توحيد اللهجات
لحضرة صاحب المعالي السيد محمد رضا الشبيبي
وزير المعارف السابق بالعراق
تعددت الرسائلوالمقالات التي عنيت بكتابتها في موضوع اللهجات، ومن هذه البحوث ما تناول لهجة خاصة، ومنها ما تناول موضوع اللهجات بوجه عام. ومن القسم الأول رسالة عنوانها: أصول ألفاظاللهجة العراقية نشرت ببغداد منذ عهد قريب. ومن القسم الثاني بحث عنوانه: بين الفصحى ولهجاتها ألقى في إحدى دورات مؤتمر المجمع اللغوي. وقد تضمنت مقدمة الرسالة الأولىكلمة تمهيدية عن سنن الحياة العامة في نهوض من ينهض وتخلف من يتخلف من الأمم والجماعات، ونبذة أخرى عن بعض أدوار الصراع القومي بين العرب والدول الأعجمية، وقد ورد في هذهالمقدمة ما نصه:
لا مناص للأمم التي ألقت السلاح مغلوبة على أمرها من أن تخلى مكانها للأمم الغالبة، ولا مفر لها من التقهقر لتتقدم تلك الامم الفتية بنظمها وأوضاعهاالجديدة. كما اتفق للعرب ولغتهم في مرحلة من مراحل تخلف الأمة ورقدتها ويالها من رقدة طويلة .
تميزت هذه المرحلة بتغلب الدول الأعجمة وانكفاء كثير من العرب إلىبواديهم بعيدين عن مراكز العلم والحضارة، ومع ذلك لم يتهيأ لتلك الدول الأعجمية الغالبة أن تستغني عن العربية، على أن أكثر من لغة من تلك اللغات كالفارسية والتركيةوالمغولية أحياناً شاعت واستعملت إلى جانب العربية في جملة من بلدان الشرق. والفضل في بقاء العربية وتفوقها عائد للثقافة الإسلامية التي تقوم على أساس متين من مدارسةالكتاب وتفسيره، ورواية الحديث وحفظه.
/ صفحه 23/
في هذه الفترة أخذت تنشق عن الفصحى لهجات متعددة، وهي وإن لم تتغلب على أمها في الكتابة والتأليف إلا أنها طغتعليها في المخاطبات العامة، وفي مجالات الحياة العملية والشئون اليومية. ومما زاد في الطين بلة: سقوط الهمم وتبلد الأذهان والتقصير في طلب العلم بسبب الدمار الذي ألحقهالمغول بالحضارة الاسلامية، فغمر الأمة ليل أليل من الجهالة والبداوة.
تجسم هذا الخطر الداهم خلال عصور الأتراك الأخيرة، وهي عصور تميزت بظهور نعرة طورانية غالية،حاول الأتراك بواسطتها إذابة العناصر التابعة للدولة في عنصر الفئة الحاكمة، ومن ثم اتخذت التركية لغة في عالم التعليم وفي القضاء والدواوين الرسمية، إلى هذا ونحوه ممانبه قادة الرأي في هذه الديار إلى مناهضة الخطر المحدق بهم، وانبري من انبري للدفاع والمقاومة والمطالبة بالحقوق. ودام ذلك كله إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، وفقيالحرب المذكورة غلب الترك على أمرهم وجلوا عن البلاد ليسيطر عليها المستعمرون الغالبون، فعاني العرب والمسلمون في هذه المرحلة أضعاف ما عانوه من ارهاق المرحلة السابقة.
عتبت على عمرو فلما فقدته وعاشرت أقواماً بكيت على عمرو
وهكذا توالت الانتفاضات على المحتلين الذين خدعوا الأمة بأقوال معسولة ومواثيق كاذبة وهي انتفاضات معروفةأكرهت الأقوياء الطامعين على الاعتراف ببعض الحقوق للمواطنين فحصلوا على قسط من السيادة والحكم الذاتي بموجب قوانين أساسية تضمنت احترام حرياتهم وحقوقهم وشخصياتهمالقومية.
ولكن دسائس المستعمرين لم تنقطع بعد ذلك فعمدوا إلى إثارة الفتن لضمان سيطرتهم على شئون البلاد وتحكمهم بها ولا يستثنى من ذلك الشئون الثقافية.
لا شك أنهذه الفترة التي نعيش فيها الآن فترة انتقال أو انقلاب تناول أبناؤها بالنقد والتمحيص كثيراً من مناحي الحياة مادية ومعنوية ومن جملتها اللغة.
فترة شك وإرجاف:
ولا يخفى أن العربية مرت أخيراً بفترة يصح أن تسمى محنة إذ كثر حولها
/ صفحه 24/
الإرجاف وأثيرت الشكوك وحاول بعض شداة الأدب وغيرهم من حملة الأقلام أن يتمردواعلى قوانينها في ثورة لغوية جارفة، وأظهروا الدعوة إلى استبدال لهجة التخاطب الشائعة بالفصحى وقالوا مثل ذلك في الكتابة واحتدمت المناقشات بين فريقين ممن الأدباءوالكتاب، ولنا أن نقول هذا اليوم مغتبطين إن هذه المعركة القلمية ألقت أوزارها أو هي موشكة، وإن الفصحى خرجت ظافرة موفورة الكرامة بعد ذلك، وإن الدعوة الناشرة إلىاستبدال العامية بها منيت بخذلان عظيم وباءت بخزي فظيع.
