تفسير القرآن الكريم
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الجليل الشيخ محمود شلتوت سورة المائدة
خلاصة ما سبق - بم تتحقق الجنابة: هل هى من الالتقاء أو من الماء - ليس في الاية اشتراط الاغتسال من الحيض في صلاة المرأة أو حل قربها - السنة توجب الاغتسال من الحيضللصلاة - التيمم و أسراره التشريعية: كونه طهارة و رمزية تطمئن بها القلوب و يحافظ بها على الصلوات - تشريع البدل حين لايمكن الاصل مبدأ تربوى يراد به تركيز خلق المحافظةعلى التكاليف - من حكمة الله و رحمته أنه لم يجعل البدل من الماء شيئاً يعز وجوده - و أنه اقتصر فيه على ما يحقق الرمز و الوجود التشبيهى للطهارة الاصلية - بحث حر في الاسبابالمبيحة للتيمم كما تفيدها الاية و بيان اضطراب الجمهور في شأنها - ما تدل عليه الاية من نواقض الطهارة - قاعدة اليسر ونفى الحرج في هذا التشريع و غيره و وجوب مراعاتها علىالناظرين في أحكام الدين - نعمة الله على المؤمنين و ميثاقه الذى واتقهم به. خلاصة ما سبق:
لا زلنا نتحدث إلى حضرات قراء (رسالة الاسلام) في النداءالثالث، و هو النداء الذى تضمن الارشاد إلى ما وضعه الله شرطا في صحة الصلاة التى جعلها ركنا من أركان الدين، و كتابا موقوتا على المؤمنين. و قد تحدثنا فيالعدد السابق عن بعض النواحى التى تدل على مكانة الصلاة في القديم عامة، و على مكانتها في الاسلام خاصة، و عما يكتسبه المؤمنون من
أدائها، والاخلاص فيها، و المحافظة عليها فيما يختص بأنفسهم و بجماعتهم، ثم تحدثنا عن طهارة الوضوء و ما أجمع العلماء عليه فيها، و ما اختلفوا فيه.
و أشرنا في موضوعاتالخلاف إلى الرأى الذى نرجحه مع موجب ذلك الترجيح. و قد أجملنا في آخر البحث الكلام على الغسل و هو المعروف في لسان الفقهاء بالطهارة الكبرى، و بينا أن صيغة التطهرالمذكورة في قوله تعالى:
((و إن كنتم جنبا فاطهروا)) تدل على أن الواجب في الغسل هو المبالغة في الطهارة، و أن تلك المبالغة ترجع إلى الكم و هى بغسل البدن كله،فيدخل فيه المضمضةو الاستنشاق و ما اليهما مما لم ير كثير من العلماء افتراض غسله في الوضوء، و يرجع كذلك إلى الكيف الذى يتحقق بالدلك، و قد اخترناه في الوضوء ملاحظينالفرق بين الغمس و الصب و الغسل، و مستندين في ذلك إلى أن العرب لا تقول: غسلت السماء الارض الا اذا وقع المطر عليها بشدة فأزال ما في موقعه من أقذار و أتربة، حتى جعلهابيضاء نقية.
بم تتحقق الجنابة هل هى من الالتقاء أو من الماء:
أما الجنابة التى تدل عليها كلمة ((جنبا)) في الاية، فهى الحالة الشرعية التى يعتبرالشخص متلبسا بها عقب خروج المنى، و هو ظاهر فيما اذا خرج عن طريق الوقاع، أو خرج عن طريق آخر من مداعبة، أو استمناء، أو احتلام و لا خلاف بين العلماء في أنه اذا انفصل عنمقره بشهوة، وجب الغسل و انما الخلاف ببنهم في ذلك في موضعين: أحدهما: اذا خرج عن مقره بشهوة ثم سكنت الشهوة و انفصل من المحل سائلا، و محل تحقيق هذا الخلاف كتبالفروع فليرجع اليه من شاء، و نحن نرى أن مجرد الانفصال عن المقر بشهوة محقق لمعنى الجنابة، و أنه موجب للغسل.
ثانيهما: اذا غاب العضو في المحل الاخر، و حصلانفاصل دون انزال، فهل تحقق بهذا القدر جنابة فيجب الغسل أو لا تتحقق فلا يجب؟ و هذا الموضوع جدير بشىء من البسط، فنقول:
ذهب جمهور العلماءإلى أن الوصف الموجب للغسل يتحقق بمجرد غيبوبة العضو، و استدلوا بمنقول و معقول.
أما المنقول فما روى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال: ((اذا جلسبين شعبها الاربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل)) متفق عليه، و لمسلم و أحمد: و إن لم ينزل)) و ما روى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اذا قعد بين شعبهاالاربع ثم مس الختان الختان. فقد وجب الغسل. رواه أحمد و مسلم و الترمذى) و الحديثان صريحان في أن الغسل لايتوقف وجوبه على الانزال. قال شراح الحديث: و قد ذهب إلى ذلكالخلفاء الاربعة، و العترة، و الفقهاء، و جمهور الصحابة و التابعين، و من بعدهم، و روى ابن عبدالبر عن بعضهم أنه قال: انعقد اجماع الصحابة على ايجاب الغسل من التقاءالختانين، قال: و ليس ذلك عندنا كذلك، ولكنا نقول: إن الاختلاف في هذا ضعيف و إن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف و الخلف انعقد اجماعهم على ايجاب الغسل منالتقاءالختانين، أو مجاوزة الختان الختان. و قال النووى: قد أجمع على وجوب الغسل متى غابت الحشفة في الفرج، و انما كان الخلاف فيه لبعض الصحابة و من بعدهم، ثم انعقدالاجماع على ما ذكرنا.
