صريح الرأي في النحو العربي
داؤه وَدَواؤهللأستاذ عباس حسنأستاذ اللغة العربية في كلية دارالعلوم بجامعة القاهرة ... على أن هذه الخطة ـ خطة الأخذ عن القبائل الست دون غيرها ـ قد ولدت مشكلات نعرض لاثنتين منها:
أولاهما: أن ينطق عربي من تلكالقبائل بلغة معينة، معروفة النسب، ولكنها لقبيلة غير قبيلته...
ثانيتهما: أن ينطق عربي بلغة أخرى لقبيلة غير معينة وغير معروفة الاسم والكنه المميز لها من سواها. فإذا نطق أحدهما بما يخالف ما جمعه اللغويون وما استنبطه النحاة من هذه اللغة المجمعة كان كلامه مرفوضاً عند الجامعين، محكوماً عليه عند النحاة بالحكم المسلط علىنظائره؛ وهو: الشذوذ، أو الندرة، أو الضعف، أو خطأ ذلك الأعرابي (وهو لا يخطئ على الصحيح كما سنعرف بعد).
وبديه أن الأخذ بهذا الحكم معناه القضاء على نوع من الكلامالسليم الصحيح بغير مسوغ مقبول، فوق ما فيه من فوضي لغوية تبعث الآراء المتناقضة، وتثير أنواعا قبيحة من الخلاف المذهبي بين المجتهدين والباحثين: كالذي نشهده اليوم فيالنواحي اللغوية ولا سيما النحوية منها. ولست أتردد في أن الحكم هنا خاطئ ـ كسابقة ـ وظواهر الخطأ فيهما واحدة بينها الثقات الأعلام الذين أشرنا إليهم آنفا، وسأسوق بعضالأمثلة التي تؤيد ما أقول، وما أكثر الأمثلة التي
/ صفحه 55/توضح هذا النوع من الفساد والاضطراب، وما جلب على طلاب النحو والمشتغلين به من متاعب علمية وعملية.قال صاحب التصريح في شروط إعمال ' ما '، عمل ليس... ما نصه:
' (ومن شروطها: ألا يتقدم الخبر على الاسم، وأما قول القرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش واذ مامثلهم بشر
فقال سيبويه: شاذ؛ ولا يكاد يعرف. وقيل: غلط، وأن الفرزدق تميمي لم يعرف شرطها عند الحجازيين؛ فغلط فيها. وفيه نظر، فإن العربي لا يطاوعه لسانه أن ينطق بغيرلغته كما قال سيبويه) ' اهـ.
ثم قال المقرر (يس) على الهامش ما نصه:
' الذي قاله سيبويه إنما هو أن العربي لا ينطق بالخطأ، ويجوز أن ينطق بغير لغته كما بيناه في حاشيةالألفية، في باب ما لا ينصرف ' اهـ.
دهشت من هذا الرأي ـ الأول ـ المنسوب لسيبويه، المردد على ألسنة علماء أجلاء، لا طلاب أغرار قد يذهبون في فهمه مذاهب، ويتخذون منهأحكاماً خطيرة. فبادرت إلى باب ما لا ينصرف في كتاب ' التصريح ' فرأيت من التناقش والتضارب والجلاد بسليط القول ما يدور معه الرأس، رأيت ما نصه عند الكلام على ' فَعَاَلِ 'علماً للمؤنث:
' إن أكثر بني تميم يبني ما آخره راء على الكسر، والأقل يعربها، وإن اللغتين اجتمعتا في قول الأعشي ميمون:
ومرَّ دهر على وبَارِ فهلكت جهرةً وَبَارُ'
قال المقرر يس على الهامش (ج 2 ص 225) ما نصه:
(قوله وقد اجتمعت اللغتان) قال الدنوشري: إن هذا الشاعر لا يخلو من أن يكون من غير بني تميم، أو منهم. وعلى تقدير كونهمنهم لا يخلو من أن يكون من الكثير منهم، أو من القليل الذين يعربون ما آخره راء (ولا يبنونه كالأكثر) فإن كان الأول أشكل الحال، وعلى الأول من الثاني يشكل بأن الكثير لايعربون. وعلى الثاني منه يشكل بأن القليل لا يبنون ' اهـ.
