تَفسْيرُالقُرآن اِلكَريْم
لحَضرَةً صَاحِب الفضيلة الأسْتاذ الجَليل الشَيخ مَحمود شَلتُوت
سُوَرةالبقرَة
لَيْسَ الْبِرَّ اَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قَِبَلَ الْمشَرِقِ وَالْمَغرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَ امَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ والملئكةوَالكِتب وَالنَّبِيِنَ وَءَاتَى الْماَلَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُربَى وَ القُربَى وَالْيَتَمَى وَ الْمَسَكينَ وَ ابْنَ الْسَّبِيلِ وَاْسَّآِليِنَ وَفىالرِقابِ وَ أَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزّكَوَةَ وَالْموُفَن بِعَهدِهمِ إِذا عَهدَُى وَالصَّبِرينَ فَى الْبَأسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِاُولَئِكَ الذَّيِنَ صَدَقُوا وَ أولَئك هَمُ الْمُتَّقُونَ.
تقع هذه الآية الكريمة من سورة البقرة فى مكان هو واسطة عقد ينتظم هَدَفَيْها، تصور لنا حبّات أحدجانبيه توجيه الدعواة إلى بنى اسرائيل فى سياق يبدأ من قوله تعالي: «يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بهدكم و إياى فارهبون و آمنوا بماأنزلت مصدقا لما معكم و لا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلا،و إياى فاتقون، ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق و أنتم تعلمون، و أقيموا الصلاةواتوا الزكاة و اركعوا حمع الراكعين» ثم تأخذ فى تذكيرهم بنعم الله على أسلافهم فتذكرهم بالإنجاء من
/ صفحه 118/
آل فرعون، و بَفْراق البحربهم، وبميقات موسى لاستلام التوراة، ثم بعفو الله عنهم بعد أن نكثوا عهد موسى و اتخذوا العجل من بعد، ثم بتظليل الغمام عليهم و إكرامهم بإنزال المن و السلوى، و بتلبية موسى فىاستسقائه ربَّه لهم، و بتمكينهم مما طلبوا من أنواع الأطعمة،إلى آخر تلك النعم التى قصتها السورة علينها من هذا الجانب، ثم تذكر هم بلون آخر يرجع إلى ما ارتكبه أسلافهممن أنواع العناد و المكابرة، و ألوان الشبُّه التى كانوا يضعونها عقبات للحيلولة بين الناس و بين الإيمان بمحمد (صلى الله عليه و سلم) الله عليه و سلم، فُتذَكرهمباعتدائه فى يوم السبت، و عقاب الله لهم على هذا الاعتداء، و موقفهم من موسى فى ذبح البقرة التى أمروا بذبحها كشفا لجريمة القتل التى وقعت فيما بينهم و جهل فاعلها، ثمبتحريفهم كلام الله من بعد ما عقلوه، و اشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً، وبذعمهم إن النار لن تمسهم الا أياما معدودة، وباعتدائهم على الأنبياء بالتقتيل و التكذيب بعدأن أخذ الله عليهم العهود و الموائيق، و بإعراضهم عن الإيمان بمحمد بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، و ببيان خطئهم فى زعمهم أنالدار الأخرة خالصة لهم من دون الناس، و هكذا إلى أن بينت موقفهم من ابراهيم و أنهم بعيدون عن الحق الذى دعا إليه ابراهيم، و وصّى به بنيه، كما وصى به يعقوبُ من بعد: «يابَنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و إنتم مسلمون».
ثم جاءت هذه الآية الكريمة إثر بيان الحق فى موقفهم من الرسول فى مسألة، القبلة، واهتمامهم بشأن التوجهإلى ناحية دون ناحية، و اعتبارهم أن ذلك عنوان الحق، و آية التدين، و أساس الإيمان و الإخلاص فى عبادة الله، و ذلك حيث تقول السورة: «سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عنقبلتهم التى كانوا عليها، قل لله المشرق و المغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم».
