أيها المسلمون
ثقوا بأنفسكملحضرة صاحب الفضيلة شيخ الاسلامالاستاذ الاكبر الشيخ عبد المجيد سليم * **
من أهم ما يحرص عليه القادة في الجيوش أن يكون الروح في جندهم قويا عاليا، وأن يدرموا عن أنفسهم وعمن تحت قيادتهم عوامل الوهن النفسية التي من شأنها أن تزلزلالقلوب، وتضعضع القوى، فان الغلب لا يرجع الى القوة الحسية فحسب، وانما يرجع قبل ذلك الى الثبات والقوة المعنوية.
وقد أرشدنا القرآن الكريم الى ذلك في مثل قوله تعالى:((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين، ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)). ((فلا تهنوا وتدعوا الى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) ((ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)).
ينهانا الله عزوجل عن أسباب الانهيار والهزيمة الراجعة الى تسلطالوهن والحزن على قلوبنا، وامتلائنا بهيبة القوم والخوف منهم، واستعظام ملاقاتهم، والتقصير في تتبعهم وابتغائهم، والتأثر بما يصيبنا من الآلام والمشاق والصعاب،وينبئنا جل شأنه أننا أعلى منهم بما في قلوبنا من الايمان، وأن الله معنا ولن يضيع أعمالنا، وأننا نرجو منه النصر مطمئنين الى وعده واثقين من حسن العاقبة اذا صبرنا / صفحه 363/وأخلصنا، أما عدونا فانهم لا يؤمنون كما نؤمن، ولا يرجون من الله ما نرجو، وليسوا في منزلتنا قربا من الله، وعلوا بالحق والايمان، وهم مع ذلك يألمون كمانألم، ويحتملون من مرارة الحرب وصعابها مثل ما نحتمل.
وقد ذكر الله عزوجل هذا الأصل ـ وهو تثبيت قلوب المؤمنين ـ في آيات أخرى، منها قوله تعالى: ((اذ تستغيثون ربكمفاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين، وما جعله الله الا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر الا من عند الله ان الله عزيز حكيم، اذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزلعليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام اذ يوحى ربك الى الملائكة أنى معكم، فثبتوا الذين آمنوا سألقى في قلوب الذينكفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان)).
يبين الله لنا أنه ما جعل امداد المؤمنين بالملائكة الا بشرى لهم بأنهم مؤيدون من الله، فان الامداد لا يكونالا من المولى والنصير، فالله مولاهم وناصرهم، ولا شك أن اقرار هذا المعنى في قلوبهم يملؤهم ايمانا بالنصر ويبعث فيهم من القوة ومضاء العزيمة ما يكون سببا مباشراً فيالفتح والغلب، ولذلك اتبع الله ما ذكره من أن ذلك بشرى لهم، بأن هذا أيضاً تطمين لقلوبهم، وليعلموا أن النصر في الحقيقة ليس بمجرد الاعداد والتجهيز، ولكن بقوة من اللهتعالى يهبها أولياءه ويملأ بها قلوبهم، ويشد بها عزائمهم، وهي هذه القوة المعنوية التي يشعر معها المجاهد الحق في سبيل الحق أنه أثبت قدما، وأقوى قلبا، وأمضى عزما، وأنههو المنتصر مهما أجلب عليه عدوه بخيله ورجله.