/ صفحه 56/ثم قال بعد ذلك مباشرة: ' كتب شيخنا العلامة الغنيمي بعده:
أقول على كل تقدير لا إشكال؛ إذالعربي يجوز له أن يتكلم بغير لغته، وهذا بعد تسليم أنه عربي، وأنه يحتج بكلامه. والله أعلم بالصواب ' اهـ. ثم كتب الدنوشري معقباً: (قوله: أقول على كل تقدير لا إشكال) كلامساقط (كذا!!). لا يصدر عن جاهل، فضلا عن فاضل (كذا!!). أما أولا فلأن العربي لا يتكلم بغير لغته، ولو قُطّع إربْا إربْا، كما في مسألة الكسائي وسيبويه. وأما ثانياً فلأن الأعشيميمونا لا ينكر أحد الاحتجاج بكلامه، وأنه عربي خالص، اهـ. ثم قال: والحق أن العربي يتكلم بغير لغته ولا يتلكم بالخطأ، وسيبويه ظن أن ما قاله الكسائي في مسألة الزنبار خطأكما حققنا ذلك في حواشي الألفية. وقد رأيت بخط مولانا تاج الدين السبكي رحمه الله كلاما يتعلق بهذه المسألة، ومن جملته: والذي يظهر أن العربي لا يلحن، ولكنه يمكنه أن ينطقبغير لغته؛ فيتعين تأويلها، وذكر مسألة: ليس الطيب إلا المسك، وأن الأحمر واليزيدي لقَّنا بعض الحجازيين الرفع في كلمة: ' المسك ' وجهدا في تلقينه فلم يفعل، وبعضالتميميين النصب وجهدا فلم يفعل. وقال: ليس فيهما أنهما لم يمكنهما النطق بغير لغتهما، بل إنهما لم يفعلا. وفرق بين عدم التمكن وعدم الفعل؛ بأن عدم الفعل قد يجامع القدرة.وأما دعوى أن الأعشي ميمونا لا ينكر أحد الاحتجاج بكلامه فدعوى خالية عن الدليل، إذ وقع لكثير من الائمة الإنكار عن بعض العرب كرؤبة، والعجاج، وأبي بجيلة، ويحتمل ان يكونالأعشي من هذه الطبقة، اهـ.
وجاء في الأشموني وحاشية الصبان عند الكلام على البيت السابق:
' فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ' في باب إعمال ' ما ' النص التالي: أما قولالفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش واذ ما مثلهم بشر
فشاذن وقيل غلط، سببه أنه تميمي، وأراد أن يتكلم بلغة الحجاز، ولم يدر أن من شرط النصب عندهمبقاء الترتيب بين الاسم والخبر، وقيل مؤول ' اهـ.
/ صفحه 57 /وجاء في حاشية الصبان: ' قوله: (وقيل غلط) أي: لحن، وفيه أن المعروف أن العربي لا يقدر أن يلحن، كما أنهلا يقدر أن ينطق بلغة غيره. كذا في الروداني. ثم قال: والذي ينبغي ألا يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته. أما ما أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجزعن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية، وغيرها. وأبو الأسود عربي، وقد حكى قوله ابنته لأمير المؤمنين علي: ' ما أشد الحر ' بالرفع. فقول سيبويه فيقصته مع الكسائي في مسألة: ' كنت أظن أن النحلة أشد لسعة من الزنبار فإذا هو هي '، مرهم يا أمير المؤمنين أن ينطقوا بذلك، لابد من تأويله؛ كأن يقال: المراد مر من لم يسمعمقالة الكسائي، ولم يدر القصة، أو نحو ذلك، مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار ' اهـ، ثم قال الصبان: ' وهو كلام في غاية النفاسة طالما جري في نفسي ' اهـ.