و يتلخص شأن هذه المسألة فى أن المسلمين كانوا يتجهون أولا فى صلاتهم إلى بيت المقدس،ثم أمرهم الله بالتوجه الى الكعبة لِحكَم و شئون يوحِى بها قوله تعالى: «و ما جعنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسوب ممن ينقلب على
/صفحه 119/
عقبيه» و قوله تعالى: «قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنو لينك قبلة ترضاها فول وجهل شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فوالوا وجوهكم شطره».
اتجه المسلمونإلى الكعبة كما أمرهم الله، و كان ذلك مثارا لثورة فكرية جدلية فى أحضان النبوة، و فى أوائل عهدهم با المدينة. و شغلت بذلك جميع الطوائف من مسلمين و أهل كتاب حتى كادواينصرفون بها عن إدراك الحق الذى يريده الله، و عن طريق البر الواضح الذى رسمه الله، و الذى يجب أن تنصرف إليه الأنظار و تتوجه إليه القلوب
جاءت هذه الأية تنبه محمدا(صلى الله عليه و سلم) و أصحابه إلى أن ثورة هؤلاء فى هذا الشأن ليست ثورة طلاب الحق، و إنما هى ثورة العناد و المكابرة، و تلمس معاذير الإعراض و النفور «و إن الذينأوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم و ما الله بغافل عما يعملون، و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل اية ما تبعوا قبلتك، و ما أنت بتابع قبلتهم، و ما بعضهم بتابع قبلةبعض. و لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذن لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون الحقمن ربك فلا تكونن من الممترين».
جاءت تلك الإيات التى تلوناها تكشف لمحمد و أصحابه عن نوايا هؤلاء، و الدوافع النفسية التى دعتهم إلى هذا الموقف من مسألة القبلة، كماجاءت أية البر تعين لجميع الطوائف أن موقف المتحدثين فى هذا الشأن ليس مما يتفق مع حقيقة البر الذى يجب أن تمتليء بها القلوب الصافية، و أن قول من قال: لو كان محمد على حقلما اتجه يوما إلى بيت المقدس و يوما إلى المسجد الحرام، و قول من قال: قد رجع محمد إلى قبلة العرب و سير جع إلى دينهم؛ كلاههما بعيد عن الجادة لم يقصد به إلا تلبيس الحقبالباطل، و إطفاء ذلك النور الذى جاء به محمد، و أخذت القلوب تتففتح له، و العيون ترنو إليه.
هذا هو أحد الجانبين اللذين تصورهما سورة البقرة، فيما قبل هذه الآية: آيةالبر و تصور لنا حبّات الجانب الآخر بعد هذه الأية ما يجب على المؤمنين
/ صفحه 120/
أن يتخذوه أساسا فى البر بأنفسهم و اُمتهم و مجتمعهم، فى جناياتهم وعباداتهم، و فى علاقتهم بمن يخالفهم فى الدين، و فى نظام الأسراة بينهم، و فيما يوجبه عليهم تضامنهم الاجتماعي، و فيما يطهر مجتمعهم من مساويء الطغيان المالي، و فيما يجبأن يتخذوه من وسائل الاستيثاق فى الحقوق المدينة، و يبدأ هذا السياق من قوله تعالي: « يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى» إلى قبيل آخر السورة، و الاعتكاف، وتحذر من أكل أموال الناس بالباطل، و تذكر الأهلة، و أنها هى التى يعتمد عليها فى المواقيت الدينية للناس، كالصيام و الحج وعدة النساء و مدة الإيلاء، و تذكر بواعث القتال والغاية التى ينتهى عندها القتال، و تذكر الحج والعمرة، وتذكرا الخمر والميسره، واليتامى واصلاحهم، وحكم مصاهرة المشركين أو الإصهار إليهم، و تذكر حكم المحيض، و و جوبتوقى أذاه، و تذكر الأ يمان و الإيلاء من النساء، و تذكر الطلاق و العدة، و الخلع، و الرضاع، و تذكر الإنفاق فى سبيل الله، و تضرب لجزائه الأمثال فى المضاعفة، و تذكر أدبه،و تجذر من الرياء فيه، و تضرب له الأمثال، و تذكر الربا و خطأ الناس فى إلحاقه بالبيع، و تتوعد عليه: بالمحق، وتعلن حرب الله على من أتخذه اساساً له فى الحياة، وتختم ذلكبقوله تعالى «و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون» ثم تذكر كتابة الديون، و إملاءها و الإشهاد عليها، و تبين حكمة ذلك بما يرجع إلى تحقيق العدل بين الناس وحفظ الحقوق،كما تذكر الرهن إذا لم تتيسر الكتابة، ثم تحذر كتمان الشهادة « ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم ومن يكتمها فإنه آثم قلبه » مع بيان سنة الله فى تكليفعباده وفى مؤاخذتهم « لا يكلف الله نفسا الا وسعها » » ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا » وبذلك يلتقى ـ كما قلنا سابقا ـ آخر السورة مع أولها .
