الى اساءتهم ((و لا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتى هي أحسن)) ((و انا أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) .

و لقد ظن بعض المشرعين الحاليين أن هذهالحرية: حرية العقيدة تتسع للمسلم في أن يرتد عين دينه، و لقد فندنا هذا الزعم الخاطىء في البحث الاول الذي نشر في مجلة (رسالة الإسلام) بالعدد الثالث من السنة الرابعة ص 260و ما بعدها. و في البحث الثانى الذي نشر في المجلة نفسها فى العدد الرابع من السنة الرابعة ص 403 و ما بعدها.

بل ذهب الإسلام في تقديس حرية العقيدة الى أن أمرنا أننعامل المجوس كما نعامل الكتابين في هذا الصدد، فقد جاء في حديث علىّ عن النبى



(صلّى الله عليه و سلّم)

أنه قال: (سنّوا بهم سنة أهل الكتاب).

/ صفحة 158/

الشريعة الاسلامية و القانون الادارى:

(ا)نظرية الصالح العام:

من أهم النظريات الحديثة في القانون الادارى أن جميع تصرفات الحكام يجب أن ترمى الىرعاية الصالح العام: صالح الجماعة، من ايصال الحق أو دفع الباطل، و فرعوا على ذلك بطلان تصرفات الحكام و لو كانت موافقة للقانون من ناحية الشكل و الموضوع اذا ما انحرفالحاكم بسلطانه و بال

قانون عما أعد له، العيب الذي يشوب مثل هذه التصرفات و يبطلها هو عيب اساءة استعمال السلطة، و مما فرعوه على ذلك أيضاً اهدار المصلة الشخصية فيسبيل رعاية المصلحة العامة، و هذه النظرية قديمة عريقة في القدم في الشريعة الاسلامية، و يسميها فقهاؤنا: (باب رعاية المصلحة) و في كنف هذه النظرية و استعمالا لها عطل عمربعض الحدود عام المجاعة ((كيف يقيم حد السرقة مثلا على جائع كادت تهلكه المجاعة فسرق لدفع الهلكة عن نفسه، لا ضرر و لا ضرار في الإسلام، و الضرورات تبيح المحظورات، و قدفعل مثل ذلك مقتدياً بسنة رسول الله



(صلّى الله عليه و سلّم)

سعد بن أبى وقاص حين كان يقود المسلمين في حرب القادسية، اذ كان قد قيد أبا محجن توطئة لاقامة حد شربالخمر عليه و هوالجلد، و لما كان أبو محجن قد أبلى بلاء حسنا في تلك الحملة راجع سعد نفسه و رأى من الصالح العام أن يعفو عنه و قالته في ذلك معروفة: ((لا و الله لا أضرب اليومرجلا أبلى الله على يديه للمسلمين ما أبلى)) و أطلقه، فنظر أبو محجن في أمر نفسه و تاب عن شربها و قال: ((كنت أشربها حيث كان الحد يقام علىّ، و اطّهر منها و من اثمها. أمااليوم فو الله لا اشربها ابدا)) .(ص 27 الخراج)

(ب) ولاية الوظائف العامة حق سواء للكفاة القادرين الصالحين:

لا محسوبية و لا قرابة و لا غرض و لاهوى و لاحزبية:

و هذا الرسول الكريم يضرب أروع الامثال في ذلك، فقد ذهب الى عمه العباس و هو من هو بلاء و ذوداً عن حياض النبى و عن الإسلام، فهو الذي سمع

/صفحة 159/

يوما أن أبا جهل آذى ابن اخيه محمداً



(صلّى الله عليه و سلّم)