فماهذه الآراء الكثيرة المتعارضة المتناقضة؟ وما هذه المقارعات العقلية المضنية، وما ضمنته من ألفاظ نابية؟ وأي الآراء نأخذ وأيها ندع؟ ومن حجتنا في إيثار هذا أو ذاك؟ وكيفنضبط في استعمالاتنا المختلفة كلمة: ' وبار ' وما شاكلها؟ وما نصنع في أسلوب كأسلوب: ليس الطيب إلا المسك ـ وهو كثير الدوران ـ يهمل فيه فريق من العرب ' ليس ' يهملها فريقآخر؟
إن النحاة موزعون؛ كل يرى الحق في جانبه، ويحكم على قريعه بالخطأ الصراح. والمتعلمون والمتكلمون والكاتبون بين هؤلاء وهؤلاء حائرون، لا تسعفهم ثقافتهم القائمةبتفهم هذا كله أو بعضه ولا يتسع صدرهم لاحتمال قليله، ولا تسمح لهم زحمة الأعمال ومطالب العيش الملحة باحتمال هذا العنت من أجل ضبط كلمة، أو إقامة جملة. وعندهم أن الوقوعفي الخطأ ـ على قبحه ـ أهون شأناً، وأيسر ضرراً من بذل الجهد المضني وإضاعة الوقت في تلك المتناقضات التي لم ينته فيها الأعلام إلى رأي موحد، أو مذهب متفق عليه.
ومثالآخر:
قال الأشموني في باب: ' إنّ ' ما نصه:
/ صفحه 58/' إذا عطف على المنصوب (أي على اسم إن) قبل استكمال إن خبرها تعين النصب وأجاز الكسائي الرفع مطلقاً تمسكاًبظاهر قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون... وقراءة بعضهم إن الله وملائكته يصلون على النبي، يرفع ملائكته وقوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة، فإنيوَقيّارٌ بها لغَريبُ.
وخُرّج ذلك على التقديم والتأخير أو حذف الخبر من الأول... الخ '. ثم قال:: قال سيبويه: وأعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعونذاهبون وإنك وزيد ذاهبان '.
وجاء في حاشية الصبان تعليقاً على ذلك:
(قوله وأعلم)... اعترض بأنه كيف يسند الغلط إلى العرب؛ وأجيب: بأنه لا مانع ذلك؛ لما سبق من أن الحققدرة العربي على الخطأ إذا قصد الخروج عن لغته، والنطق بالخطأ. وقيل مراد سيبويه بالغلط مجرد توهم أن ليس في الكلم ' إنّ '. وهذا هو ما يدل عليه بقية كلامه كما بسطه فيالمغني، ويحتمل أن مراده بالغلط شدة الشذوذ. اهـ.
وهذا كلام كسابقة لا يتردد المنصف الأريب في دفعه جملة وتفصيلا، سواء منه ما كان منسوباً لسيبويه والمدافعين عنهوالمتأولين له، وما كان منسوباً لسواه.
ومثال آخر من قيض المثل الضاربة في الأبواب النحوية.
جاء في شرح التوضيح باب الممنوع من الصرف (ح 2 ص 213) ما نصه: لا يقال 'سكرانة ' وأما ما نقل عن بني أسد من أنهم يقولون: ' سكرانة '، ويصرفون كلمة: سكران، فقال الزبيدي: ذكر يعقوب أن ذلك ضعيف ردئ. وقال أبو حاتم: لبني أسد مناكير لا يؤخذ بها. اهـ.