هذه حبّات جانبىالعقد الذى ينتظم موضوعات سورة البقرة والتى جاءت آية
/ صفحه 121/
البر واسطة لها، ونسردها على هذا النحو بين يدى تفسيرنا لهذه الاية الكريمة، التىاخترناها لهذا العدد من « رسالة الإسلام » .
وقد سلكنا بهذا الصنيع سبيلا غير التى ألفها الناس فى التفسير، لنضع بين يدى القارئ الموضوعات التى عرضت لها السورة فيماقبل هذه الاية، والموضوعات التى عرضت لها فيما بعدها، فى سلك واحد يجمع بينحبات كل جانب، ويعطى للناظر اليه صورة كاملة لجميع ما احتوت عليه تلك السورة الكريمة، وتعينهعلى الرجوع بكل مسألة فيها الى نوعها وغرضها التى ترتبط فيه مع زميلاتها.
ولعل القراء يلمسون من هذا الصنيع أيضا، ذلك المعنى الذى يوحى به اهتمام السورة فى الجانبالأول من جانبيها اللذين تحدثنا عنهما بتتبع أنباء بنى إسرائيل القديمة، ونقصيها على هذا النحو العجيب، المؤذن بأن هذا الكتاب صادر من الله العليم الحكيم الذى يعلم غيبالسموات والأرض، فهو ينبئهم بتفاصيل تاريخهم، ودقائق أحوالهم، ويصور لهم ذات صدورهم، مما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويشعرون معه بأن هذا الكتاب حق، وأن هذا النبى حق،كما يوحى اهتمام السورة فى جانبها الآخر بعظمة هذا الدين، وكونه منهاجا واضحا، وصراطا مستقيما يهدى للتى هى أقوم، ويرسم للناس طريق السعادة، ويهيئ للأمة حياة هانئةمستقرة، ونظاما قويا يعيشون فى ظلاله آمنين مطمئنين.
واذ تمهد لنا ذلك، فلنأخذ فى تفسير الاية الكريمة فنقول :
و ردت كلمة «البر» فى مواضع متعددة من القرآنالكريم: منها هذه الآية، و منها قوله تعالي: « و ليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى». و قوله تعال: « لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون». و قولهتعالي: «و تعاونوا على البر و التقوى، و لا تعاونوا على الإثم و العدوان» أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم» و تناجوا بالبر و التقوى» و قد وصف الله عزوجل نفسه بأنه «هوالبرُّ الرحيم» و وصف الملائكة بأنهم «كرام بررة» و وصف العباد المتقين بأنهم أبرار، و الفاسقين بأنهم فجار «إن الأبرار لفى نعيم، و إن الفجار لفى جحيم» و جعل كتابالأبرار فى مقابلة كتاب الفجار، هذا فى «سجّين» و ذاك فى «عليين».
/ صفحه 123/
و من هذا يتبين أن «البر» بالنسبة للعبد هو جماع الخير الذى يشمل المعانىالنفسية، و الأخلاق الحسنة، و ما ينشأ عنهما من أعمال صالحة طيبة يتقرب بها العبد إلى ربه، و أما بالنسبة إلى الله فهو الثواب و لرضا و المحبة الإلهية.
و قد كان العربيفهمون معنى البر على هذا لوجه، و يدركون أن كل عمل صالح، أو نية طيبة، أو خلق مرضى، شعبة من شعب البر، غير أنهم كانوا يخطئون التطبيق أحيانا، إما لاشتباه فى شيء، هل هو منالبر او من الإثم ؟ كما اشتبه السائل الذى جاء يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عن البر و الإثم، فقال له: «استفت قلبك. البر ما اطمأنت إليه النفس و اطمأن إليه القلب، و الإثمما حاك فى النفس و تردد فى الصدر، و إن أفتاك الناس و أفتوك».