و أفحش له القول، و لم يكن العباس قد أسلم بعد، فذهب من ساعته الى حيث كان ابوجهل و رد لهالشتم صاعاً بصاع، و ضربه في رأسه بالقوس فشجه شجاً عميقاً و تركه بين الناس أشد مايكون مهانة. ذهب هذا العم المجاهد الى الرسول يطلب منه أن يوليه ولاية فنظر النبى فرأىالمصلحة ألا يولى العباس هذه الولاية، فلم تشفع لديه عمومة العباس و لا سابق فضله لان الامر يمس صالح المسلمين عامة، فقال له: ((يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها)) وفي حديث آخر لمسلم عن أبى ذر أنه ذهب الى رسول الله طالبا منه أن يعينه عاملا على احدى الولايات، و جرى الحديث بينهما على هذا النسق، قال أبوذر: قلت يا رسول الله ألاتستعملنى؟ فضرب بيديه على منكبى ثم قال: ((يأباذر انك ضعيف، و انها لامانة، و انها يوم القيامة لخزى و ندامة الا من اخذها بحقها ووفى الذي عليه فيها أوَ سَمِعْت اروع من ذلكان ولاية الوظائف العامة في الدولة امانة في يد الخلفاء و الوزراء وكبار الحكام لا تعطى الا للاقوياء، و كان أبوذر أضعف من أن يحمل هذه الامانة التي سيسأل عنها يومالقيامة و لن يجد ثم سوى الخزى و الندامة لانه بضعفه لن يؤديها خير الاداء و هكذا بصّره النبى بمستقبل أمره، و حال بينه و بين تلك الوظيفة العامة التي يجب أن نترك لمنيأخذها بحقها، أى و هو مستحق لها، قادر على أن يوفّى ما عليه فيها من واجبات، و جاء في مسند أحمد أن رسول الله قال في هذا الشأن: (من ولى من أمور المسلمين شيئاً فأمّر عليهمأحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلا) أرأيت كيف أن مجرد تعيين موظف عام عن طريق المحاباة دون كفاية كاف لان يحبط عمل من ولاه، وزيراً كان أورئيساً فلا يقبل الله منه شيئاً، فهو ملعون مطرود من رحمة الله

و لقد روى أن بعض الخلفاء طلب اليه أن يزيد في راتب أحد العمال فانتهر محدثه و قال: أو ما سمعت أن رسولالله قال: (الرجل و قدمه و الرجل و عمله) هذه قواعد الترقية في الوظائف العامة، قد سنها الرسول و رتبها بحسب الاقدمية و الكفاية منذ نيف و ثلثمائة و ألف عام.

/صفحة 160/

(ح) نظرية الخطأ الشخصى و الخطأ المصلحى:

حاصلها في عرف القانون الوضعى الادارى ان الموظف العام ((اذا ارتكب خطأ أو خطيئة خارج نطاق عمل وظيفته،فهذا خطأ شخصى يسأل عنه وحده دون مسئولية على الجماعة أو الدولة، و كذلك الحال اذا أتى خطأ و لو وقت عمله الوظيفى، و كانت القوانين و اللوائح تحرم عليه اتيانه ـ اما اذاارتكب امرأ تحت مظنة ان القوانين واللوائح في نصوصها تتسع له أو كان الخطأ قد وقع منه سبب أعمال وظيفته، و أثناء قيامه بتلك الاعمال، فهذا خطأ مصلحى تسأل عنه الحكومة أوالدولة منفردة في بعض الاعمال، و مشتركة بالتضامن مع موظفها المخطىء في بعض الحالات الاخرى.

و منشأ هذه النظرية الاسلام منذ صدره الاول، فقد كان أبوبكر يحمّلبيت المال (خزانة الدولة) تضمين أخطاء عماله في سبيل قيامهم بواجبات وظائفهم، و ذلك أن القائد خالد بن الموليد لما قتل متمم بن نويرة خطأ لم يؤاخذه أبوبكر وودى القتل منبيت المال (دفع دينه) و ذهب عمر بن الخطاب الى غير ما رأى ابو بكر، فكان يقتص من عماله و يحملهم دون بيت المال مسئولية جميع أخطائهم، و كان يقول في ذلك (انى لم آمرهم بالتعدىفهم أثناءه يعملون لانفسهم لالى).

(د) نظرية الضرورة:

كثر الحديث عن هذه النظرية في هذه الايام، و يكثر الحديث عنها كلما أعوز المشرعين النصوصالاهلية في الدساتير الوضعية لمواجهة حالات طارئه تحتاج الى تشريع خاص فرجعوا بذلك الى أصلها في الشريعة الاسلامية، فهى أسبق التشريعات في اقرار هذه النظرية، وعليهافرع فقهاء الشريعة قواعدهم المعروفة (الضرورات تبيح المحظورات) الضرورة تقدر بقدرها).