وجاء صاحب التقرير الذي على الهامش فقال: (قوله: وقال أبو حاتم...) وجه كونها مناكير أنها مخالفة للغات الفصيحة. وقد قال: كيف ينظر عليهم ما هو لغتهم التي طبعهم اللهعليها؟! هـ.
/ صفحه 59 /وفي هذا المثال يقال ما سبق في غيره وفي مئات من نظائره التي لم أسردها. وحين أقول ' مئاتٍ ' فإنما أقصد الحقيقة العددية المعروفة اليوم منغير مبالغة في التقدير ولا إسراف. من ذلك كله يتبين لنا ما في النحو من شوائب الخلط والاضطراب وعدم الاستقرار. ولها من سيئ الآثار ما وصفنا وما لم نصف.
وازدادت المشكلةتعقيداً بازدياد هجرة العرب (سواء أكانوا من القائل الست أم من غيرها). إلى الأمصار الجديد؛ كالبصرة، والكوفة، وبغداد، ودمشق، وحواضر الأندلس وغيرها؛ فضربت القبائلالنازحة هناك بخيامها، واستقرت كل قبيلة بمصر، وتكلموا فيه بلسانها الأول، وبلغتها ولهجتها التي كانت تصطنعها قبل هجرتها؛ فتباينت اللغات واللهجات في المواطن الجديدة،تباينها في المواطن القديمة، بل زادت وصار لكل مصر لغة تختلف قليلا أو كثيراً عن لغة غيره من الأمصار، بقدر الاختلاف القديم بين لغتيهما قبل الهجرة من موطنهما الأصيل فيشبه الجزيرة العربية، بل أكثر.
ثم زاد التدوين والتأليف والتعليم، واستمد كل واحد من هذه الثلاثة وجوده من اللغة السائدة في مصره؛ فتباينت النتائج والآثار العلميةوالعملية بتباين اللغة واستمساك كل قبيلة بلغتها ولهجتها؛ فنشأت الفرق والمذاهب النحوية الجديدة؛ ما بين بصريين، وكوفيين، وبغداديين، وأندلسيين... كل فريق يستمد أحكامهويستنبط قواعده من اللغة التي تحيط به، وتشيع في حاضرته؛ فاتسع ميدان الفوضي النحوية، وكثر المضطربون فيه، ولم يقتصر الأمر على هذا؛ بل كان من الجماعة الواحدة ' البصريةأو الكوفية... ' من يخرج عليها ويخالفها في بعض آرائها فيبتكر رأيا جديداً، أو ينضم إلى رأي فريق آخر، فالبصري قد ينادي برأي مستقل ليس لطائفته، وقد يأخذ برأي الكوفي،والكوفي كذلك قد يستقل، أو يتابع البغدادي، وهكذا... لدليل ارتضاه وخالفه فيه حواريوه. فزاد تعدد الآراء النحوية في المسألة الواحدة، وزاد اختلاف الأحكام فيها؛ وخفيتالحقائق على طلابها، وصعب عليهم استخلاصها مما يغشيها، وزهدوا فيها أو كادوا، وقد
/ صفحه 60/استدعى التعدد والاختلاف أن يقيم كلٌّ حجته، ويدلي ببرهانه، ويدفعأدلة الآخر؛ فانفتح بذلك باب بغيض من المنطق الجدلي، والسفسطة العنيفة، وملأ النفوس حنقا، وأرهق العقول، وكاد يقضي على حسن الظن بجلال النحو وعظيم شأنه، وشدة الحاجةإليه، والى الاستفادة منه، ولا سيما بعد أن تعاورته حقب وأجيال لم تصلح من أمره شيئا؛ بل زادته تشويها وإفساداً. وحسبي أن أشير ـ مرة أخرى ـ إلى باب كباب الجوازموالنواصب، في كتاب ' همع الهوامع ' ليفزع القارئ حين يرى الخلاف يشمل كل مسألة من مسائله، وتعدد الآراء يعم قواعده؛ فيملأ النفس حيرة واضطرابا، بمازجها دهش غامر، وحسرةبالغة.
