جولات روحیة فی سورة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

جولات روحیة فی سورة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) - نسخه متنی

محمدمحمد المدنی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

جولات روحيّة










فى سورة محمد صلى الله عليه و آله و سلم

لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد محمد المدنى

لاتزال المجتمعاتمنذ خلق الله الدنيا منطوية على عناصر الخير و الشر، و الصلاح و الفساد، و الحق و الباطل و من تطلب الدنيا على غير ما هى عليه، فقد طلب محالا، و تصور ما لايمكن أن يكون.




  • و مكلف الايام ضد طباعها
    متطلب فى الماء جذوة نار!



  • متطلب فى الماء جذوة نار!
    متطلب فى الماء جذوة نار!



و لو كان عهد من العهود أجدر بأن يتطهر من عناصر الشر و الفساد و الباطل، لكان هذا العهد هو عهد رسول الله - صلىالله عليه و سلم- و أصحابه، ولكنه كان - كما يصوره القرآن الكريم- عهد نضال بين الايمان و الكفر، و بين الايمان و النفاق، على أشد ما يكون النضال، حتى نصر الله الحق علىالباطل، و أحبط أعمال الكافرين و المنافقين، و هى بشرى لكل من استقام على صراط الله العزيز الحميد، و احتمل فى سبيل استقامته ضروب الاذى و الاضطهاد: أن يحسن الله عاقبته،و يخذل خصمه، مهماً طال أمد الكفاح، و تطاول أهل البغى و العدوان.

و لقد جلت جولات رويحة فى سورة ((محمد)) - صلى الله عليه و سلم - و هى سورة مدنية، تعرف أيضاً باسم سورة((القتال))، فوجدت هذه السورة الكريمة مبنية على عقد كثير من المقارنات بين أهل الحق و أهل الباطل، على وجوه متنوعة هى جديرة كل الجدارة بأن ندرسها، لنتفهمها و نفقهمراميها.

* * *

1- فأول ذلك افتتاحية السورة الكريمة، و هى توضح هدفها من أول الأمر، و تؤلف مطلعاً بارعاً لها، اذ تعقد المقارنة الاولى بين الكافرين و المؤمنين،فتقول:

((الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم، و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد - و هو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم

/ صفحه282/

و أصلح بالهم، ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل و أن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم، كذلك يضرب الله للناس أمثالهم)).

فهذه الايات الثلاث توازن بينالفريقين المتقاتلين اللذين لايخلو منهما زمان و لا مكان، و هما: ((فريق المؤمنين و فريق الكافرين)) فتسم الاولين بميسم الكفر على أسلوب الموصول و الصلة، فتقول: ((الذينكفروا)) و لا تقول: ((الكافرون)) لان الموصول وصلته يشعران بتعليل الحكم إذا كان الكلام متضمناً حكماً، ثم تصفهم بوصف جامع لكل أساليب الشر و الباطل و الفساد على شدة وجازته، فتقول: ((و صدوا عن سبيل الله)) و بذلك تبين أن كفر هم لم يكن مجرد عقيدة قلبية لهم، ليس لها آثار ايجابية عملية، ولكنه عقيدة ينبعث عنها كل شر، فان الصد عن سبيل اللههو مدافعة الناس عن كل ما هو خير، فليس لله سبيل تنسب اليه الا سبيل الفضيلة فى أية صورة من صورها: فى العقيدة، و فى الاعمال، و فى السلوك الاجتماعى، و فى كل ما هو خلق كريمتنعكس آثاره الطيبة على الافراد و الجماعات، فاذا كان هناك من يترصد صراط الله المستقيم ليصد الناس عن سلوكه،فأولئك هم جنود ابليس الذى يقول: ((لاقعدن لهم صراطكالمستقيم، ثم لاتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين)).

ثم تأتى بعد ذلك بالحكم عليهم، و بيان عاقبتهم فتقول: ((أضلأعمالهم))، أى أبطلها و أذهبها، على حد قوله تعالى فى آية أخرى: ((و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)).