أما المعقول: فقد عرض له فقهاء الحنفية بقولهم: إن التقاء الختانين، أو غيبوبة الحشفة كما يعبرون سبب الانزال، و الانزال يغيب عن البصر وقد يخفى لقلته، فيقام الظاهر مقام الخفى)) و توضيح هذا أخذا من قواعد الاصول، أن المعنى الذى يترتب عليه حكم اذا كان خفيا و له سبب ظاهر يقام ذلك السبب الظاهر مقام ذلكالمعنى الخفى، و به يناط الحكم و الانزال في هذا المقام هو المعنى الذى يترتب عليه الغسل، و هو خفى عن بصر الشخص، و قد يخفى عن احساسه لقلة النازل، و له سبب ظاهر بحسب العرفو العادة، و هو الغيبوب أو التقاء الختانين، فيقام ذلك الظاهر مقام الخفى، و يدار الحكم عليه: إن وجد وجب
الغسل، حصل الخفى أو لم يحصل، و نظير هذاما قالوه في المشقة بالنسبة للسفر، و اقامة السفر عنوانا عليها حتى نيط به لا بها الحكم و هو الترخص، فقصر المسافر الذى يتقلب في النعيم و الراحة.
قال الجمهور:و بهذه الاحاديث الصحيحة المروية و بهذا المعنى المعقول المقرر في قواعد الاصول، وقع بيان المراد بالجنابة في قوله تعالى: ((و إن كنتم جنبا، و يصير معنى الاية على هذا، وإن خرج المنى منكم ظاهرا أو حكما عند وجود سببه وجب الغسل، و هو نوع من البيان و التفسير الذى أرشدت اليه مصادر البيان و التفسير.
و استدل غير الجمهور و منهمأبوسعيد الخدرى، و زيد بن خالد، و ابن أبى وقاص و معاذ، بالحديث المتفق عليه: ((انما الماء من الماء)) و هو ظاهر في أن الغسل لايكون الا بالانزال، ورد الجمهور عليهم بأن هذاالحديث لا ينهض لمعارضة حديث عائشة و أبى هريرة، لان عدم الغسل في حالة عدم الانزال مستفادة منه بطريق المفهوم، و هما يفيدان وجوب الغسل عند عدم الانزال بطريق المنطوق ومن المقرر أن المنطوق أرجح من المفهوم، و أن المفهوم لا يعارضه، و قالوا:
على فرض أن القضية الحاضرة تفيد الجانبين بطريق المنطوق، كما ذهب اليه بعض الاصوليين،فالحديث منسوخ بما روينا، و بما جاء صريحا في النسخ من رواية أحمد و أبى داود، عن أبى بن كعب قال: إن الفتيا التى كانوا يقولون: ((الماء من الماء، رخصة، كان رسول الله صلىالله عليه و سلم رخص بها في أول الاسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها)) و في لفظ: ((إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الاسلام، ثم نهى عنها)) رواه الترمذى و صححه.
وبهذا ثبت نسخ الماء من الماء بطريق النص و النقل، و مثل هذا لا سبيل إلى القول بانكاره، و بذلك تمت الحجة للجمهور، و صار من الواجب الدينى الحتم على المسلمين وجوب الغسلبالغيبوبة و إن لم يحصل انزال، و هذا مما يجب إن يعرفه كثير من المسلمين الذين جهلوا أحكام دينهم، و ساروا في عبادتهم بمقتضى
ما يعن لهم أويتبادر لاذهانهم، و لاحكام الدين قواعد في الفهم و الاستنباط لايعرفها الا من خصصوا أنفسهم لها.
