الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان
لحضرة السيد الأستاذ علي علي منصور مستشار مجلس الدولة لمحكمةالقضاء الإداري
البحث الثاني:
التزامات مصر الدولية لا تحد من سيادتها التشريعية، وبالتالي لا تجد من سيادة الشريعة الإسلامية فيها:
يلوّحالبعض في كثير من الأحيان بأن التزامات مصر الدولية قد تقف حجر عثرة في سبيل إكمال سيادة الشريعة الأسلامية على جميع سكان البلاد من مصريين وأجانب، وكان ضمن ما أثارهالدفاع عن البهائي في دعواء أمام مجلس الدولة أن ارتباطات مصر الدولية، وعلى الأخص ميثاق الأمم المتحدة، يحول دون تطبيق قواعد الردة في الشريعة الإسلامية على من يرتد عندينه من المصريين، إذ تلك الارتباطات كفلت لجميع أفراد العالم حرية العقيدة وحرية تغييرها وحرية الانتقال إلى أي دين أو ملة أو مذهب حديث أو قديم.
وقد رأيت أن لا أقصرالبحث في هذا الصدد على ميثاق الأمم المتحدة وحده بل يجب أن يمتد البحث إلى جميع العهود والمواثيق الدولية التي لا تزال مصر مرتبطة بها، وهي:
/ صفحه 404/
أولا:معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا سنة 1936.
ثانياً: وثيقة إلغاء الامتيازات الأجنبية بين مصر والدول صاحبه الامتيازات سنة 1937.
ثالثا: ميثاق الأمم المتحدةالذي وقعته مصر سنة 1945.
الوثيقة الأولى: على الرغم من أن مصر ألغت معاهدة الصداقة والتحالف التي كانت بينها وبين بريطانيا، فلكي يكون البحث شاملا فقد رجعت إلى نصوصهافلم أعثر بها على نص يقيد سيادة الدولة المصرية في التشريع، اللهم إلا بعض ميزات مؤقنة منحت لرجال الجيش البريطاني إبان وجوده في أرض الحليفة مصر وعلى الأخص في المنطقةالمعينة له وهي منطقة قنال السويس.
الوثيقة الثانية: وثيقة إلغاء الامتيازات الأجنبية التي وقعتها مصر والدول ذوات الامتيازات بمونتر سنة 1937.
انعقد مؤتمر إلغاءالامتيازات بدعوة من الحكومة المصرية في مونترو في أوائل عام 1937، وانتهى بتوقيع وثيقة الإلغاء وتنظيم اختصاصات المحاكم المختلطة في فترة الانتقال التي حددت باثنتي عشرةسنة، وكان توقيعها في 8 من ما يوسنة 1937 وبالرجوع إلى الوثائق الرسمية لمؤتمر بان لي أن المادة الثانية من الوثيقة هي التي تتصل بهذا البحث، وقد بدأت حياتها في الصفحة 95،حيث اقترح الوفد البريطاني أن تضاف إلى الانفاق مادة جديدة هذا نصها:
(يتعهد حضرة صاحب الجلالة ملك مصر ألا يطبق على الأجانب أي قانون لا يستقيم مع المبادئ التي أقرهاالتشريع العصري بصفة عامة، أو ينطوي على تمييز مجحف بالأجانب، ولا سيما فيما يختص بالقوانين ذات الصبغة المالية) وقد اشتد الجدل بسبب هذه المادة، وأخيراً قبلها الوفدالمصري على أن يكون حكمها موقوتاً بمدة الانتقال وبعدها تعود السيادة التشريعية للدولة المصرية كاملة في حدود أحكام القانون الدولي، وأحيلت إلى لجنة الصياغة لصياغتهافي ضوء
/ صفحه 405 /
المناقشات التي جرت بين ممثلي الوفود وعند ذلك حدد الأستاذ مكرم عبيد (باشا) وجهة النظر المصرية بقوله في ص 100.
أولا: يقبل الوفد المصريعدم التمييز بالتزام شرعي في فترة الانتقال فقط.
ثانياً: يجب أن يفهم عدم التمييز بالمعنى الذي يعرف به في القانون الدولي والذي أيده العرف الدولي.
ثالثاً: لا يصحأن يمس سيادة مصر التشريعية على أي وجه كان.
ومع هذه التحفظات يقبل الوفد المصري مختاراً المبدأ الذي ينطوي عليه التعديل البريطاني.
وانتهت المادة إلى الصياغةالآتية تحت رقم 2 وهي حسب ما ورد في الوثيقة التي وقعتها الدول: (مع مراعاة مبادئ القانون الدولي يخضع الأجانب للتشريع المصري في المواد الجانية والمدنية والتجاريةوالادارية والمالية وغيرها، ومن المفهوم أن التشريع الذي يسرى على الأجانب، لن يتنافي مع المبادئ المعمول بها على وجه العموم في التشريع الحديث ولن يتضمن في المسائلالمالية على الخصوص تمييزاً مجحفاً بالأجانب والشركات التي تكون فيها للأجانب مصالح جدية. والحكم الساق فيما لا يعتبر من قواعد القانون الدولي المعترف بها، لا يطبق إلاأثناء فترة الانتقال).