و بعد أن يتحدث مطلع السورة عن الكافرين و يصفهمبصفتهم الجامعة لمختلف أساليبهم فى معاداة الحق، و يحكم عليهم بضلال أعمالهم و بطلانها، يذكر المؤمنين، فيختار لهم أسلوب الموصول و الصلة، اذ يقول: ((و الذين آمنوا))ليغرس فى النفوس من أول الأمر سر فلاحهم و صلاحهم، فان ((الايمان)) هو القوة التى يصدر عنها كل خير، و التى تمنح صاحبها هدوء النفس، و راحة البال، و التى تدفع إلى الجهاد والتضحية فى سبيل كل معنى شريف، ثم يقرر أنهم مع ايمانهم ((عاملون)) لانه لا فائدة فى الايمان إذا كان مجرد صورة ظلية ساكنة لاحراك بها، و لا خير

/ صفحه 283/

فىصاحبه ما لم يعمل و يتحرك و يجل فى ميادين السعى و الجهاد غير و ان و لا وكل، و لذلك يتبع الله الايمان، ((بالعمل)) فى هذه الاية و فى غيرها من آيات الكتاب العزيز، فيقول: ((والذين آمنوا و عملوا الصالحات)) أى آمنت قلوبهم اعتقاداً، و انقادت جوانحهم عملا و جهاداً، فتلاقت بذلك بواطنهم و ظواهرهم، ثم يصفهم الله تعالى بوصف هو من قبيل عطف الخاصعلى العام فيقول: ((و آمنوا بما نزل على محمد)) ليبين بذلك بياناً فاصلا أنه لابد من الايمان بهذا الرسول الكريم الخاتم بعد بعثته، مشيراً إلى أن الذين يؤمنون بالرسل قبله ولايؤمنون به، لم يحققوا ((شرط)) الايمان المقبول، و لم يستحقوا أن يسلكوا فى عداد الذين وعدهم الله بالنجاة، و ما أبلغ الجملة المعترضة التى جاءت بعد ذلك فى قوله تعالى: ((وهو الحق من ربهم)) فانها بيان للحقيقة، و تمش مع المنطق، كأنه تعالى يقول لهم: اننا لم نشترط الايمان بما نزل على محمد الا لانه الحق الذى صدر من عند الله رب العالمين.

وبعد ذلك يأتى الحكم و بيان العاقبة: ((كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم)). و الانسان مهما آمن و عبد الله و أخلص، لابد أن يقع فى هفوات، و أن تصدر منه سيئات، فما لم يعلم أنرحمة الله تعالى أوسع من ذنبه، و أنه جل شأنه سيتغمده برحمته و فضله فانه يدركه اليأس و التراخى عن العمل الصالح، و ربما خرج بذلك إلى الزيغ و ارتكاب السوء، فالله تعالىيتكفل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن يكفر عنهم ما عسى أن يكون لهم من سيئات، أو أن يكونوا قد اقترفوا من هفوات، فان الحسنات يذهبن السيئات، و ان الله تعالىيقول: ((ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريماً)).

و قوله تعالى: و يصلح بالهم)) يدل على أن مجتمع أهل الايمان هو مجمع القرار و السكينة والطمأنينة، فان صلاح البال انما يكون بصلاح كل أمر، و استقامة كل شأن.

و الشعوب إذا صلحت أحوالها، و استقامت شئونها، هدأ بالها، و استقرت و سكنت و تمتعت بالحياةالسعيدة فى ظل هذا الهدوء و هذا الاستقرار.

و قد التقت الايتان على هذا المعنى حيث تقول هذه الاية: ((كفر عنه سيئاتهم و أصلح بالهم)) و تقول الاخرى، و هى فى سورة النساء:((نكفر عنكم سيئاتكم

/ صفحه 284/

و ندخلكم مدخلا كريماً، و ليس فى الكلام ما يدل على أن هذا المدخل الكريم الذى وعد الله به عباده هو الاخرة فحسب، حيث الجنة و ماأعده الله للصالحين من نعيم مقيم، ولكن الوعد الالهى صالح لان يراد به أيضاً المدخل الكريم فى الدنيا، حيث الهدوء و استقرار النفس، و النجاح فى الحياة، و أن يتبوأ الناسفيها منازل كريمة، و مراكز حسنة.

و بعد أن تنتهى هذه ((الموازنة)) بين الذين كفروا و الذين آمنوا، و يتبين منها مصير هؤلاء و هؤلاء يبين الله تعالى سر هذين الحكمين، و أنكلا منهما انما صدر عن عدل و حكمة و سنة الهية لاتتبدل: ((ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، و أن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم)) أى: فلذلك أبطلنا أعمال أهل الباطل، وأصلحنا بال أهل الحق، و ليس من سنتنا أن نسوى بين هؤلاء و هؤلاء ((أفنجعل المسلمين كالمجرمين)) ((أم نجعل الذين كمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض، أم نجعل المتقينكالفجار)).