ليس في الاية اشتراط الاغتسال من
الحيض في صلاةالمرأة أو حل قربها:
و كما دلت الايتان: ((و لا جنبا الا عابرى سبيل حتى تغتسلوا)) . ((و إن كنتم جنبا فاطهروا)) مع ضميمة البيان المتقدم - على أن موجب الغسل - انزال أوالتقاء دل قوله تعالى في سورة البقرة: ((و لا تقربوهن حتى يطهرن)) على إن الحيض مما يفقد صفة الطهارة التى هى شرط في صحة الصلاة، و أنه موجب للغسل كالانزال و الالتقاء، و قدوجه ذلك بعض الفقهاء فقال: دل قوله تعالى: ((و لا تقربوهن حتى يطهرن)) على وجوب الاغتسال بالنسبة للقربان، و بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة إلى القربان، و هو الذى سيقت لهالاية: ((و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض... الخ)) فقد غيا الله سبحانه حرمة القربان الذى كان حلالا بالاغتسال، فينبغى أن تنتهى الحرمة به، و يكونمباحا، و الا لكانت حرمة مؤبدة، و في ذلك نقض لما شرعه الله بالزواج و صرح به بعد في قوله: ((فاذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)) و في قوله: ((فأتوا حرثكم أنى شئتم)) و اذاكان الاغتسال شرطا لحل القربان، مع أن الطهارة عما سوى الحيض و النفاس ليست بشرط له في صورة من الصور، فلان يشترط الاغتسال لحل الصلاة التى اشترطت لها الطهارة عن جميعالنجاسات الحقيقية و الحكمية في كل الاوقات، أولى. و في النفس شىء من هذا البيان، فإن الآية المشار اليها لاتعلق لها بالصلاة و لا بطهارة الصلاة، و انما جاءتتقرر حكما وسطا في علاقة الرجل بزوجه وقت المحيض، فهل عليه أن يعتزلها اعتزالا كليا بمعنى أنه لا يؤاكلها، و لا يشاربها، و لا يضاجها، و لا يجالسها فيه، كما كان شأن فريقمن أهل الكتاب، أو له أن يخالطها مخالطة كلية بمعنى أنه لا يدع شيئا يريد أن يفعله معها الا فعله من أعمال
ظاهرة أو خفية، كما كان: شأن الفريقالاخر من أهل الكتاب؟ تردد المسلمون في هذا الشأن الذى كان فيه أهل الكتاب بين افراط و تفريط، و سألوا النبى صلى الله عليه و سلم عن حكم الله الذى يرشدهم اليه، فنزلت الايةترشد إلى أن الحيض ((أذى)) ضار مكروه، يؤذى البدن، و يفسد الصحة، فيجب البعد عنهن في هذه الحالة التى ينبعث منها ذلك الاذى حفظا للصحة، و احتفاظا بعاطفة المودة التى يفسدهاتقزز النفس من التلبس بتلك المادة.
و من هنا يبدو أن التطهر في هذه الاية لا يعدو أن يكون هو انقطاع دم الحيض و تعقب آثاره الباقية في المحل بالازالة و التنقية.و بهما يزول سبب حرمة القربان و هو الاذى. أما التطهر بمعنى الاغتسال فليس في الاية ما يدل على اشتراطه في حل القربان بعد زوال سبب المنع و هو الاذى، و اذا لم تكن الايةدالة على اشتراط الغسل في حل القربان، بطل الانتقال منه إلى وجوب الغسل لحل الصلاة، و قد تفرع في البيان السابق هذا على ذاك. و اذن فلا نرى في الايات دلالة على وجوب اغتسالالحائض لحل الصلاة.
السنة توجب الاغتسال من الحيض للصلاة:
نعم وجب ذلك بالاحاديث الصحيحة المكملة لبيان القرآن، و من هذه الاحاديث مارواه البخارى عنعائشة أن فاطمة بنت أبى حبيش، كانت تستحاض فسألت النبى صلى الله عليه و سلم. فقال: ذلك عرق و ليس بالحيضة، فاذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة، و اذا أدبرت فاغتسلى و صلى)) .أمرها النبى صلى الله عليه و سلم بالاغتسال حينما تدبر الحيضة، ثم أباح لها الصلاة، كما هو شأن المستحاضة.و بهذا يتبين أن التطهر بمعنى الاغتسال، مصدر وجوبه للصلاة انماهو السنة لا القرآن الكريم، و ليس في القرآن ما يدل على خلافه. و قد ثبت أن السنة مصدر مستقل في بيان الاحكام التى لم يعرض لها القرآن بالاثبات و لا بالنفى، علىأنه مما لايقبل من أحد خلافه أن السنة تلحق ما لم يعرض له القرآن بما عرض له متى وجد المعنى الذى لاجله كان الحكم القرآنى في الملحق
به. و اذاكانت الجنابة تحدث تهيجا في الاعصاب، و فتورا يحول بين المؤمن و نشاطه و تذكره، فإن نزول الحيض في مدته طالت أم قصرت له مثل ذلك الاثر في تهيج الاعصاب، و ضعف النشاط، وفقدان التذكر، و الماء الذى يعم الجسم يقضى على كل ذلك، فيعيد لالعصاب اعتدالها، و للنشاط توافره، و للتذكر قوته و هذا هو الذى نراه في الموضوع، و إن كان ما ذكره بعضالفقهاء لايخلو عن شىء من الطرافة في التخريج و الاجتهاد.
هذا ما أردنا وصله بحديثنا في العدد السابق، على قوله تعالى ((و إن كنتم جنبا فاطهروا)) ، و بذلك تمالكلام على الطهارتين الاصليتين اللتين و سيلتهما الماء: الصغرى، المعروفة بالوضوء و الكبرى: المعروفة بالاغتسال.