لعل فيما تقدم ما ينهض دليلا على أن النحاة الأوائل قصَّروا وأساءوا ـ غير قاصدين ـ برغم ما لهم من فضل لا يجحده منصف، وجميل لا يماري فيه إلا جاهل أو مكابر. وقدسكت خلائفهم عن هذا التقصير. وكان صائب الرأي، وصادق التقدير، يقتضيهم أن ينظروا بعين الغيب إلى هذه المشكلة العنيفة التي جلبت البلاء على النحو والنحاة وطلاب التحصيل،ويتوقعوا ظهورها بارزة كأداء خطيرة، فيبحثوا أول ما يبحثون مسألة اللغة في القبائل العربية المختلفة؛ أمتساوية لديهم جميعا؛ في الفصاحة، وسلامة المبني، وصحة التركيب،أم متفاوتة؟ وماذا وراء البحث؟ وراءه نتيجة هامة الأثر خطيرة الغاية. فإن صح أن اللغات والقبائل متساوية في هذا ـ كما يقول الثقات ـ صح الحكم القاطع بإخفاق كل محاولة لوضع' نحو ' موحد ' وقواعد ' عامة شاملة تقدم لهذه القبائل كلها مع كثرة لهجاتها، وتباين كثير منها، وليس بعضها أحق بالأخذ من لغته دون الآخر؛ فكلهم سواسية، وليس بمستطاع الأخذعنهم جميعاً؛ فأي ' نحو ' هذا الذي يحوي في ثناياه كل القواعد والأحكام التي تنطبق على كل اللغات واللهجات وتوافق أصحابها على وفرتهم وتشعب خصائصهم اللغوية؟.
إن 'نحواً ' كهذا ـ إن أطاقه الجهد، واتسع له الوقت ـ يكون أشد بلبلة، وأوسع اضطراباً، وأعم فوضي من ' النحو ' الذي نعيبه ونزري عليه. والسبب
/ صفحه 61/بيِّنٌ واضح مماقدمنا. فليس من المستحسن ـ إذاً ـ بل ليس من المستطاع والأمر كما وصفنا، التوحيد النحوي. وكذلك الشأن لو تفاوتت لغات القبائل ـ كما يرى فريق من الباحثين ـ في مبلغ فصاحتها،نصيبها من السمو والسلامة؛ إذ أننا عند التفاوت سنأخذ عن بعض دون بعض؛ بنقع في مثل ما وقع فيه النحاة الأقدمون، ويجئ النحو الجديد مبلبلا قاصراً كالقديم. فما عسى أن نصنع؟ليس أمامنا إلا أحد أمرين ـ كما أشرنا في بحث سابق ـ:
أ ـ وضع نحو خاص لكل قبيلة؛ بحيث يلائم لغتها وحدها، وتنطبق أحكامه على لهجتها، ولا يدع شيئاً يتعلق بكلامها ـ منهذه الجهة ـ إلا اشتمل عليه، تاركا ما لا يتصل بها وبلسانها الخاص. وبهذا بتعدد النحو بتعدد القبائل؛ فتجد كل واحدة ما يلائمها، وترتاح إليه ـ كما هو الشأن في القراءاتالقرآنية قديماً وحديثاً.
لكن هذا التعدد يضعف الروابط الثقافية والمادية بين القبائل العربية؛ بضعف التفاهم اللغوي بينها، وهو هن أواصر القربى والمودة القائمة،ويسلخ حاضر القبيلة من ماضيها، ويفصل بين التاريخ القديم والحديث في القبيلة الواحدة والقبائل الكثيرة، هذا إلى أن ' نحوها ' الخاص قد يخالف ' نحو ' القرآن فتعجز عن فهمهالحق، والى أن عزله القبيلة إن استمر في القديم فبقاؤه اليوم عسير، وتلك عيوب وسيئات ترجح حسنة ' النحو ' الخاص.