و يختم الله هذه الموازنة بقوله: ((كذلك يضرب الله للناس أمثالهم)) لتكون العبرة عامة فى كل زمان و مكان، و لئلا يعتبر خصوص فى الكفار على عهد معين دون عهدآخر، و لا فى المؤمنين كذلك، فالكفار فى كل زمان و مكان هم الكفار، و المؤمنون هم المؤمنون.

* * *

2- و موازنة ثانية تأتى بعد ذلك لبيان حكم الله فيما يجب أن يأخذ بهالمؤمنون هؤلاء الكافرين الوثنيين من عنف و شدة، و من حرب لا هوادة فيها، تفريعاً على ما تقدم ذكره فى الموازنة الاولى من أوصاف لهم لايستحقون معها المسالمة و المهادنة.

و ذلك قوله تعالى:((فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أئخنثموهم فشدوا الوثاق، فاما منا بعد و اما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك و لو يشاء الله لانتصرمنهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض، و الذين قتلوا فى سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديم و يصلح بالهم، و يدخلهم الجنة عرفها لهم)).

/ صفحه 285/

فهذه الايات الثلاث تبدأببيان حكم الله فيما يعامل به الكافرون، و تأتى ((الغاء)) فى أول الكلام ايذاناً بأن الحكم الذى سيذكر هو تفريع عما سبق، فكأن تقدير الكلام: إذا كان هذا هو حال هؤلاءالكافرين، و كنتم و اياهم على طرفى نقيض، فليكن الأمر بينكم و بينهم على ما يحكم به العقل و المنطق السليم بين النقيضين فهل يجتمع النقيض و النقيض.

يصور الله المؤمنينمجاهدين مسيطرين، لهم القوة، و فى يدهم زمامها، لانه يأمرهم بضرب رقاب الكافرين إذا لقوهم، و بأن يثخنوهم اثخاناً، أى يمعنوا فيهم قتلا و قهراً، حتى إذا تحقق هذا القهر وذلوا و استسلموا انتقلوا إلى مرحلة أخرى هى شد الوثاق - أى الاسر - و ذلك كقوله تعالى فى آية أخرى: ((ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الارض)) أى حتى يحطم شوكة الكافرينتحطيماً، لكيلا تقوم لهم قائمة; لان الشرك و الوثنية لايحترمان أمام دين التوحيد، و لايمكن أن يقبل لهم وضع فى أية أمة مخلصة لعقيدتها.

و ينبغى أن يفهم أن هذا انما هوبالنسبة للمشركين المعبر عنهم هنا بقوله تعالى: ((فاذا لقيتم الذين كفروا)).

و أما أهل الكتاب فهم فى ذمة المسلمين، لهم ما لهم، و عليهم ما عليهم، و من حقهم أن يعيشوابينهم أحراراً يؤدون شعائرهم، و يزاولون طقوسهم، و شتان بين ذى وثن من الاوثان، و ذى دين من الاديان، فلا يقل أحد: أين حرية الاعتقاد ما دام الاسلام يأمر بضرب الرقاب والاثخان و شد الوثاق؟ لايقل أحد ذلك، لان الحرية لاتكون فيما يخالف المبدأ الاساسى الذى تقوم عليه الامة، و هذه الامة هى أمة التوحيد، بل ان التوحيد هو الحقيقة الاولىالتي جاءت بها الرسل، و أجمعت عليها الاديان، فالاسلام يحترم أديان المخالفين ما دامت أدياناً، أما الوثنية و الشرك ففساد فى الفطرة، و اهدار للعقل و المنطق و الدليلالواضح، و اهدار لكرامة الانسان فى أبشع صورة من صور الاهدار، حيث يعبد الانسان العاقل المدبر المتصرف الذى سخر له كل ما فى الكون، حجراً أو شجراً أو مخلوقاً كائناً ماكان.

و لا يصح أيضاً أن يقال: يجب احترام حرية العقيدة إذا كان هذا القول فى

/ صفحه 286/

معرض الابقاء على الحاد الملحدين، و نظريات الوجوديين، و فلسفاتالمارقين، و أمثال هؤلاء و هؤلاء ممن يستخفون بالقعول، و يهزئون بالاديان، فليس هناك منطق يحمى هؤلاء أو يقبل السكوت على خيالهم العقلى و العملى، و ما لهم و لامثالهم الاضرب الرقاب تطهيراً للشعوب و الجماعات منهم.