التيمم و أسراره التشريعية:
و لما كانالإنسان عرضة لان يفقد الماء، أو يعجز عن استعماله، أو يشق عليه استعماله و كانت الصلاة كتابا موقوتا على المؤمنين، يستشعرون بها عظمة مولاهم في أوقاتها المتكررة فياليوم و الليلة، و ينمون بها مراقبته التى هى حصن، و وقاية لهم من السوء و الشر في قلوبهم، اعتبر لهم مادة أخرى يتخذون منها طهارتهم في تلك الاحوال، و هى ((الصعيد الطيب)) والتيمم به تحصيلا لتلك الطهارة التى اشترطها لصحة الصلاة، و أعطى التطهر بها حكم التطهر بالاصل و هو الماء، مادامت حالة فقدان الماء او العجز عن استعماله أو مشقته قائمةكونه طهارة رمزية تطمئن بها القلوب و يحافظ بها على الصلوات: و في الواقع إن مشروعية الطهارة بالبدل في هذه الاحوال، انما هو لقصد اقرار التطهر للصلاة فيالنفس، و إن الترك في أوقات الاعذار للطهارة الاصلية - و قد تمتد تلك الاوقات أو تكثر - لسبيل بحسب العرف و العادة إلى التهاون بها في غير أوقات الاعذار، و لا يجهل أحد ماتخلفه المواظبة من ملكة الاحتفاظ بأصل المطلوب. و هذا مبدأ يقرره و يعرفه رجال التربية و النظام. نرى ذلك في تدريب الجنود على أعمال الحروب، و نراه في الايماء للصلاة فيأوقاتها عند
العجز عن الحركات، فلو ترك الإنسان مدة تلك الاعذار بدون خلف يمثل له الواجب الاصلى ((و يجعله منه على ذكر دائم، و يراه ماثلاًبمعناه في الخلف لكان ذلك سبيلا بحكم العادة إلى التهاون بالاصل عند انقطاع تلك الاعذار. و قد أشار إلى ذلك الشيخ الشعرانى في الميزان و ضرب له مثلا: ما قاله العلماءفي باب الحج ((إن من لا شعر برأسه يستحب له امرار الموسى عليه تشبها بالحالقين)) ، و أفصح عنه المحدث الدهلوى في كتابه ((حجة الله البالغة)) ، فقال: لما كان من سنة الله فيشرائعه أن يسهل عليهم كل ما يستطيعونه، و كان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل لتطمئن نفوسهم، و لا تختلف الخواطر عليهم، باهمال ما التزموه غاية الالتزام، ولا يألفوا ترك الطهارات - أسقط الوضوء و الغسل في المرض و السفر - إلى التيمم.
و لما كان ذلك كذلك، نزل القضاء من الملا الاعلى باقامة التيمم مقام الوضوء والغسل، و حصل له وجود تشبيهى أنه طهارة من الطهارات، و هذا القضاء أحد الامور العظام الذى تميزت بها الملة المصطفوية من سائر الملل، و هو قوله صلى الله عليه و سلم ((جعلتتربتها لنا طهورا اذا لم نجد الماء)) .
تشريع البدل حين لايمكن الاصل مبدأ تربوى يراد به تركيز خلق المافظة على التكاليف:
و إن من يقف عند هذا المبدأالتربوى، ثم ينظر فيما شرعه الله من أصول و أبدال في أحكام العبادة و غيرها، يجده ماثلاً فيها: يجده في الصلاة كما سبقت الاشارة اليه، و يجده في الحج كما جاء في عبارةالشعرانى، و يجده في الصوم بالاطعام و يجده في العقود و التصرفات التى يكون اللفظ أداة لها - بالاشارة- كما نجده في اصل الامر كله و هو التوحيد، و التنزيه، بالاشارة إلىجهة الرفعة و السمو، و كل ذلك لا يعدو فيما نرى قاعدة التركيز و التثبيت للاحكام الاصلية في نفوس المؤمنين حتى يكونوا مستمرين عليها بحقائقها أو مثلها، و حتى يكمل شعورهمبلزوم مراقبتها و المحافظة عليها، و عدم النهاون فيما ما داموا يرون أن الله
يعتبر لها بدلا يخلفها و يطالبون به، و إن لم يحقق ذلك البدلالمعنى الذى يعقلونه و يدركونه من التكاليف الاصلية، و لعله يتضح بذلك لحضارت قراء الرسالة الحكمة في تلك البدلية التى عقدها الله بين الماء، و التراب، و الوضوء، والتيمم.
من حكمة الله و رحمته أنه لم يجعل البدل من الماء شيئا يعز وجوده:
و من حكمة الله أنه لم يجعل البدل شيئا يعز وجوده، أو يصعب استعماله علىأحد من خلقه، فالصعيد الطيب، و بخاصة عند من لا يشترط فيه ترابا، ملازم للانسان في وجوده أين كان و تلك رحمة إلى رحمة: و أنه اقتصر فيه على ما يحقق الرمز والوجود التشبيهى للطهارة الاصلية:
و رحمة ثالثة، هى أنه اقتصر منه على ما يحقق الرمز و الوجود الشبهى، و كان مظهر ذلك في الاقتصار على مسح بعض أعضاء الوضوء، وهو الوجه و الايدى فقط، و رحمة رابعة، هى أنه ساق مسح هذين العضوين بصيغة ليس لها دلالة على ارادة تعميمهما بالمسح عل نحو تعميمهما بالماء في الوضوء، فعدى المسح إلىالوجوه بالباء على نحو ما عداه بالرأس في الوضوء، و بذلك كانت هنا مجالا للخلاف الذى هناك. و عداه كذلك إلى اليدين دون ذكر الغاية، و بذلك فتحت باب الاكتفاء بمسح ما تطلقعليه كلمة ((أيدى)) و بذلك صح الاقتصار فيه على مسحهما إلى الرسغين، اذ كان اطلاق اليد على هذا القدر شائعا عند العرب، معهودا في القرآن. و رحمة خامسة: هى أنه لميطلب أكثر من المسح بعد تيمم الصعيد الذى يصدق بقصده و لو مرة واحدة، و حسبنا في هذا حديث عمار في رواية الصحيحن، فقد صرح فيه أن التيمم بضربة واحدة يمسح بها الوجه والكفين، و هذا كله مما يحقق المعنى الذى قلناه في معنى الخلفية، و قرره غيرنا من قبلنا.