قد يسأل إنسان فقيها من الفقهاء عما يخرجه من زكاة أمواله، أو عما صدر منه من تطليق زوجته، أو عما قضى له بهقاض من مال خصمه، أو عما افتدت به زوجته من مال الخلع و قد ضارّها و أساء إليها و ألجاًها إلى هذا الافتداء، يسأل عن هذا و نحوه فيسمع من المفتى أن شرط الزكاة أن يحول الحولو المال ملكه، فاذا وهبه ولو لحظة لأحد من الناس ثم استرده؛ لم يتم شرط الحول، فلا تجب الزكاة، و أن هذا الطلاق قد صدر على امرأة لم يعقد عليها ولى شرعي، فلم تثبت زوجيتهاحتى يقع عليها الطلاق، و أن القاضى قد حكم فللمحكوم له أن يستحل المال، و أن مال الخلع حق مشروع للزوج لا جناح عليه أن يتمتع به، و هنا يقع السائل بين وحى الضمير، و فتوىالمفتي: بين الحقيقة يمسها من نفسه، و بين الظاهر الذى حكم له بمقتضاه، فالرسول يرشده إلى ترجيح حكم الضمير و الوجدان و إن أفتاه المفتون.
و قد يخطئون التطبيق لهوى فىالنفس، وتمسك بالتقاليد و العصبيات، كالمشركن الذين كانوا يرون إتيان البيوت من ظهورها حال الإحرام بالحج برا يرضى الله، و نسكا يتقرب به إليه، أو كهولاء الذين أفاضوافى حديث القبلة عند الأمر بالتحول إلى الكعبة حتى شغلهم عن كل ما سواه من المعانى الفاضلة،
والأعمال الصالحة، و قد قال الله للأولين: «و ليس البرُّ بأن تأتوا البيوتمن طهورها، و لكن البر من اتقى و أتوا البيوت من أبوابها و اتقوا الله لعلكم تفلحون». وقال للآخرين « ليس البر أن تولو وجوهكم قبل المشرق والمغرب » . أى ان الاتجاه فىالعبادة إلى الجهات ليس إلا رمزآ للاتجاه القلى إلى الله تعالي، و ليست ركنا أساسيا فى العبادة فيتبع فيه الأمر.
وهذه الآية هى أجمع الأيات فى تحديد معنى البر منالنواحى الواقعية، فهى ترشد إلى أن البر لا يرتبط بشيء من المظاهر و الصور و الأشكال، و إنما يرتبط بالحقائق ولب الأمور و روحى التكاليف، و ترشد إلى أن البر أنواع ثلاثةجامعة لكل خير: بر فى العقيدة، و بر فى العمل، و بر فى الخلق.
فالبر فى العقيدة بينته الآية فى قوله تعالي: «ولكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب والنبين» أمور خمسة: الإيمان بالله فى ربوبيته، فى عبادته، فى و حدانيته، فى اعتقاد أنه هو وحده النافع الضار، الرافع الخافض، المعز المذل، القابض الباسط، القاهر فوقعباده، الذى لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تتجه القلوب إلا إليه، هذا الإيمان المطلق بالإله و عظمة الإله هو الذى يرفع النفوس الى مكانة التكريم و السمو التى أرادها اللهللإنسان، هو الذى يصون المرء عن الذلة و الاستكانة لشيء ما، هو الذى يعصمه عن التورط والزلل، هو الذى يجعل من نفسه عليه رقيبا لا يغيب و لا يخادع ولا يجهل، هو نبراسالهداية فى جميع نواحى الحياة.