هكذا افتضح المرجفون والشاكون المشككون على اختلاف طبقاتهم فهذا مأجور مدسوس كلف عبثاً بهدم بناء شامخ وتبديدشمل جامع، وهذا جاهل عاجز حاول ستر جهله وضعفه بما لفقه الملفقون حول الفصحى، وثالثة الأثافي مقلد غر مأخوذ بكل ما يقوله بعض الاعاجم والمستشرقين في هذا الموضوع.
أجللنا أن نقول إن المعركة انتهت أو شارفت وإن لغتنا خرجت ظافرة منها وها هو الذوق اللغوي السليم يشيع في ديار العربية بأسرها وها هي لهجاتنا في جميع الأقطار العربية أدنىإلى الفصحى منها قبل جيل مضى، وقد مرنت الألسنة على ضرب من النطق الصحيح ومرد ذلك إلى عوامل في مقدمتها ازدياد عدد المتعلمين وتقلص ظل الأمية وإقبال الناس على المطالعةوالقراءة، ومن الغلاة في التحيز إلى العامية من ينادي الآن باالرغبة في التوفيق والإصلاح بينها وبين الفصحى، وهل العامية إلا الفصحى نفسها محرفة أو ملحونة، وفي لهجاتالتخاطب ألوف من الكلمات يمكن رد الاعتبار إليها وإجازة استعمالها بشيء من التخريج، ويذهب بعض الباحثين من هؤلاء إلى أن التباين بين كثير من الفصيح والعامي مبالغ فيهوأن الشقة ـ وإن اتسعت ـ إلا أن التوفيق ليس بمتعذر بل هو واقع فعلا، وإصلاح المنطق وتقويمه في العالم العربي يسير سيراً حسناً ـ كما مر ـ ومن العوامل الفعالة في هذاالتوفيق والنجاح انعقاد المؤتمرات العلمية والثقافية واللغوية في دورات سنوية متتابعة وتنظيم المواصلات والرحلات ولا ينكر أثر الصحافة والمذياع ودور النشر والطباعةفي هذا الشأن.
اللغة و الاهداف القومية:
/ صفحه 25/
ليست الدعوة إلى استخدام اللهجات الدارجة المشوهة في الكتابة والدراسة بحديثه العهد فقد مضى عليهاجيل أو أكثر ولكنها دعوة تعثرت وأخفقت ولم يجدها نفعا إذاعة بعض البرامج وتمثيل بعض المسرحيات وإنشاد الأغاني والأزجال ولا كتابة بعض الفصول في الصحف هنا أو هناك فظلتلهجة عقيمة غير مثمرة.
هذا وقد يكون إلى بعض الأغراض السياسية والروح القومية التي ترعرعت في جيل مضى دخل في التناغي بهذه الدعوة والمناداة باتخاذ لغة قومية مستقله،والدليل على ذلك أنها دعوة نجمت في وقت واحد مع ضرب من اليقظة والوعي السياسي ولكن السياسة تتقلب ولا تدوم على حال، وهذه الأهداف الإقليمية الضيقة تجنح إلى الاتساع فيهذا اليوم ولا تميل إلى الانكماش.
لقد مضى عصر العزلة، عصر من مميزاته أن ينطوي كل قطر من أقطار الشرق على نفسه فلا يتصل بغيره ولا يشاطره الآمال والآلام، نقول مضى أمسبما فيه وأظلنا عصر آخر له طبيعته ومميزاته وفي مقدمتها وعي ويقظة ظاهرة بضرورة الاتصال بل الاتحاد، فالعرب في شتى أقطارهم اليوم يتلمسون طريقهم إلى الاتحاد أو الوحدةويتناول ذلك وحدتهم اللغوية.
أداة التفاهم:
في هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها الأقطار المأهولة بالناطقين بالضاد لا مناص من التفاهم، ولا تفاهمبالعامية.
وطالما قابلنا إخوانا لنا من أبناء المغرب وأقريقية وحاولنا محاورتهم فلم نفهم عنهم ولم يفهموا عنا، وقد يصبح الموقف مضحكا فنلوذ عند ذلك بالفصحى ونلتمسمنها العون وينتهي المشكل ببركة لغة القرآن... والخلاصة ما كانت العامية ولن تكون أداة صالحة للتفاهم في أمة تسعى لتحقيق وحدتها القومية، ولنا أن نقول في مساوي اللهجاتأكثر من ذلك فانها في القطر الواحد وأحيانا في الحاضرة الواحدة يسرع إليها الانحلال والانقسام، وقد أكد لي غير واحد من الاساتذة المصريين
/ صفحه 26/
الذينانتدبوا للتدريس في مدارس العراق، أثر الفصحى البالغ دون العامية في الفهم والإفهام.