ثم تبين لنا الآيات أن من تدبير الله للمؤمنين ولطفه بهم ما أكرمهم به حيث ألقى عليهم النعاس أمنة منه، فلما رأوا أنهمناموا ليلهم قريرى العيون مطمئنى القلوب، زاد ذلك في شعورهم بالقوة والأمن، ثم زادوا أمنا وقوة وثباتا بالماء الذي أنزله الله عليهم فكان أمارة على الرضا والتيسير، وكانوسيلة الى التطهير
/ صفحه 364/الحسي والمعنوي، والى اذهاب رجز الشيطان، والى الربط على القلوب وتثبيت الاقدام، وان جيشا يتوافر له من وسائل التثبيت والتأييدالالهي ما توافر لهذا الجيش لمزود بأعظم قوة معنوية، وفي مقابل ذلك يذكر حال عدوهم والقائه في قلوبهم الرعب بما يرون من آثار الرضا الالهي عن المؤمنين، وآثار الغضبالالهي على الكافرين، وقد ذكر هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى ((سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا)) وتلك سنة الهية في كل مكابر جاحدللحق، يبدو شديد القوة، عظيم الجلد، وقلبه في الحقيقة واه ضعيف، لأنه خال مما يتظاهر به غير ممتلىء بوجوب الثبات عليه، ولذلك يكون خواراً متضعضعا يفر من أول وهلة،ويداخله الرعب والخوف الشديد اذا وجد أمامه مؤمنا ثابتا مصمما على منارلته، وهذا هو المعنى الذي نصر الله به المؤمنين الأولين، فقد كانوا يحاربون عن عقيدة وايمان، وكانتظواهرهم في ذلك وبواطنهم سواء، أما أعداؤهم فكانوا مشركين بالله ما لم ينزل به سلطانا، وكانوا يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهمه، ولكنهم انما حاربوا في سبيل السلطانواستبقاء الجاه والمنزلة، أنفة من أن يتسلط عليهم أصحاب هذا الدين وهم السادة الاقوياء ذووا الأحساب والانساب، وشتان بين من يقاتل مخلصا، يحفزه قلبه، ويدفعه ايمانه،ومن يقاتل وهو يعلم أنه مبطل متجن لا يدفعه الا الشيطان! وقد كان المشرك لا يجرؤ في غزوات المؤمنين الأولين على الوقوف في وجه المؤمن، اذ كان يخيل اليه أنه يلقى أسدا فاغرافاه يوشك أن يلتهمه، وما رأى الا قوة الايمان، وعزمة التصميم
* * *
ترى هل حافظ المسلمون على هذه المنزلة، وحرصوا على أن يكونوا في العالم هم الامة الواثقة بنفسها،المعتدة بما عندها، المطمئنة الى أن الله مولاها، وأن وعده الحق؟
هل حرصوا على أن يقرّوا في نفوس أعدائهم أنهم ينظرون اليهم نظرة المحق
/ صفحه 365/الىالمبطل، نظرة الواثق بقوته وعزيمته الى من يراه ضعيفا نازلا عنه غير أهل لمجاراته ومساماته؟
يؤسفى أن اقرر أن الامر صار الى العكس، فأصبحنا نرى المسلمين وقد وهنتعزائمم، وانحطت قواهم المعنوية، وصاروا ينظرون الى أعدائهم والظالمين لهم نظرة ملؤها الاعجاب والاكبار، والى أنفسهم وقادتهم وأعمالهم وسائر أحوالهم نظرة ملؤهاالاستخفاف والاستهانة، أما أعداء المسلمين فقد صاروا هم الاعزة، وهم أهل الاعتداد بأنفسهم، والثقة بما عندهم، والنظر الى المسلمين كأمة متخلقة صئيلة محتاجة اليهم فيمادياتها ومعنوياتها، وأنها لا تصبر على حربهم، ولا تقدر على أن تقف في سبيلهم، وأنهم حين يجودون عليها بشيء من أموالهم أو أفكارهم فانما يلبون داعى الانسانية، ويحرصونعلى أن يكونوا أهل فضل وبر، والله يعلم انهم لطامعون محتالون، لا يريدون الا تسخيرنا، واستلاب ثرواتنا وجهودنا، وقد عرفوا أنه لابد لهم قبل ذلك من استلاب نفوسنا وقلوبنا، وأن يخدعونا عن عقولنا وعما لا يحبون أن نعتز به من ايمان ثابت، وعمل صالح.
ان المسلمين في حرب زبون مع أعدائهم لن تضع اوزارها مادام هؤلاء الاعداء قادرين علىموالاتها و امدادها، ومن الخير للمسلمين أن يتيقئوا ويتنبهوا الى أن من أهم أسلحة هذه الحرب حرص أعدائهم على أن يقروا في نفوسهم أنهم أمة ضعيفة ضئيلة، وأن دينها وشريعتهاوأخلاقها ليست صالحة لهذا العصر الذي تبدلت فيه الدنيا، وتغيرت مثلها ونظمها، انهم واثقون بأن ذلك يهدمنا ويقوض كياننا ويبعث فينا الوهن، ويجعلنا ندور في فلكهم، ونتبعآثارهم، ونخدم أغراضهم،
ومن عجب أن بعض رجالنا المثقفين ثقافات غربية قد خدعوا بذلك، فتراهم مثلا ينادون بابعاد الدين عن مجال الحكم والتعامل، وأخذ الامة بالنظمالحديثة، والقوانين الوضعية كما يفعل الأوربيون، ويقولون ان الدين لله، فلنقصره على المسائل الروحية، ولنتفع به في تهذيب النفوس واصلاح الاخلاق وكفى.