و قد فرق القرآن الكريم بين المشركين و أهل الكتاب، فأمر بقتال المشريكن عامة، و لم يقبل تخلية سبيلهم الا إذا تخلوا عنشركهم، و ذلك حيث يقول الله جل شأنه: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابووا اقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، انالله غفور رحيم)) فهو يأمر بقتالهم و لايرضى منهم بغير التوبة و اقامة الصلاة، أى ((بالاسلام)) و لايجعل أمد قتالهم منتهياً الا بذلك، أى أنه لايرضى بأن يعيش الكفر - في صورةالشرك أو الوثنية أو الالحاد أو اللادينية - مع دين الحق جنباً إلى جنب. بينما يقول في شأن أهل الكتاب: ((قاتلوا الذين لايؤمنون بالله و لا باليوم الاخر و لايحرمون ما حرمالله و رسوله و لايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) أى عن طاعة و التزام بنظام المجتمع الإسلامى بحيث لايخشى شرهم ولا انتقاضهمعلى دولة الاسلام، فاذا دفعوا الجزية برهاناً على ذلك، فهم اذن في ذمة المسلمين، كأهل كتاب فاءوا إلى رشدهم و لم يغلوا في دينهم، و ابتعدوا عن صور الشرك والكفر الاساسية،و ان خالفوا في الدين، ((فلنعايشهم)) و لنسالمهم ما داموا لنا مسالمين، و عن الالحاد و العناد و الخروج على الله ناكبين.

و بذلك يتبين أن الموازنة هنا تفرض المؤمنينغالبين قاهرين، لهم قوتهم و استطاعتهم و حرصهم على تنفيذ حكم الله في الكافرين، و هو ضرب الرقاب، و شد الوثاق. و تفرض الكافرين، أى المشركين و الوثنيين والملحدين وأمثالهم، محكوماً عليهم بالفناء، و هذا يقتضى أن يستعد المسلمون بالقوة و المنعة والعلم و الروح القوى و الخلق المتين، لتنفيذ ما أمرهم الله به، فإن فرطوا حوسبوا علىذلك، فنالوا جزاء تفرطيهم في الدنيا و الاخرة.

/ صفحه 287/

هذا و في التخيير بين المن و الفداء في قوله تعالى: ((فاما مناً بعد و اما فداء)) كلام ليس هذا موضع تفصيلهو بيان ما يدل عليه في شأن موقف الاسلام من ((الرق)) فانما نحن بصدد ما في السورة من مقارنات.

و معنى قوله تعالى: ((حتى تضع الحرب أوزارها)) يتوقف ادراكه على المراد((بالحرب)) هنا: هل هي الحرب التي كانت في عهد الرسول حتى تم نصر المؤمنين، و انكسرت شوكة المشركين، فاذا وضعت هذه الحرب أوزارها، أى أثقالها و أحمالها - و هو كناية عنانتهائها - فلا حرب بعدها، أو الحرب مستمرة ما دام هناك شرك و وثنية.

و قد فهم بعض الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك، ولكنه لم يقر هذا الفهم.

فانهيروى عن جبير بن نفير قال: ان سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال انى سيبت الخيل، و ألقيت السلاح، و وضعت الحرب أوزارها، وقلت لاقتال. فقال لهالنبى صلى الله عليه و سلم: ((الان قد جاء القتال، لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الناس، يزيغ الله تعالى قلوب أقوام فيقاتلونهم و يرزقهم الله منهم حتى يأتى أمر الله و همعلى ذلك)).

و هذا يدل على أن ((الجهاد)) باق، لان الارض لاتخلو من كافرين و مؤمنين، و لذلك قال مقاتل في تفسير قوله تعالى: ((حتى تضع الحرب أوزارها)) معناه: حتى لايبقى مشرك.

و في القرآن الكريم آية أخرى تحدد الامد الذي ينتهى فيه القتال و الجهاد، و هي قوله تعالى: ((و قاتلوهم حتى لاتكون فتنة و يكون الدين لله))، و يفهم منها أن القتال والجهاد لايبطلان ما دام هناك فتنة في الدين و محاولة لصرف المسلمين أو صدهم عن دين الحق الذي ارتضاه الله، و ختم به رسالاته.

و لما كان هذا الصد موجوداً في كل زمان، وكان العالم لايزال فيه فريق يحاول فتنة المسلمين عن دينهم، و اخراجهم من ديارهم، و المظاهرة على اخراجهم، فالجهاد باق، و هو فرض على المسلمين للدفاع عن دينهم و أنفسهم وبلادهم.

/ صفحه 288/

و لهذا جاء في الحديث عن النبى - صلى الله عليه و سلم -: ((الجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال)).