و القاعدة الاولى مستمدة من نصوص في القرآن، كقوله تعالى (فمن اضطرغير باغ و لا عاد فلا اثم عليه) و ذهب الاسلام في ذلك الى أبعد الحدود حيث

/ صفحة 161/

أباح للمسلم أن ينكر اسلامه و يوالى غير المسلم عند الضرورة، فقالالله تعالى:

((الا من أكره و قلبه مطمئن بالايمان )) و من ذلك ما روى من أن رجلا جامع زوجته في رمضان و هو صائم فطلب النبى منه أداء الكفارة، و هي اطعام ستين مسكيناً،فاذا هو فقير لا يستطيع ذلك، فأتاه الرسول بزنبيل فيه تمر مهدى اليه و قال له تصدق به، فقال الرجل: انى أحق به من غيرى، فليس في المدينة من هو أفقر منى، فأجاز له النبىأكله، و جعل ذلك كفارة له نظراً لضرورة التي تلبس بهاالرجل.

و من الحالات التي احترم الإسلام فيها الضرورة، أنه رسم للصلاة نظاماً و رخص في السفر الذي هو مظنةالمشقة بقصر الصلاة الرباعية الى ركعتين فقط، كما أباح جمع صلاتين في وقت واحد في حالة ضرورة معينة و شروط بعينها، فتصح صلاة العصر مجموعة الى صلاة الظهر في وقت الظهر، وبعض المذاهب الفقهية يتوسع في ذلك فلا يقيده بحالات معينة، و الصلاة لايدخلها الا متوضىء و عند الضرورة و عدم وجود الماء أو عدم القدرة على استعماله. استعيض عنه بالتيمم،و كم من حرمات حرمها الإسلام في السعة و أباحها عند الضرورة، كأكل الميتة و لحم الخنزير.

ولكن فقهاء الشريعة الاسلامية لم يدعواالامر على اطلاقة، فكما قالواان الضرورات تبيح المحظورات، قالوا: ان الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، حتى لايجرؤ الناس على الاستهانة بأحكام الشريعة، و لذلك كان بعض العلماء لايبيح التيمم لبرودة الماءبرودة عادية، اذ لم يعتبروها ضرورة، و انما ضبطوا الامر بأن يؤدى ذلك الى مرض المتوضىء أو تأخر برئه.

(هـ) جريمة الستغلال النفوذ و بعض العقوباتالتأديبية:

كتب عمر بن عبدالعزيز خليفة المسلمين الى عماله و ولاته على الامصار يحرم عليهم استغلال نفوذهم أو سلطات وظائفهم لجر مغنم أو نفع شخصى و الكتابطويل منه: ((و نرى ألا ينجرّ امام و لا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه

/ صفحة 162/

فإن الوالى متى يتجر يستأثر و يصب أموراً فيها عنت مهما حرص على أنلايفعل)) .

و قد بدأ عمر بن عبدالعزيز بنفسه ليكون أسوة للعمال و الولاة، فلما وصله الرطب من أمير الاردن، و علم أنه جاء على دواب البريد، أمر ببيعه و جعل ثمنهفي علف تلك الدواب; و لما وفد عليه البريد ليلا جلس الى عامله يسأله أخبار الرعية في ذلك القطر النائى، حتى اذا انتهى من تصريف أمورها و بدأ العامل، و كان من ذوى قرباه يسألعمر عن حاله و حال عياله، قام الى الشمعة فأطفأها، و أمر غلامه بالسراج فأوقده لان الشمعة من بيت المال فوجب أن ينتهى عملها بانتهاء أعمال الدولة; و قدّم هذا الوالى الذييمت لعمر بصلة القربى تفاحات استقدمها من الشام، فأبى أن يقبلها، فقال له عامله: لقد كان رسول الله



(صلّى الله عليه و سلّم)