و الإيمان باليوم الآخر، يوم الجزاء على الأعمال، يوم المحاسبة على ما فى القلوب و الضمائر، يوم النعيم الدائم أو الشقاء الدائم؛ هومعنى يغرس فى النفوس محبة الخير و الحرص على إسداء المعروف، و كراهة الشر، و تجنب الأذى و الإفساد فى الأرض، و قد عنى القرآن عناية عظمى بتقرير الإيمان باليوم الآخر، وناقش فيه و أقام عليه الحجج و البراهين، و ضرب له الأمثال و أقسم عليه، و سفه أحلام المنكرين له، المتعجبين من وقوعه بعد تمزق الجسم كل ممزق، و صيرورته عظاما ورفاتا «وقالوا أئذا كنا عظاما
/ صفحه 124/
ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟! قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقاً مما يكبر فى صدوركم،فسيقولون من يعيدنا، قلالذى فطركم أول مرة، فسينغضون إليك رءوسهم و يقولون: متى هو، قل عسى أن يكون قريبا، يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، و تظنون إن لبثتم إلا قليلا».
الإيمان بالله، والإيمانباليوم الآخر هما الإيمان بالمبدأ و المعاد، و الإيمان بهما على الوجه الحق ـ و هما من الغيب المطلق ـ لا يمكن لعقل بشرى أن يصل إليه، مستقلا، ولا أن يعرف بنفسه مستلزماتهمن الواجبات و الأحكام التشريعية، أن يُهْدَى من مصدر لا يحد علمه، ولا ترقى إليه الأهواء و النزعات؛ هو الله الذى لا يعزب عن علمه شىء فى الأرض ولا فى السماء و هو الحكيمالخبير.
إذن لابد من واسطة بين هذا المصدر و بين الخلق، هى طريق المعرفة لواجب الإيمان بالله و اليوم الآخر: هذه الواسطة تتكون من ثلاثه عناصر: عنصر فى الطرف الأعلي،له بحسب تكوينه و خلقه استعداد يمكنه من التلقى عن الله مباشرة، و هم الملائكة، والإيمان بهم أصل الايمان بالوحى فيلزم من إنكارهم إنكار الوحى و هو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة؛ و عنصر فى الطرف القريب من الناس هو منهم بمقتضى بشريته، وله صلة بالملأ الأعلى بمقتضى روحانيته وهم الأنبياء ، يتصلون بالملائكة الذين هم سفراءالله أو سفرته كما عبر القرآن، فيتلقون عنهم ما أمر الله به، و يتصلون بالخلق فيبلغونهم ما أمروا به من أحكم وتشريعات، والعنصر الثالث هو نفس الرسالة والوحي، وقد عبرعنهما فى الاية بالكتاب، و التعبير بالكتاب دون الكتب إشارة إلى وحدة الدين عند الله، وأن الايمان بكتاب ما من الكتب السماوية إيمان بالكل.
هذه هى العناصر الثلاثةللسفارة الالهية: طرفان و وسط، لابد من الايمان بها ولا يتحقق البر مع إنكار شيء منها، كالايمان بالله و اليوم الآخر، و بهذا تمت الأمور الخمسة التى هى البر فى العقيدة«ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين».
/ صفحه 125/
أما البر فى العمل؛ فله شعب كثيرة ترجع كلها مهما تنوعت إلى بذل النفسو المال ابتغاء مرضاة الله، و هناءة خلق الله، و العمل هو مدد العقيدة، و فى نفس الوقت هو ثمرتها يحفظها و ينميها و يدل عليها، و قد ذكرت الآية بذل النفس فى أعظم مظهر منمظاهر بذل النفس، ذلك هو إقامة الصلاة. الصلاة هى عماد الدين الصلاة هى الفارق بين المؤمن و غير المؤمن، الصلاة هى مناجاة العبد لربه، الصلاة هى الناهية عن الفحشاء والمنكر، الصلاة هى العاصمة من الهلع و الجزع؛يقف المرء بين يدى ربه، و قد خلع نفسه من كل شيء فى دنياء، فلا مال ولا جاه ولا ولد ولا طعام ولا شراب ولا كلام، ولكن تسليم لله،أوَّله: «الله اكبر» هو الذى تخضع له الرقاب، و تطمئن إليه القلوب، و تبذل فى سبيل مرضاته المهج و النفوس، فهى عهد بين العبد و ربه على بذل النفس و التضحية بها فى كل موطنبجيث لا يفقده فى موضع يطلبه، ولا يراه حيث ينهاه، أما الصلاة التى تجردت من هذه الروح، و خلت إلا من الحركات و الكلمات، فليستهى عنوان البذل و التضحية، و ليست هى من البرفى شيء، بل إنها و بال على صاحبها و مردودة عليه «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون و يمنعون الماعون» و ليس السهو فى الصلاة هو نسيانها، و إنما هوالغفلة عما توحى به من المعانى الفاضلة و أعمال البر و التقوي.
