إلى الديِّن من جديد
لحضرة صاحب المعالي السيد محمد رضا الشبيبي
رئيس المجمع العلمي بالعراق
اقتبست غيردولة واحدة من الدول الإسلامية نظمها الحديثة للحكم من الدول الغربية، فأصبح نظام الحكم في بعض هذه الدول الشرقية ديمقراطيا، وشكله نيابيا، ووضعت في كل بلد قواعددستورية عامة لا معدى عنها في الحكم ظاهراً، ومع أن هذه الدساتير المتبعة في بعض هذه البلاد الإسلامية تنص على أن الإسلام دين الدولة، فان سياستها العملية سارت على قاعدةفصل الدين عن الدولة، واقصائه عن المدرسة والمعاهد العلمية، حاذية في ذلك حذو كثير من الشعوب الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا، والواقع أن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الشرقوالغرب من هذه الناحية، فلما نودي في فرنسا وفي غير فرنسا بفصل الدين عن الدولة في العصر المعروف عندهم بعصر البعث، أو عصر النهضة، ولما اعتبر القوم في الغرب أن الدين منجملة القضايا الشخصية، أو هو رابطة خاصة تربط بين الخالق والمخلوق التفّت الشعوب الأوربية حول رموز أخرى يعتزون بها كما يعتزون بالدين، ومن ذلك رمز الوطن، ورمز الجنس،محاولين إحلال العقائد السياسية أو القومية أو الوطنية محل العقائد الدينية.
على هذا الأساس بني التعليم في فرنسا، وفي كثير من الدول الأوربية، وهو من جملة الأسسالتي بنيت عليها الحضارة المادية الحديثة، فنهضت أوربا نهضة قوامها الصناعة الآلية والعلوم التجريبية، وبذلك ارتفع مستوى الشعوب المشار إليها من حيث المعيشة، وبذلكأيضاً تم للغربيين السيطرة على العالم، واستغلال الشعوب الشرقية الضعيفة.
/ صفحه 46 /من ذلك يتضح أن عبارة الدولة والوطن حلت محل الدين في بعض الدول الغربيةفأردنا نحن أن نقلد الغربيين في ذلك، وحاولنا فصل الدين عن الدولة، وقاومنا التربية الروحية، ولكننا لم نجد إلى الان ما يحل محل الدين أو يغني غناء التهذيب الروحي، أويقوم مقامه، ولم تنصب لنا رمزاً مادياً من تلك الرموز التي نصبها الغربيون، فخسرنا ـ أو أوشكنا أن نخسر ـ الاثنين معاً.
لكل ثورة جامحة حد تقف عنده ثم تعتدل وتتزن،ولكل نزوة طائشة غاية ثم تثوب إلى رشدها، وتتراجع من غلوها وإفراطها، نادمة على كثير مما فرط منها، ولما ثارت أو ارتدت بعض هذه الدولة الشرقية عن الدين حاذية حذو بعضالدول الغربية توقعنا أن تندم يوماً من الأيام أو تعود إلى حظيرة الدين.
مرت بإخوان لنا في الجوار والعقيدة تجارب قاسية من هذا القبيل، وذلك في الفترة الواقعة بينالحربين العالميتين الأولى والثانية وهي فترة لا تقل مدتها عن خمسة وعشرين عاماً، وقد بلغت ثورتهم في هذه الفترة قمتها فألغيت الشريعة الإسلامية، والعادات الشرقية،وحظر التزيي بالأزياء العلمية، والكتابة بالحروف العربية، وأصبح شعارهم (وداعاً أيها الشرق) وهم يقصدون بذلك تجنب النظم والعادات والأخلاق المألوفة في الشرق واصطناع مايخالفها في الغرب، زاعمين أن تمسكهم بعقائدهم، كان عاملاً من عوامل انحطاطهم، وتخلفهم عن مجاراة الشعوب الناهضة.
لعل الحرب الأخيرة وما أسفرت عنه من حقائق وعبر، وماأملته على البشر من دروس، وما أعقبها من انتشار القلق الروحي، واستئصال الطمأنينة من النفوس غيرت آراء كثير من الناس في كثير من نظم الحياة المألوفة لدى الغربيينوالشرقيين على حد سواء، ولذلك نجد بعض هذه الشعوب الشرقية، تخشى الانحلال بعد أن تبلبلت فيها الآراء، وتغلغلت الفوضى، وتسرب إلى شبابها القلق ومالت ناشئتها إلىالانغماس في الفساد، وهذا الشعب الشرقي الذي نقصده شعب متدين وهو مدرب على الجندية، وقد ألف الخدمة في السلك العسكري، وتعوّد احتمال ما فيه من تقشف وخشونة، فلا غرو أنيشق عليه مروق كثير من شبابه، وتسكعهم
/ صفحه 47 /في دياجير التقليد، ولا عجب إذا أنكر من أنكر منهم، انحلال العقائد والإلحاد ولو بعد حين.
إن سلطان الدينعلى ضمائر الناس لا يقاوم، وأن الوازع الروحي لا يقوم مقامه وازع آخر في إصلاح النفوس وردعها عن الشر وتربيتها تربية قيمة.
لقد وضعت نظم اقتصادية واجتماعيةواشتراكية، قالوا: إنها تسعد البشر، وتنقذ الإنسانية، ثم اتضح أنها لم تهذب إلا مظاهر الإنسان ولم تنفذ إلى ما وراء ذلك، أما باطن الإنسان، فقد بقي فارغاً، لا يملؤه إلاوازع الدين، ولا يسيطر عليه إلا العقيدة بوجود خالق حكيم، ومن ذلك اتضح أن الوازع الظاهري أو المادي الذي يتمثل في سلطان الدولة من تشريعية وإجرائية وقضائية لا يتعدىتأثيره ظواهر البشر، ولا يتصل بالبواطن والسرائر، وهيهات أن يسد مسد الوازع الديني في الإنسان.
وثبت البشرية وثبتها المعروفة، وتقدمت إلى الإمام في العصور التي سارتفيها على هدى الشريعة الإسلامية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتمتعت في العصور المذكورة بقسط لا يستهان به من السعادة والطمأنينة، لم يحلم به في عصورنا الحديثةعصور النظم والديمقراطية والاشتراكية، ومن ذلك يتضح أن الإسلام شريعة خالدة، غير قابلة للنسخ كما قال مشرعها عليه أفضل الصلاة والسلام. وأن الباطل لا يأتيها من بينيديها ولا من خلفها قط.
لا شك أن العقيدة الإسلامية منيت بالمروق والعقوق من قبل كثير من أبنائها، وقد كثر سواد المفتونين والمقلدين من أبنائنا، وزاغوا عن الإسلام،بيد أن هؤلاء المقلدين والمفتونين لا يلبثون بعد ما مر بنا من العبر في الزمن الاخير أن يرجعوا إلى حظيرة الدين نادمين منيبين إلى الله. والخلاصة: أنه سيبقى الإسلامعاملاً فعالاً في حياة البشر يعمل على جعلها مثلاً أعلى في السمو والشرف والكمال.
وصلى الله على سيدنا محمد المرسل بهذه الشريعة الغراء صلاة نامية في شهر مولده وفي كلشهر وعام.