وحاصل ذلك أن الله وقى مصر شر الانزلاق إلى الموافقة على خدعة بريطانيا تلك الخدعة التي كانت ترمي إلى محو سيادة التشريعية إلى الأبد. وانتهىالأمر بتوقيت هذا الشر بفترة الانتقال، وقد انتهت تلك الفترة في 15 من أكتوبر سنة 1949 والحمد لله.
الوثيقة الثالثة: ميثاق الأمم المتحدة، وهو الوثيقة التي تكونت بهاهيئة الأمم المتحدة، وكانت مصر من بين الدول التي اشتركت فيها ووقعتها كعضو أصلي في (الأمم المتحدة) بمدينة سان فرنسسكو، في اليوم السادس والعشرين من شهر يولية لعام 1945م،وواضح من ترجمته الرسمية بوزارة الخارجية
/ صفحه 406/
أن كل ما قصد منه أن الشعوب الموقعة عليه آلت نفسها أن تنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، وأن يؤكد منجديد إيمانها بالحقوق الإساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما الرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن تبين الاحوال التي يمكن في ظلها تحقيقالعدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات والقانون الدولي، وتواصت الدول بينها بالتسامح والعيش في سلام وحسن جوار، كل ذلك واضح في ديباجة الميثاق، وقد نص فيالفصل الأول بالمادة الأولى على مقاصد الهيئة بأنها: (1) حفظ السلام (2) إنما العلاقات الودية (3) تحقيق التعاون الدولي، وتوفير احترام حقوق الإنسان والحريات الاساسية،والتشجيع عليها بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ثم تطرقت المواد إلى الغرض الأساسي وهي العمل على منع الحروب بإنشاء مجلس الأمن وإنشاء جيش دولي، وليس في الميثاقما يشير من قريب أو بعيد إلى الزام مصر أو غيرها من الدول الأعضاء في أن تسلك في تشريعاتها المحلية أي مسلك، وما كان للميثاق أن ينص على شئ من ذلك، لأن قواعد القانون الدوليتقضي لكل الدول المستقلة بالسيادة التامة، وأهم أنواع هذه السيادة: السيادة التشريعية، وليس للإرتباطات الدولية من قوة ملزمة بالنفاذ في أرض أية دولة مستقلة، ما لم يصدربالقواعد التي تضمنتها المواثيق الدولية تشريعات محلية تصدرها سلطات التشريع المختصة وتكون ذات نصوص آمرة حتى تكون واجبة النقاذ والاحترام.
هذا وقد أشار صاحبالدعوى البهاتية التي سلف ذكرها إلى أن الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة أقرت عام 1948 حقوق الإنسان، وجاء بالمادة 18 منها، (لكل إنسان الحق في حرية الفكر والضميروالدين، وهذا الحق يوليه الحرية في تغيير دينه أو معتقده ويوليه كذلك الحرية في الإعراب عنهما بالتكلم والممارسة والعبادة وإقامة الشعائر الدينية) وخلص من ذلك إلى القولبالزام مصر باتباع ذلك كله، وقدم نسخة مما أقرته الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في هذا الشأن
/ صفحه 407/
وإذا بها معنونة بأنها إعلان ودعوة إلى جميعالدول المشتركة في الهيئة وغير المشتركة فيها برجاء العمل على بث هذه الآراء وعرضها وقراءتها وشرحها وعلى الأخص بالمدارس، حتى يمكن التسليم بصلاحيتها، والعمل تدريجياًعلى الإيمان بها، ومفاد ذلك أن الهيئة التي وجهت هذا الأعلان لم تدع أنه ملزم للدول الأعضاء ولا لغيرها، وما كانت لتستطيع أن تدعي ذلك وليس له بمصر قوة ملزمة ما لم يصدربأحكامه قانون من السلطة التشريعية المحلية، الأمر الذي هو محل شك كبير بعد هذا الذي بأن وسلف من أن كل تشريع لكي يكون دستوريا مشروعا يجب أن لا يتعارض مع أصل من أصولالإسلام والأحكام الأساسية، للشريعة المحمدية.
على أنه مما يحلو للباحث أن يشير إليه في هذا الصدد أن بعض المبادئ التي تضمنها هذا الإعلان غير مطبقة في الولاياتالمتحدة (أمريكا) نفسها وهي مهد تلك الهيئة التي تنادي بتلك المبادئ وتعتبرها مثلا عليا، ذلك أن المادة الثانية من هذا الإعلان تنص على أن لكل إنسان جميع الحقوق والحرياتالمنصوص عليها فيه دون أي تمييز بسبب الفرق أو اللون أو الجنس أو اللغة والدين ـ والتمييز بسبب اللون في أمريكا أمر معروف بلغ التشدد فيه حداً أهدرت معه حقوق الملونينفأضحوا كالمنبوذين في الهند، حرمت عليهم أحياء البيض بملاهيها ومطاعمها وفنادقها، ولا تزال الحكومة الأمريكية تناضل جاهدة في التخفيف من حدة عدم مساواة السود بالبيض ـأما المساواة الحقة وخير ما كُرّم به بنو الإنسان من نصقة وحرية وإخاء ومساواة في الحقوق والواجبات فقد أتى بها الإسلام منذ نيف وثلاثة عشر قرنا من غير ما نظر إلى فوارقالجنس أو اللون أو العصبية (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعرفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم إذا يقول:(فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ـ اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي رأسه كالزبيبة).
(للبحث بقية)