ب ـ فلم يبق إلا وضع ' نحو ' موحد للقبائل العربية كلها،لا يحوي لهجاتها مجتمعة، ولا يضم في ثناياه خصائص كل لغة منها، وإنما يكون أساسه مستمداً من لغة واحدة ممتازة، يعترف لها الجميع بالسمو فوق سائر اللغات، ويعلنون أنهاأعلى مكاناً، وأرفع قدراً، وأكمل مزايا من لغاتهم الخاصة، ولا يعترفون لغيره ـ راضين فرحين ـ بهذا الفضل الأوفى؛ تلك هي لغة القرآن التي لا تنسب لقرشي وحده، أو لتميميوحده، أو لقيسى أو لغيرهم كذلك، فهي لغة عربية حرة، وكفى، وإن شئت فقل: هي لغة للعرب جميعاً، من قبائلهم المختلفة استمدت كيانها ومادتها، ومن ألفاظهم أخذت أصولها (بالرغممما انفردت به من صياغة معجزة ونظم فريد
/ صفحه 62/وأغراض جليلة) فلم تقصر نفسها على قبيلة واحدة، ولم تكتف بهذه عن تلك، وليس حظها من الإجلال والإكبار عند عربيبأكمل من حظها عند أخيه، فالجميع في ذلك سواء، والقرآن كله في هذا سواء، وليس من السائغ ولا مما يرتضيه العقل أن يقول بعض النحاة: ' إن القرآن قد يجري على غير الغالب القوى...' مستنبطا ذلك من مثل قوله تعالى: ' ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين ' وقوله: ' وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمما ' (1)، فذلك استنباط واهم سنفيض الكلام عليه في موضعه بعد. فإن احتجنا إلى شئ ولم نجده في لغة القرآن رجعنا إلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، والى ما اشتهر من كلام العرب، في وثيق مراجعه، كالمعلقات، وأشباهها من المأثوراتالعامة من غير أن نلتفت لقبيلة القائل، أو نذكر اسمها، أو نهتم بشأنها، فذلك لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا أنه كلام عربي صُراح، محاذرين أن نحرك نوازع الغيرة وكوامنالفتنة النائمة؛ بذكر قبيلة باسمها. أو بشيء يدل على تفضيلها.
هذا، وليس ثمة ما يمنع قبيلة أن تصطنع لغتها الخاصة في شئونها القاصرة عليها إن شاءت، وأن تصنع لها 'نحواً ' يلائم تلك اللغة ويساير أصولها، على أن يكون ' النحو ' العام وحده هو الدستور المشترك بين العرب والمستعربين جميعاً.
هذه أقوم خطة سديدة كان على النحاة القدامىانتهاجها لو أرادوا لنحوهم كمالا وإبراء من الفساد الذي نشكوه، ولا تزال ـ حتى اليوم ـ أقوم الخطط لتدارك ما فات وإصلاح ما فسد وتحقيق ما تهفو إليه النفوس، وربما ساعدعليها اليوم أن أكثر القبائل القديمة قد باد، أو كاد، أو خفت العصبية القبلية فيه، وأن أكثر الناطقين بالضاد اليوم ليسوا من سلالة العرب وإنْ استخدموا لغتهم، ولا يمتونبصلة إلى البصرة أو الكوفة أو غيرهما. فعلينا اليوم أن نتدارك سريعاً ما فات.
ومن المفيد أن أشير إلى أمر هام؛ هو أن المعيب الفاسد من تعدد الآراء النحوية وتشعبمسائلها ما أدى إلى إعنات المتكلم، أو الكاتب، وتضييق آفاق التعبير أمامه، وأخذ الطريق عليه من غير داعٍ؛ كأن نذكر له من أمر ' ليس '
(1) راجع الصبان،باب العدد، تمييز العدد المركب.