يقبل الهدية، فقال عمر: هي لرسول اللههدية و لنا رشوة فلا حاجة لى بها; و لقد تشدد عمر في أن يبعد عن نفسه و ذويه كل شبهة من شبهات استغلال النفوذ مهما ضولت، فعند ما ولى الخلافة نزل عن جميع ما ورث و وضعه في بيتمال المسلمين، و قدر ذلك بخسمة و عشرين ألف دينار، و ذلك خشية أن يكون من ورّثوه هذا المال من الخلفاء لم يتحروا فيه الكسب الحلال المحض، و لم يبق عمر لنفسه سوى أرضبالسويداء كان قد كسبها بجهده قبل أن يتولى أمر المسلمين ثم عمد الى حلى زوجته التي زفت اليه بها، فوضعها في بيت المال و قال لها: (أنا ما علمت حال هذا الجوهر و ما صنع فيهأبوك و من أين أصابه، فهل لك أن أجعله في أقصى بيت المال، و أنفق على المسلمين ما دونه، فإن خلصت اليه انفقته، و ان مت قبل ذلك فلعلهم يردونه اليك) فأقرته على ذلك، فلما ماتولى الخلافة بعده أخوها يزيد بن عبدالملك فهم برده اليها فأبت احتراماً لارادة زوجها و ابعاداً للشبهة عن نفسها.

و قصة عمر مع عمته معروفة، فقد وفدت اليه تشكومن أنه قطع عنها رواتبها الضخمة التي رتبها لها من بيت المال الخلفاء السابقون، فلما أتت داره اذا بين يديه أقراص من خبز و شىء من ملح و زيت يتعشى بها، فقالتيأميرالمؤمنين:

/ صفحة 163/

أتيت لحاجة لى، ثم رأيت ان ابدأ بك، قال: و ما ذاك يا عمة، قالت: لو اتخذت لك طعاماً ألين من هذا، فابتسم و قال: ليس عندى غيره ياعمة.

هذا و قد وسعت الشريعة الاسلامية ما نعرف اليوم بالعقوبات التأديبية التي توقع على الموظفين و الخدم، فمنها كما جاء في شرح الكنز للشيخ العينى ج 1: ص 234التوبيخ بالكلام العنيف و الانذار بعد الاعذار، و النظر اليه من القاضى أو الرئيس بوجه عبوس، و هو للخدم بالضرب الخفيف و بتعريك الاذان، و عن أبى يوسف أن التعزيز بأخذالاموال جائز، و هو ما يعرف اليوم بالغرامات التأديبية و خصم شىء من رواتب الموظفين عقوبة لهم.

(و) مجلس الدولة في الإسلام - دار الشورى في الاندلس:

الشورى أساس من أهم أسس جميع النظم في الدولة الاسلامية و مكانة أهل الصفة في زمن الرسول معروفة، و كان أبوبكر يلجأ الى الصحابة و العلماء ليستشير هم فيما غم عليه ان لميجد في الكتاب أو السنة نصاً، و زاد عمر على ذلك أن كان يسأل عن سابقة رأى لابى بكر قبل أن يشاور العلماء.

و أصل هذه القاعدة مرده الى القرآن ((و شاورهم في الامر)). ((و لو ردّوه الى الرسول و الى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبوطنه منهم)) و لكثرة العلماء و الفقهاء في عصور الإسلام الاولى لم يستدع الامر تدوين فتاواهم و آراءهم،فلما أن جاءت الدولة الاموية في الاندلس عنيت بأمر هذه الناحية التشريعية، و أنشأت مجلساً يسمى مجلس المشاورين، و كان العضو فيه يسمى (مشاوراً) و قد كملت عدتهم في زمنالناصر ستة عشر مشاوراً، منهم الفقيه أبو ابراهيم التجببى (الفكر السامى ص 114، و نفح الطيب ص 175 ج 1) و خصصت لهؤلاء المشاورين دار في قرطبة، كما قال صاحب كتاب قضاءالجماعة، وورد ذكرهم كثيراً في تراجم كبار الفقهاء كقولهم: كان فلان مشاوراً، و طلب فلان الى الشورى فأبى، وفي كتاب تبصرة الحكام درر من فتاوى مجلس المشاورين و هو أشبه ما يكون يمجلسالدولة في عصرنا الحاضر.

/ 1