وذكرت الآية بعد ذلك بذل المال فى صورتين، إحداهما قوله تعالي: «و آتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و فى الرقاب» و الأخرى قوله تعالي: « و آتى الزكاة» و يجب أن يفهم هنا بمقتضى هذا الوضع القرآنى الكريم أن الزكاة شيء، و أنإيتاء المال على حبه هؤلاء الأ صناف شيء آخر لا يندرج فى الزكاة ولا تغنى عنه الزكاة.
فهؤلاء الأغنياء و القادرون الذين يكتفون بالزكاة، ولا يمدون يد المساعدة لسدحاجة المحتاجين، و دفع ضرورة المضطرين، و القيام بمصالح المسلمين؛ ليسوا على البر الذى يريده الله من عباده.
و هذا أصل عظيم فى تنظيم الحياة الاجتماعية يباح بهللحاكم أن يشرع ألوانا من الضرائب العادلة و راء الزكاة إذالم تف الزكاة بحاجة الأفراد و المجتمع. و فى الآية مما ينبغى أن نلتفت إليه أمور:
أولا: جاء التعبير بقوله:«و آتى المال على حبه» أى على حب المال أو على حب الله، كما فى الرأيين المعروفين، و المال إذا أنفق على حبه و مع الحاجة إليه كان فيه معنى الإيثار، و كان لذلك أظهر فى معنىالتضحية و البر، و لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر و تأمل الغنى، ولا تمهل حتى أذا بلغت الحلقوم قلتلفلان كذا و لفلان كذا و قد كان لفلان) و كذلك إذا أنفق على حب الله و ابتغاء مرضاته، لا طلبا لسمعة و لا رثاء الناس، و مما يرشح المعنى الأول وروده فى آية أخرى هى قولهتعالي: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون» و ما ورد فى وصف الأنصار «و يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون».
ثانياً“: وردتالأية بذكر أصناف الذين ينفق عليهم المال على حبة، و ليس القصد إلى الاستيعاب و الحصر، و لكنها أمثلة خصت بالذكر لبروزجتها إلى المال، و حاجة المجتمع إلى سد عوزها. ثالثاً: ابن السبيل يشمل المسافرين لطلب العلم، و الراحلين للكشف عما ينفع الناس، و الوفود التى يناط بها تبليغ الأحكام و نشر الدين و توثيق عرى المحبة و الإخاء بينالمسلمين، و نحو ذلك.
رابعاً: قوله و فى الرقاب: معناه تخليص الرقاب من الرق، و إذا كان الرق قد زال فان فى معناه تخليص الأسرى من الأسر، و تخليص المدينين العاجزين منذل الدين ورقه.
هذا وقد عنى القرآن الكريم بالفقراء و المساكين، و جميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الانفاق عليهم و البذل فى سبيلهم،
/ صفحه 127/
و فى هذا تقليم لأظافر الشر، و اقتلاع لبذور الفساد التى دلت تواريخ الأمم على أنها شر ما يعمل فى هدم الأمم و أنظمتها و أخلاقها.
و بذلكتم الكلام فى بر العمل.