خداع اللهجات:
علينا ألا ننخدع بالمحسنات التي يلصقها أنصار لهجاتنا بهاقائلين إنها لهجات طبيعية بعيدة عن التكلف خالية عن التحذلق مجردة من الصناعات اللفظية إلى غير ذلك مما يلاحظ وجوده في لغة التأليف والكتابة وهذه أقوال بعيدة عن الصوابوقد يتخدع بها من ينخدع لأول نظرة حتى إذا نظرنا في هذا الموضوع نظرة فاحصة اتضح بطلانها لأن الصناعات اللفظية وتكلف المتكلفين من أدباء العربية زال بزوال عصورهالمعروفة في تاريخ آداب اللغة المذكورة، وقد انطوت تلك المرحلة ونحن نجتاز الآن مرحلة أخرى تتميز بنهضة أدبية رائعة وبأساليب إنشائية خالية من الكلفة والصناعة.
خيرالوسائل لتوحيد اللهجات:
لسائل أن يسأل بعد هذا وما هي خير الوسائل التي تضمن لنا توحيد اللهجات وتغليب لغة فصحية سليمة عليها؟ والجواب أن هناك مضافا إلى ما تقدم جملةمن الوسائل الفعالة التي توصلنا إلى تلك الغاية، أهمها أولا نشر التعليم المنهجي ومكافحة الأمية وكثرة سواد المتعلمين المدركين لمكانة اللغة من الدولة والمجتمعوالقومية. وثانياً توحيد التلفظ وإصلاح المنطق على ان تقوم بذلك مراجع فنية مختصة، وفيما يتعلق بالتعليم علينا أن نعني عناية فائقة ننشره وفرضه على أن يتناول ذلك علومالدين بالاضافة إلى علوم الدنيا وتعتبر الثقافة الدينية الآن ميتة في كثير من المدارس والمعاهد، ولذلك يجب التوفر على إحيائها، وهذا يتوقف على إعداد معلمين أكفاءيعرفون ما هو الدين وما هي رسالة أهله، والدين ليس مجرد شقشقة لسانية والدين ليس جدلا بيزنطيا بل هو في الواقع تقويم سلوك وإصلاح أخلاق فإذا استطعنا أن نترك أثراً عميقاًصالحا في النفوس فقد حققنا طرفا من التربية الدينية القومية.
لاحظ أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء أن نقاش فريق من المنتسبين إلى الدين
والعلم فيعصره نقاش يدور على الألفاظ الجوفاء وعلى العرض دون الجوهر، والقشور دون الباب لاعلى البحث عن الحقائق: حقائق الأخلاق والفضائل، فقال الغزالي للقوم: ابحثوا عن ماهيةالصدق والإخلاص والعمل والجد والصبر والجهاد فذلك هو الدين وهذه هي علوم الدين، ووضع كتابه إحياء العلوم تناول فيه بالبحث شئون الفضائل والأخلاق.
هذه وسيلة منوسائل توحيد اللهجات، وأما الوسيلة الثانية لتوحيد لهجاتنا من حيث إصلاح التلفظ والنطق فلا يخفي تباين اللهجات المذكورة من هذه الناحية واختلافها في مخارج الحروف وفيقلبها وإبدالها وما إلى ذلك مما يكون مشكلة قائمة في سبيل التوحيد، بيد أن حلها والعمل على سلامة النطق والتلفظ وتوحيده في جميع اللهجات ليس بمعتذر وذلك بموجب قواعد عامةيعهد بوضعها إلى ذوى الاختصاص.
هذا ولا يسعنا في الختام إنكار الجهد الذي يبذله مجمع اللغة العربية فإنه مجمع سار منذ إنشائه على خطة واضحة لم تقتصر على المحافظة علىتراثنا القديم من اللغة والعناية بسلامتها بل سار بالاضافة إلى ذلك على نهج بين اتجه فيه إلى التخلص من قيود قيد المتنطعون الجامدون من اللغويين فيها أنفسهم ولغتهمفعاقتها عن التقدم ومسايرة اللغات الحية، ومعنى ذلك أن المجمع عدل عن خطة التقليد إلى الاجتهاد في اللغة على قدر الامكان وذلك في قضايا لغوية وأدبية عدة.
اتخذ المجمعفي هذا الشأن مقررات معروفة ومن أحسن ما قام به مقرراته المتخذة في موضوع الأقيسة اللغوية وتوسيع أبوابها في عدد من الصيغ والأوزان والجموع التي قصرها القدماء علىالسماع وهو قرار يسر مهام المعنيين بوضع المصطلحات العلمية الحديثة، وللمجمع أيضا مقرراته المتخذة في باب المعربات والألفاظ المولدة وألفاظ الحضارة اتخذها بغية إنماءمادة اللغة العربية.
لم يتخذ المجمع تلك المقررات بغير سند وبدون حجة من اللغة نفسها وإنما دعته المصلحة إلى ترجيح مذاهب فريق من أئمتها كانت مذاهبهم مرجوحة.