و مما يزيد ذلك وضوحاً: الاكتفاء بالوجود الشبهى على صورة واحدة في حالةالحدث الاصغر الذى طهارته الوضوء و الحدث الاكبر الذى طهارته الغسل.
ذلك أن الرمز لايقصد منه تمام مشاكلة البدل للاصل و انما يقصد منهالاحتفاظ بتعود، الاصل و المواظبة عليه. وترى هذا ماثلاً في حديث أبى ذر عند أصحاب السنن مرفوعا و صححه الترمذى ((إن الصعيد الطيب وضوع المسلم، و إن لم يجد الماء عشر سنين)).
و نراه في حديث عمار في رواية الصحيحين ((أتى رجل عمر رضى الله عنه، فقال: انى أجنبت و لم أجد ماءً، فقال له عمر. لا تصل فقال عمار: أما تذكر يأميرالمؤمنين اذ أناو أنت في سرية... فأصابتنا جنابة... فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، و أما أنا فتمعكت في التراب و صليت. فقال صلى الله عليه و سلم: انما كان يكفيك أن تضرب بيديك في الارض، ثمتنفخ، ثم تمسح بهما وجهك و كفيك إلى الرسغين)) ؟ و هنا قال الشوكانى، و بهذا يتبين أن أحاديث الضربتين لا تخلوا جميع طرقها من مقال، و لو صحت لكان الاخذ بها متعينا لما فيهامن الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصح الزيادة على ذلك المقدار.
و لا ريب أن هذا كله مما يحققالمعنى الرمزى و التشبيهى الذى عنينا في هذا المقام بابرازه و الدلالة عليه، و من الواضح أنه لا شأن لمعنى النظافة، و التنشيط فيما يتعلق بالتيمم، و انما هو معنى رمزى،يثبت معنى الامتثال الربانى للامر، و يغرس في النفس ملكة المواظبة و الحرص على تنفيذ الاوامر و الاستمرار عليها، و هذا معنى يحقق الطهر القلبى، و التزكية الروحية التى هىأثر الايمان الحق، و التى هى الغاية من سائر التكاليف الالهية، و لعل قوله تعالى في آخر الاية:
((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم و يتم نعمتهعليكم لعلكم تشكرون، و اذكروا نعمة الله عليكم و ميثاقه الذى و اثقكم به اذ قلتم سمعنا و أطعنا و اتقوالله إن الله عليم بذات الصدور)) .
لعل هذا التذييل جاءمرشدا و منبهاً على هذا المعنى الذى أو ضحناه في هذا المقام.
بحث حرفي الاسباب المبيحة للتيمم كما تفيدها الاية و بيان اضطراب الجمهور فيشأنها:
بقى بعد ذلك النظر في قوله تعالى: ((و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)) من جهة ماتذل عليه من الاسباب المبيحة لتلك البدلية. و نحن في هذا المقام نريد أن نقف بأنفسنا أمام هذه الجملة من آية الطهارة، ناظرين في تلك الوقفة فقط إلى صلتهابالجملتين السابقتين لتعرف بمجرد النظر في الاسلوب الاحوال التى تريد الاية أن تضع لها أحكامها من جهة الطهارة و استباحة الدخول في الصلاة. و بهذه النظرة نجد آية الطهارةتسوق شرطيات ثلاث: تخاطب المؤمنين أولا، و تسوق لهم شرطيتين تبين فيهما حكم الحالة التى هم عليها بحسب الطبيعة و العادة، و هى حالة الاقامة، و وجود الماء و القدرة علىاستعماله، و ترشدهم إلى أنهم اذا أرادوا الصلاة - و كانوا طبعا على حالة من الحدث المنافي للصلاة، وجب عليهم أن يتطهروا: طهارة صغرى إن كان الحدث أصغر، و هى الوضوءالمذكور في الشرطية الاولى و هى قوله: ((اذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق، و امسحوا برءوسكم و أرجلكم إلى الكعبين)) . و طهارة كبرى إن كان الحدث اكبرو هى غسل المذكور في الشرطية الثانية، و هى قوله تعالى: ((و إن كنتم جنبا فاطهروا)) و ظاهر أن الحكم في هاتين الحالتين لم يدخل في حيثياته سوى الاعتبارات الطبيعيةالجارية على الناس بحكم العرف و العادة، لم ينظر
فيها إلى طارىء عليهم من مرض أو سفر، أو فقدان ماء، أو عجز عن استعماله، و بعد هذا صار من الحتماستيفاء لاحكام هذه الاحوال الطارئة أن نعرفها، و أن نعرف أساس الحكم فيها من هذه الطوارىء، فجاءت الشرطية الثالثة تبين لنا الحكم في ظل تلك الطوارىء، و لما كان الاصلالذى عليه الناس هو صحتهم، و اقامتهم، و وجود الماء فيما بينهم، و على هذا الاصل جاء الحكم في الشرطيتين السابقيتين، كان من الضرورى أن تعرض الاية للاحوال الطارئة علىهذا
الاصل، و هي أحوال المرض و السفر، و عدم وجود الماء، فذكرت الشرطية الثالثة الحكم في الاحوال الثلاثة بعناوينها الخاصة فقالت: ((و ان كنتممرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لا مستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا)) و على هذا يكون ((المرض)) عارضا، مبيحا للتيمم بنفسه دون أى اعتبار آخر معه، سواءصحبته اقامة أم سفر، أو وجود ماء أو فقده، أو حدث أصغر أو أكبر، و يكون ((السفر)) عارضا، مبيحاً للتيمم بنفسه دون أى اعتبار آخر معه سواء صحبه مرض أو صحة أو وجود ماء أو فقدهفي حدث أصغر أو أكبر، و يكون ((فقد الماء)) عارضاً مبيحاً للتيمم بنفسه صحبته صحة أم مرض، اقامة أو سفر، في حدث أصغر أم أكبر، وبهذا تكون الشرطية الثالثة جاءت لبيان أحكامالحالات التى طرأت على ما هو الشأن في الناس من الاقامة، و الصحة، و وجود الماء.