أما البر فى الخلق فقد ذكرته الأية فى مبدأين: مبدأ القيام بالواجب. و قد عبرت عنه الأية بقولها: «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا» و مبدأ مقاومةالطوارىء و التغلب على عقبات الحياة، و قد عبرت عنه الأية بقولها: «و الصابرين فى البأساء و الضراء و حين البأس» و العهد لفظ شامل يجمع ألوانا من الارتباطات و الالتزاماتلا غنى للناس عنها، و لا استقامة للحياة بدونها، و هى على كثرتها ترجع إلى عهد بين العبد وربه، أو عهد بين الانسان و الانسان، أو عهد بين الدولة و الدولة، و عهود الله مععباده كثيرة. منها العام، و منها الخاص: «ألم أعهد اليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان» و إذ أخذ الله9 ميثاق النبين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكملتؤمنن به ولتنصر نه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم اصْرِى قالوا أقررنا قال فاشهداو و أنا معكم من الشاهدين». و حظ الناس اليوم من هذا العهد، هو ترابط المصلحين و تكافلهمعلى مبدأ الخير و الإصلاح، و ألا يهدم بعضهم بعضا، ولا يضرب بعضهم فى نحور بعض، و أن يؤيد الاحق منهم السابق، و يمهد السابق منهم للاحق، و ليس من الوفاء لهذا الهدى أن يكونكل مصلحِ أمةً فى نفسه، و حزبا برأسه، فإن ذلك مفسدة للرأي، و مضيعة للخير، و تخذيل عن الهدى و الرشاد.
أما عهود العباد بعضهم مع بعض فهى تتمثل فيما يحدث بينهم من عقد والتزامات مالية أو غير مالية، و كذلك فيما يحدث بين الأمة و الأمة فى تحديد الحقوق و التزامات، و كلها يجب الوفاء بها مالم تكن فى معصية الله بتضييع حق أو إلحاق أذى بالفردأو الأمة، و قد عنى القرآن بالحث على الوفاء بالعهد، و شبَّه ناقض العهد بالمرأة الخرفاء «التى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا». و طلب أن تكون العهود قائمة على الصراحة والوضوح، لا على الغش و الخداع، و اصطناع
/ صفحه 128 /
الاحتيال «و لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها و تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيلالله». و ألا يستغل فيما قوة أو ضعف «أن تكون أمة هى أربى من أمة» اى أكثر منها عددا أوعدة. هكذا يضع القرآن أصول العهود و المواثيق العادلة، ويجعل الوفاء بها من البر الذىيسمو بالانسان فى دنياه، و يسعده فى أخراه.
أما مبدأ المقاومة فقد ذكرته الآية كما قلنا بقولها: «و الصابرين فى البأساء و الضراء و حين البأس» و الصبر عدةَّ النجاح فىالحياة و مصدر جميع الفضائل والإنسانية، والسبيل الوحيد للتغلب على جميع الصعاب؛ وليس الصبر هو الخضوع من غير مقاومة و لا عمل، و إنما الصبر جهاد و محاولة، مع الاحتفاظبرباطة الجأش و النقة بحسن العاقبة، و قد ذكر الله سبحانه و تعالى حالات ثلاثا هى أبرز ما يظهر فيه هلع الهالعين، وجزع الجازعين: البأساء، والضراء، وحين البأس، فالبأساءمن البؤس و هو الشدة و الفقر، و الضراء ما يضر الانسان من مرض أو فقد محبوب: مال أو أهل أو ولد، و البأس اشتداد الحرب. و قد عنى القرآن بالحث على الصبر فى المواطن كلها، وقرنه بالصلاة و جعلهما مستعان المرء فى المهمات و الشدائد، و ملجأه عند النوازل «و استعينوا بالصبر و الصلاة». و جاء فى كلام الرسول أن الصبر نصف الإيمان، و قد أنبأناالله أنه مع الصابرين.
هذه عناصر البر فى العقيدة و العمل و الخلق، و هى دستور قوى متين ترقى به الأمم إلى أوج العزة و الكرامة، و تنأى به عن الشرور و مفسدا الأمن والطمأنينة، و منغصات السعادة و الهناءة، و حسبنا فى ذلك: أن الأية بعد ذكر هذه العناصر، قد حَصَرت الصدق و التقوى، فى أصحابها المؤمنين بها، العاملين عليها، المحققينلثمارها: «أولئك الذين صدقوا، و أولئك هم المتقون» صدقوا فى إيمانهم، صدقوا فى أعمالهم، صدقوا فى أخلاقهم، و هم الذين يصدق عليهم أنهم هم المتقون على الاطلاق، الذينيعملون لك ما يصلحهم و يصلح الناس، و ينجنبون كل ما يصرهم و يضر الناس، هدانا الله إلى سواء السبيل.؟