و قال الكلبى: حتى يسلمواأو يسالموا.

و قال الفراء: حتى لايبقى الا مسلم أو مسالم.

و الخلاصة: أن أسباب الجهاد في الاسلام ترجع إلى أمرين:

أحدهما: اقتلاع جذور الشرك و الوثنية و ما فيمعناهما من الالحاد و الوجودية و نحو ذلك، فانه لايليق بالانسان الذي كرمه الله بالعقل، و أمره بأسباب العلم، و يسر له ادراك البرهان الساطع في شأن الالوهية، أن يتجه إلىغير الله، أو أن يفسد حياته باعتقاد فاسد يؤدى به إلى كثير من الاوهام و الخزعبلات، أو يخرجه من دائرة الثقة و الطمأنينة النابعة من الايمان.

الثانى: تأمين الدعوةالاسلامية، و الدفاع عن حرم الاسلام و المسلمين ضد المعتدين الذين يعملون على زلزلة المؤمنين عن عقائدهم و مثلهم أو على استعمار بلادهم، أو اخراجهم من ديارهم.

هذا هومنطق الاسلام في الاسباب التي تدعوه إلى امتشاق الحسام: دفاعاً عن كرامة الانسان، و عن دعوة الحق، و عن مثل الفضيلة و الخير.

و يقول الله تعالى مبيناً الحكمة فيتشريع الجهاد:

((ذلك و لو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض)) أى ذلك حكم الله في الكافرين، و الله قادر على أن ينتصر منهم بفعل منه مباشر، كما انتصر قبلمن الطغاة و الظالمين، بالقارعة و الصاعقة و الصيحة و الرجفه و الغرق و غير ذلك، ولكن الله شرع الجهاد لحكمة بالغة، و لتحقيق مصالح يعلمها، منها ابتلاء الله بعضكم ببعض،أى اختباركم و اظهار حقيقتكم و دخائل أنفسكم، كما قال تعالى في سورة آل عمران: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين)).

و منهاايقاع العذاب الدنيوى بالكافرين على أيدى المؤمنين، شفاء لصدور

/ صفحه 289/

أهل الحق حين يرون الباطل مخذولا، كما قال تعالى في سورة التوبة: ((قاتلوهم يعذبهمالله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين، و يذهب غيظ قلوبهم و يتوب الله على من يشاء و الله عليم حكيم)).

و هذه الاية الاخيرة تدل على أن المؤمن يجوزله أن يعمل للاشتفاء من أعداء الله بهزيمتهم و التنكيل بهم، و أن يلتمس اذهاب الغى. من قلبه بجهادهم، حيث جعل الله تعالى شفاء الصدور، و ذهاب غيظ القلوب من ثمرات القتالالمشروع.

و من بقية الموازنة بين المؤمنين و الكافرين ما ذكره الله تعالى من أنه تكفل للشهداء بحفظ أعمالهم، و عدم اضلالها، أى اذهابها هباء دون ثمرة، بل يبرز آثارها،و يحقق; مهما طال المدى; أهدافها في الدنيا، و ينميها و يكثر ثوابها في الاخرة، و ذلك قوله تعالى: ((و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم)).

و الواقع الذى تدل عليهحوادث التاريخ أن أعمال المجاهدين المخلصين المضحين بأنفسهم في سبيل الله لاتذهب عبثاً، و لا تضيع هباء و لو غلبوا على أمرهم، و تراءى للناس أن مثلهم لم تظهر و لم تنتصرفي أول الأمر، ذلك بأن المبادىء و العقائد التي كانوا يكافحون عنها تحيا بهذا الكفاح، و كأنها شجرة لاترويها الا دماء المجاهدين، و يظل الناس يذكرون قيامهم للنضال، وانبعاثهم للتضحية في سبيل الله و يكبرون في ذكراهم الاقدام و الشجاعة، و يعرفون حقهم و حق مبادئهم، فيجعل الله لهم بذلك لسان صدق في الاخرين - و هو الذكرى الطيبه - و يجعللمبادئهم و مثلهم حياة من بعدهم، طال المد أو قصر، و لذلك يقولون: أن المبادىء السامية وتعاليم الحق و الفضيلة لن تموت، بل تحيا و تنتصر باستشهاد أصحابها، و تلك سنة من سننالله في خلقه ((لايضل ربى و لا ينسى)).