هذا هو الذى نفهمه من الاسلوب القرآنى بمجرد النظر فيه و تتبع الاحوال التى دلتعليها العادة الجارية، و أشارت إلى ما يحلفها العناوين الخاصة التى ذكرت في تلك الشرطية من ((المرض)) و السفر، و عدم وجدان الماء)) و بذلك يكون ((المرض)) مبيحاً للتيمم كيفكان، و على أى حال كان المريض، و يكون ((السفر)) مبيحاً للتيمم كيف كان، و على أى حال كان المفاسر، و يكون ((عدم وجدان الماء)) مبيحاً للتيمم كيف كان الفاقد له، و على أى حالكان، فالمريض يتيمم، و المسافر يتيمم، و فاقد الماء يتيمم، و كلها أسباب مستقلة مبيحة للتيمم.
هذا و قد سبقنا إلى هذه النتيجة الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده،و وافقه فيها الاستاذ الشيخ رشيد رضا في تفسيره، و يجدر بنا أن نسوق في هذا المقام كلمة الاستاذ الامام و هو بصدد تفسير آية النساء. قال: المعنى، أن حكم المريض و المسافراذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثاً أصغر، أو ملامس النساء، فعلى كل هؤلاء التيمم فقط، هذا ما يفهمه القارىء من الاية نفسها اذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراءالقرآن، يجعلها بالتكلف حجة له، منطبقة عليه، و قد طالعت
في تفسيرها خمسة و عشرين تفسيرا فلم أجد فيها غناء، و لا رأيت قولا فيها يسلم منالتكلف، ثم رجعت إلى المصحف وحده، فوجدت المعنى واضحاً جلياً، فالقرآن أفصح الكلام وابلغه واظهره، وهو لا يحتاج عند من يعرف العربية: مفرداتها و أساليبها إلى تكلفاتفنون النحو و غيره من فنون اللغة عند حافظى أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل ملكة البلاغة. ثم قال الشيخ رشيد إلى آخر ما أطال به في الانكار على المفسرين الذين عدوا الايةمشكلة لانها لم تنطبق على مذاهبهم انطباقا ظاهرا سالما من الركاكة و ضعف التأليف. ثم قال الشيخ رشيد: و اذا كان رحمه الله راجع خسمة و عشرين تفسيرا رجاء أن يجد فيها قولا لاتكلف فيه، فأنا لم أراجع عند كتابة تفسيسرها الا روح المعانى، و هو آخر التفاسير المتداولة تأليفا، و صاحبه واسع الاطلاع، فاذا به يقول: ((الاية من معضلات القرآن، و لعلهابعد تحتاج إلى نظر دقيق)) . قال الشيخ رشيد: و و الله ان الاية ليست معضلة و لا مشكلة، و ليس في القرآن معضلات الا عند المفتونين بالروايات و الاصطلاحات و عند من اتخذواالمذاهب المحدثة بعد القرآن أصولا للدين يعرضون القرآن عليها عرضا، فاذا وافقها بغير تكلف، أو بتكلف قليل فرحوا، و الا عدوها من المشكلات و المعضلات، على أن القاعدةالقطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه و سلم، و عن خلفائه الراشدين رضى الله عنهم، أن القرآن هو الاصل الاول لهذا الدين، و أن حكم الله يلتمس فيه أولا، فإنوجد فيه فمنه يؤخذ و عليه يعول، و لا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، و ان لم يوجد التمس من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، على هذا أقر النبى معاذا حين أرسله إلى اليمن، و بهذاكان يتواصى الخلفاء و الائمة من الصحابة و التابعين)) .