/ صفحه 366/و يرجع السبب في انخداعهم بهذه الفكرة الخاطئة الى جهلهم بالشريعة الاسلامية وعدم معرفتهم بما فيها من كفالة للحياة السعيدة على أتم وجه وأكمل حال.
لقد أصلح اللهبهذا الدين حال قوم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والشرك وتتفشى فيهم أقبح العادات، وأسوأ الاوهام والخرافات، أنقذهم الله به من هذه الظلمات المتراكمة، وأخذ بأيديهم الىمدارك السمو والكمال الانساني في كل ناحية من نواحى الحياة حتى كانوا مثلا في العالمين، وعجبا في الأولين والآخرين.
كانوا قادة العالم الى كل خير، ودعانه الى كل صلاحواصلاح، كانوا أعزاء بعزة الايمان، أقوياء بالتضامن والتكافل على احقاق الحق، واقامة العدل، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت لهم هيبة تملأ صدور الناس في الشرقوالغرب، فلم يكن أحد يفكر في مقاومتهم أو الوقوف في وجه دعوتهم، فضلا عن أن يفكر أحد في غزوهم في عقر دارهم، ومحاولة استغلال مرافقهم، والاستيلاء على ما منحهم الله منثروات، ملأوا طباق الأرض علما وحكمة وعدلا وأمنا واستقامة ورشادا، حتى كانت الشعوب في كل بلد من بلاد الله تحن الى حكمهم وعدلهم، وتتمنى أن تساس بسياستهم، ولم يعرف فيتاريخ البشر أمة نبغث في مثل تلك الفترة القصيرة التي نبغوا فيها، ولم يعهد في تاريخ الفكر الانساني أمة وصلت بعلمها وأفكارها ومثلها وقضاياها الى شغل أفكار العالم علىهذا النحو الذي وصلت اليه الامة الاسلامية.
فاذا أردنا أن نسلك الطريق الواضح المستقيم الى خلاصها وصلاحنا وقوتنا وعزتنا فلنؤمن بما آتانا الله من دين وشريعة،ولننزع من رؤوس مثقفينا وبعض قادتنا وزعمائنا هذه الفكرة الباطلة، فكرة الزعم بأن هذا الدين كغيره من الأديان لا شأن له بالحياة، ولا خير في جعله أساسا للنظام والسياسةفي الأمم، علينا أن ننتزع هذه الفكرة بكل قوة من رؤوس معتنقيها فانها أخطر فكرة على المسلمين، وأخبث دعوة استطاع أعداء الاسلام أن يدخلوها على مثقفيهم
/ صفحه 367/وزعمائهم، ولا يكون نزعها الا بالعلم الصحيح، وبيان ما في الاسلام من خير وسمو وجمال، والرجوع الى المصادر الأولى التي تمتاز بالصفاء واليسر والوضوح، فنقدمها للعقولغذاء، وننشىء أمثالها مما يتفق وطبيعة العصر الذي نعيش فيه، فالناس بحاجة الى أن نقنعهم بأسلوبهم، وأن نشرح لهم ما عندنا بالقول الواضح والبرهان المستقيم.
وعلى أهلالعلم الديني تقع التبعة اذا فرطوا، وعلى أهل الحكم وأصحاب السلطان يكون الاثم اذا لم يؤدوا واجبهم في رعاية هذه الأمانة وتيسير السبيل لأدائها كاملة.
ان كل اصلاح لايقوم على أساس تقوية الروح الديني في الأمة لا بقاء له ولا خير فيه، واذا قلت الروح الديني فانما أريد الأخذ العملي بالشريعة عن ايمان وثقة، لا أن نكتفى بما ينص عليهالدستور من أن دين الدولة هو الاسلام ثم نكون في أكثر احوالنا وأفعالنا وتشريعاتنا وأخلاقنا على خلاف ما يأمر به الاسلام وينهى عنه الاسلام.
((ألم يأن للذين آمنوا أننخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اعلموا أن الله يحيى الارض بعد موتها قدبينا لكم الآيات، لعلكم تعقلون)).