و قوله تعالى: ((سيهديهم و يصلح بالهم)) و عد بضل آخر للشهداء، و الهداية بالنسبة للشهيد الذي قتل و انتهت حياته في الدنيا، هيالهداية إلى الجنة، كما في قوله تعالى: ((ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم))، و اصلاح بالهم و عد جاء على سنةوعده تعالى للاحياء، فكما قال عن احياء المؤمنين في أول السورة ((كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم))

/ صفحه 290/

قال عن شهدائهم هنا: ((سيديهم و يصلح بالهم)) و في ذلكاشعار بأن لهم حياة أخرى، هي المذكورة في قوله تعالى: ((و لاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرونبالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون)).

و قوله تعالى: ((و يدخلهم الجنه عرفها لهم)) يشير إلى عرفإن المؤمن بالجنه التي وعد المتقون، فقد وصفهاالله في كتابه فاستقرت صفتها في نفوس عباده المخلصين، فعشقوها و تطلبوها و عملوا لها.

هذا و فضل الشهداء عظيم، و قد رويت فيه أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليهوآله و سلم:

((يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: تكفر عنه كل خطيئة، و يرى مقعده من الجنة، و يزوج من الحور العين، و يأمن من الفزع الاكبر، و من عذاب القبر، و يحلىحلة الايمان)).

و في رواية: ((و يوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر و الياقوت، الياقوته منه خير من الدنيا و ما فيها)).

* * *

3- و تأتى بعد ذلك موازنة ثالثة هدفهابيان عاقبة الصراع الذي يكون بين الحق و الباطل، اذ يقول الله عزوجل:

((يأيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم، و الذين كفروا فتعسا لهم و أضلأعمالهم، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم، أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم و للكافرين أمثالها، ذلك بأن الله مولىالذين آمنوا و أن الكافرين لامولى لهم)).

و قد تضمنت هذه الايات الخمس: وعداً للمؤمنين مشروطاً بشرط، و وعيداً للكافرين معللا بعلة، و تذكيراً بما مضى من تاريخالجبابرة، و كيف قصمهم الله و أن هذه سنته جل شأنه في كل كافر، أن يدمر عليه، و يحطم ما يبنى من صروح

/ صفحه 291/

الباطل، كما تضمت سر هذا الوعيد و ذلك الوعد، مبينةأن الذين آمنوا قد آووا إلى ركن شديد، هو الله مولاهم، و أن الكافرين قد حرموا حين فرغت قلوبهم من الايمان أن يكون لهم ركن يأوون اليه، و يشتد به أزرهم.

فأما الوعدالمشروط بشرط، فهو قوله تعالى: ((يأيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم)) و مثله قوله تعالى في آية أخرى: ((و لينصرن الله من ينصره)) و الاية الاولى فيهاتعليق صريح استعمل فيه حرف ((ان)) الشرطية لافادة أن نصر الله لعباده مشروط بنصرهم له، و الاية الثانية تعليق في المعنى، لانها تقرر أن نصر الله انما هو لمن ينصرالله.

وإذا علق الله شيئاً على شىء، و ربطه به على هذا النحو أو ذاك، فهو تعبير عن سنة من سننه التي لاتتبدل، و عن قانون شبيه بقوانين الحياة الكونية، فكما أن الشمس و القمر والنجوم و البحار و جميع العوالم مرتبطة بقوانين تكوينية الهية لاتحيد عنها، و لا يمكن أن تختل أدنى اختلال، كذلك عالم الانسان له قوانين من أمر الله تدور حياته عليها، ويتعامل أفراده طوعاً أو كرهاً بموادها، و من مواد القانون الالهى للانسان: أنه إذا كان مؤمناً صالح العقيدة في الله ثم جاهد قاصداً بجهاده أن ينصرالله فلا بد من أن ينصرهالله و يثبت قدمه، ذلك بأن الضعف و الخذلان انما يأتيان المرء من احدى ناحيتين: اما من ناحية فراغ قلبه من عقيدة تطمئنه، و ايمان يحثه و يدفعه. و اما من ناحية فقدانهالاخلاص فيما يقدم عليه، بأن يكون له اتجاه إلى غير الله و المؤمن قد برىء من كلتا الناحيتين، فإن له من عقيدته في الله قوة تملا قلبه طمأنينة وثقة، و تبعثه على الاقدام فيغير تردد و لاتهيب، و ان له من اخلاصه ما يجعله متجهاً إلى ربه وحده لايشرك به شيئاً، و أحق الناس بهذا الاخلاص و التوحيد هم المجاهدون الذين يحملون أرواحهم على أكفهم ويخوضون غمرات الموت، لايعرفالمرء منهم إذا أصبح هل يمسى، و إذا أمسى هل يصبح! ان هؤلاء هم أجدر الناس باخلاص النية و توحيد القصد لله تعالى، فإن الله هو أغنى الشركاء عنالشرك، و انما المجاهد هو من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا، و لايمكن أبداً أن يهزم من اتجه بجهاده ذلك الاتجاه الاسمى، و لقد هزم