أما الجمهور فقد قالوا: ان المذاهب المعروفة عندنا لاتبيح التيمم للمسافر الا عند فقد الماء، و لايمكنأن يعقل ذلك من أرباب المذاهب كلها الا اذا كان لديهم أصل لذلك الحكم يجعلهم يقفون أمام الاية هذا الموقف الذى وقفوه، و كانت به في نظرهم من المشكلات المعضلات، ولكن أىأصل هذا الذى يقف أمامهم قبل القرآن و يجعلونه حكما على القرآن؟ قالوا: ان الاحاديث و الروايات التى:
ذكرت السفر و التيمم فيه، كانت كلهامجمعة على أن القوم لم يكن عندهم ماء و هم على سفر، و أن التيمم أبيح لهم و هم على تلك الحال، و نحن نقول: أبيح لهم التيمم و هم على تلك الحال، و هل منعوا منه و هم على سفر معوجود الماء؟ لم يرد ذكر حالة مثل هذه، و ليست الاباحة في الحالة التى وقعت لهم مانعة من الاباحة في مثل تلك الحالة اذا وقعت، و لم يوجد نص قولى يعم الاحوال كلها، و يحدد مايباح التيمم فيه للمسافر و ما لا يباح، فكل ما ورد وقائع أحوال لاعموم لها و لا تدل على انتفاء الحكم في غيرها. قالوا: ان ذكر السفر هنا لدفع توهم أنه مرخص بذاته، كما عرف لهذلك في الصلاة و الصوم، و كأنه يقول: ان السفر في هذا الباب ليس مرخصا بذاته، و لا أثر له في اباحة التيمم الا اذا عدم الماء كالمقيم سواء بسواء، و لعلهم يقولون بمثل ذلك فيالمرض و يمنعون تيمم المريض متى كان الماء موجودا، و إلى هذا ذهب بعض الفقهاء، و نحن نقول: كان يكفى الاقتصار على عدم وجود الماء، فيعم الاحوال كلها، و يفهم ذلك الذىتقولون من مجرد الاقتصار على عدم الماء، و من المعلوم أن الرخصة لا تثبت لحالة خاصة الا اذا نص عليها، و ما لم ينص عليها، يعممها الحكم دون استثناء ثم كيف يقبل أن المرضلايبيح التيمم، و عندئذ يقولون دفعا لهذا: ان المراد بعدم الوجدان عدم القدرة على استعماله و الانتفاع به، و يكون بذلك عدم الوجدان مستعملا في حقيقته و مجازه فإن قالوا:دل على هذا الاستعمال قاعدة نفى الحرج و ما أباحه الله من الرخص في حالة المرض، قلنا: و بمثل هذا يقال في السفر، فقد أباح الله فيه، كما أباح في المرض الافطار في رمضان، وقصر الصلاة و الجمع بين الصلوات، و ما إلى ذلك من سائر الرخص التى رتبها الشارع عليهما معا.
و يقول الشيخ رشيد هنا: هل يقول منصف ان صلاة الظهر أو العصر أربعا فيالسفر أشق من الغسل أو الوضوء فيه، و ضرب مثلا بالجوارى المنشآت في البحر كالاعلام، و قال: ان الماء فيها كثير دائما، و في كل باخرة منها حمامات ولكنها خاصة بالاغنياء، وان هؤلاء الاغنياء أنفسهم منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال أو يشق، و اذا كان هذا هو حال السفن و حال الوضوء
فيها بالنسبةللغسل و الوضوء، فما يكون الحال بالنسبة لها في قطارات السكك الحديدية أو قوافل الجمال و البغال.
و أخيرا فالرأى أنه اذا ثبت من طريق موثوق به واقعة حال منعفيها التيمم للمسافر مع وجود الماء، أو ثبت نقل صحيح لاجماع صحيح على منع التيمم لذلك المسافر، كان ذلك أساس لقبول رأى الفقهاء في الموضوع، و كان في الوقت نفسه موجبالتخريج الاية على النحو الذى يتفق مع ما صح ثبوته من وقائع الحال أو صريح الاجماع. أما و الحال كما تعلم من أنه لاثبوت لمثل تلك الواقعة، و لا تصريح بنقل ذلك الاجماع فإنالفقيه في حل من أن يفهم الاية و يخرجها على ما تقتضيه اساليب اللغة، و تشهد به أصول التشريع فيما يختص بالعزائم و أسباب الترخص، و نرجو أن يكشف الله لنا و لغيرنا الغطاءفي أمثال هذه المسألة، كشفا تطمئن اليه القلوب، و يقلل من نوازع الخلافات الفرعية التى تقع في دائرة ما أباح الله فيه النظر و الاجتهاد.