/ صفحه 292/

جيش المسلمينالاولين أنفسهم في بعض المواقع التي خاضوها مع رسول الله - صلى الله عليه و سلم - لما تنكبوا السبيل و قصدوا ما لم يكن لهم أن يقصدوه من الغنائم و متاع الدنيا، و سجل عليهمالقرآن الكريم ذلك اذ يقول: ((حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر، و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الاخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم و لقدعفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين)).

و ذكرهم بما سلف من ((الربانيين)) الذين كانوا يقاتلون مع الانبياء لايقصدون الا وجه الله و رضاه، اذ يقول: ((و كأين من نبى قاتل معهربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا، و الله يحب الصابرين، و ما كان قولهم الا أن قالوا ربنا اغفرلنا ذنوبنا و اسرافنا في أمرنا و ثبتأقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الاخرة و الله يحب المحسنين)).

و هكذا نجد أن قضية نصر الله للمؤمنين الذين ينصرونه، و تثبيتهأقدامهم في الحياة هي قضية الهية، و سنة كونية في عالم الانسان، و العكس بالعكس، فعلى الناس أن يسألوا أنفسهم كلما وجداً ضعفاً أو انهزاماً أو تخلفاً أو تزلزلا، فيعرفواالاسباب بعد مراجعه الحساب!

و أما وعيد الله للكافرين، و علته التي أرشد الله اليها، فذلك قوله جل شأنه: ((و الذين كفروا فتعساً لهم و أضل أعمالهم، ذلك بأنهم كرهوا ماأنزل الله فأحبط أعمالهم)).

فالتعس و التعاسه: السقوط و العثار و اختلال الأمر و الشقاء، و هو عكس النصر و تثبيت الاقدام اللذين وعد الله بهما المؤمنين المخلصينالناصرين له، و قد ذكر الله ذلك مرة بطريق الاشارة، حيث جاء حرف ((الفاء)) في قوله تعالى: ((فتعساً لهم)) مؤذناً بأن علة هذه التعاسه هي كفرهم، كأنه قال: كفروا فاستحقوابكفرهم التعاسه و التزلزل، و مرة بطريق التصريح حيث علل المصير الذي حكم به عليهم، بأنهم كرهوا ما أنزل الله، و الكراهية عاطفه من شأنها أن تحمل صاحبها على أن يلتوى عمايكره، و أن ينظر اليه نظرة تبرم به، و تخلص من منطقه، فلا ينتفع به و لا يركن اليه، و لما كان ما أنزله الله على عباده انما هو ارشاد إلى أقوم الطرق، و توجيه إلى ما يكون بهكل صلاح و كل سعادة، فهم بكراهيتهم اياه قد فقدوا النور الذي يكون به الاهتداء، فاختلط عليهم الأمر، و تراكمت أمام أعينهم ظلمات الحيرة، فشقوا و خسروا، وضلت أعمالهم وحبطت، فليس لها في الدنيا أثر يدوم، و ليس لها في الاخرة وزن يقوم: ((و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً و وجد الله عنده فوفاهحسابه و الله سريع الحساب، أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، و من لم يجعل الله له نوراً فما له مننور)).

و يقرب من هذا المعنى أن نفسر كراهيتهم لما أنزل الله بكراهيتهم للمثل و الفضائل، و تبرمهم بها، و حصرهم على التحرر منها و الانطلاق من قيودها، و أولئك هم الذينيقولون: ما لنا ولهذه المقاييس التي فرضت علينا و ما اشتركنا في فرضها، و لا أخذ رأينا في تقريرها! و في جميع المجتمعات من هذا الصنف أفراد متحللون اباحيون، لا هم لهم الامسايرة الشهوات، و مقارفة اللذات، فاذا رأوا مستمسكاً بالفضيلة و الايمان سخروا منه، و إذا سمعوا ناصحاً يبذل لهم النصيحة ضاقوا به ذرعاً، و لم يطيقوا له سمعاً، و من سنةالله تعالى أن يبتلى أهل الدين و الغيرة و الاصلاح بأمثال هؤلاء، و في مقدمة من ابتلى بهم الانبياء، فكلهم بذل النصح لقومه، فاستثقلوا نصحه، و تبرموا به، حتى أخذهمالعذاب: ((فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رساله ربى و نصحت لكم ولكن لاتحبون الناصحين))، ((الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوافيها، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين، فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين)).