ما تدل عليه الاية مننواقض الطهارة:
هذا و قد دلت الاية عن طريق ايجاب التيمم عند فقد الماء في حالة المجىء من الغائط الذى كنى به عن قضاء الحاجة الانسانية، و في حالة المخالطة الجنسيةالذى كنى عنها بملامسة النساء، دلت على أن هذين الامرين: قضاء الحاجة، و الملامسة، ناقضان للطهارة، و قد تكلم الفقهاء طويلا على نواقض الوضوء، و توسعوا فيها على حسباختلاف درجاتهم في الرواية و الاعتداد بها، و في القياس و الالحاق و الاعتداد به، و لم يتفقوا في هذا الباب الا على انتقاض الوضوء بالبدل و الغائط و الريح و المذى و الودى،اذا كان خروجها على وجه الصحة و اختلفوا فيما عدا ذلك: اختلفوا في النجس يخرج من الجسد، فقيل: كل نجاسة تسيل من الجسد و تخرج منه يجب منها الوضوء، و على ذلك يكون الدم، والرعاف الكثير، و الفصد، و الحجامة و القىء ناقضة للوضوء... و قيل: الناقض هو كل ما خرج من السبيلين معتادا كان أم غير معتاد، على وجه الصحة، أم على وجه المرض و قيل انالناقض للوضوء هو كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه اذا كان خروجه على وجه الصحة. و اختلفوا في النقض بالنوم. فقيل: هو ناقض قل أو كثر، و قيلهو ليس بناقض، و انما الناقض هو ما يحدث فيه بيقين، و لا فرق عند هذين بين قليل النوم و كثيره، و فرق آخرون بين القليل الخيف و الكثير الثقيل، كما فرق غيرهم بين الكيفياتالتى يكون عليها النائم من جهة التمكن أو عدمه و اختلفوا في النقض بلمس النساء باليد أو بغيرها، فذهب قوم إلى أنه ناقض على اختلاف بينهم في التفصيل، و ذهب آخرون إلى عدمنقضه، و لاختلافهم في المراد من الملامسة في الاية دخل كبير في الاختلاف في هذا الحكم، و الذى نراه أن النقض باللمس العادى لم يصح فيه شىء من الاحاديث في حين أنه صح أنعائشة رضى الله عنها وضعت يدها على قدم النبى صلى الله عليه و سلم و هو يصلى في المسجد، و لو أنه كان من النواقض لتوفرت الدواعى على نقله لكثرته و لاتصاله بصحة العبادة وفسادها.
و اختلفوا كذلك في النقض بمس الفرج، و من أراد الاحاطة بآراء الفقهاء في النواقص و حججهم المختلفة فيها فليرجع إلى كتب الفروع، فمجالها في ذلك أوسع، وبيانها و حجاجها أتم.
أما الاية فلم يثبت بهاناقض الاقضاء الحاجة المعتادة، و المخالطة الجنسية، أما ما عداهما فإن صح بشىء منه رواية عن النبى صلى الله عليه وسلم فانه يجب الاخذ بها و العمل بمقتضاها، و يكون ذلك من باب البيان التكميلى للقرآن عن طريق السنة.
قاعدة اليسر و نفى الحرج في هذا التشريع و غيره،
و وجوب مراعاتها على الناظرين في أحكام الدين: هذا و قد ذيل الله آية ((الوضوء)) بالاشارة إلى القصد من هذا التشريع بما يرجع إلى تزكية النفس و تطهيرها، وتنظيف الإنسان و تنقيته، و بوضع هذه القاعدة العظيمة التي كانت محققة لسهولة الاسلام و يسره، و عدم اتجاهه فيما يشرع إلى شىء من الاعنات و الارهاق، و هي قاعدة نفى الحرجفي أحكام الدين عامة بقوله:
((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) و قد ذكرت هذه القاعدة في سورةالحج بما يدل على عمومها في الدين كله ((و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل، و في هذا ليكونالرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى و نعم النصير)) .
و جدير بمن ينظرون في أحكامالدين و يعالجونها و يدعون الناس إلى اتباعها أن يجعلوا هذه القاعدة الالهية التى وضعها الرحيم بخلقه نصب أعينهم، فلا يحملهم ضيق الصدر، أو حب الظهور بالمخالفة علىالاعنات و المشاقة التى كثيرا ما تصرف عنهم و عن بيانهم و ارشادهم، و ربما تفاقم الامر فكرهوا الدين، و كرهوا أحكامه، فرارا من التنطع و المشاقة، و ارادة قهر الناس بما لايصحح لهم عبادة و لا يزكى لهم نفسا، و لا يرقى لهم حياة ((يسروا و لا تعسروا)) و قد كان النبى يختار أيسر الامرين اذا خير، فهذه هي قاعدة الدين، و هذا هو شأن الرسول في علاجالامة و تعليمها، فإن كنتم تحبون الله فاتبعوه، و الا كنتم منه على جانب، و كان منكم عمله و شرعه على آخر.
نعمة الله على المؤمنين و ميثاقه الذى واثقهمبه:
ثم انتهزت الاية فرصة رحمة الله في التشريع بعباده المؤمنين، و طلبت منهم أن يذكروا نعمة الله عليهم به من جهة انقاذهم من الشرك و الوثنية، و من جهة تآلفهمو تطهير قلوبهم من العصبية و البغضاء، و من جهة ما أفاض عليهم من تشريع لو أحسنوا سياسة أنفسهم به لظل مدد العز الالهى واصلا اليهم، و حافظا لهم من التدهور و الانتكاس ((واذكروا نعمة الله عليكم و ميثاقه الذى واثقكم به اذ قلتم سمعنا و أطعنا و اتقوا الله ان الله عليم بذات الصدور)) . و إلى اللقاء في العدد المقبل ان شاء الله. ولعلنا نبدأ الكلام بشىء من البيان لهذا الميثاق الذى واثق الله به المؤمنين، و ربط به هذا التشريع الحكيم.