و من أعظم أساليب القرآن الكريمسوقه القصص و أخبار الامم السابقة، و ما قابلوا به أنبياءهم، و ما صار اليه أمر المعرضين منهم عن دعوات الحق.

فقد ذكر الله قصة فرعون - مثلا - في عدة مواضع من كتابهالكريم، و قص

علينا ما بلغ من طغيانه و عتوه، و أنه ظل يتعالى و يتمادى حتى ادعى الالوهية لنفسه و أنكرها على اله موسى و اله العالمين جل جلاله، ثمانتهى أمره إلى الغرق، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه ما أخذه الله به من النكال و الوبال.

و من ذلك قوله تعالى: ((اذهب إلى فرعون انه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، و أهديك إلىربك فتخشى، فأراه الاية الكبرى، فكذب و عصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى، فأخذه الله نكال الاخرة و الاولى، ان في ذلك لعبرة لمن يخشى)).

و هذه آياتناطقة معبرة مصورة تفيض بياناً و تحذيراً، و ترسم في كل جانب من جوانب هذه القصة لوحات رائعة، تمثل ذهاب موسى إلى فرعون، و هو ذلك الملك الطاغى المخيف، ثم موقفه بين يديه وهو يعرض عليه التزكية و الهداية عرضا رقيقاً مهذباً، ثم موقفه و هو يريه الاية الكبرى، عصاه التي تنقلب ثعباناً مبينا، ثم ما كان من لجاج فرعون و تكذيبه و عصيانه، ثم حركتهالمضطربة حين أقامته هذه الدعوه و أقعدته و أقضت مضجعه خوفاً من آثارها في شعبه الذي استضعفه و طغى عليه و استخف به، وأنه أدبر عن موسى و دعوته، و جعل يسعى سعيه لافسادمفعول هذه الدعوة، و اضلال الناس عنها بالتخويف و الارهاب و التعالى، و أنه حشر الناس حشراً، و جمعهم جمعاً لينادى فيهم مجتمعين بباطله و كذبه، اذ يزعم أنه هو ربهمالاعلى، ثم عاقبته حين أخذه الله بعذابه منكلا به نكال الاخرة و الاولى، جاعلا منه عبرة للمعتبرين.

كل ذلك تفيض هذه الايات ببيانه، كأحسن ما تكون الافاضة، و ترسممشاهده و صوره كأروع ما يكون الرسم و التصوير!

و من ذلك قوله تعالى: ((و قال فرعون يا هامان ابن لى صرحاً لعلى أبغ الاسباب، أسباب السموات، فأطلع إلى اله موسى و انىلاظنه كاذباً و كذلك زين لفرعون سوء عمله و صد عن السبيل و ما كيد فرعون الا في تباب)).

و الطغيان واضح في هذا الجانب من قصة فرعون، كما هو واضح في الجانب الذي ذكرناه منقبل.

/ صفحه 295/

و من يقرأ سورة ((القصص)) يجد فيها كثيراً مما يبين طغيان فرعون، و نشره الرعب و الخوف في شعبه، وفتكه بالابرياء، لا لشىء الا ليثبت دعائم ملكه، وينفى الاوهام التي تخيل له في ليله و نهاره أن هناك تآمراً عليه، و تدبيراً لاهلاكه، و ان أول هذه السورة ليخلص أمر هذا الطاغية في أوله و آخره، و أمر قومه معه، و ما أرادالله لهم من عز بعد الذل، و من قوة و تمكين بعد الضعف و الخوف، و ذلك اذ يقول الله جل جلاله: ((طسم، نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحق لقوم يؤمنون، ان فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم و يستحيى نساءهم، انه كان من المفسدين، و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الارض و نرى فرعون و هامان و جنودهما منهم ما كانوا يحذون)).

و كما ذكر الله فرعون و بغيه، ذكر قارون و اغتراره بماله، و عاقبة هذا الاغترار، فأنبأنا أنهآتاه من الكنوز ما يشق على أولى القوة حمل مفاتحه، و صوره لنا فرحاً بطراً يبغى الفساد في الارض، و يعلن في غرور و كبرياء أنه أوتى ما أوتى على علم عنده، ثم صوره خارجاً علىقومه في زينته و أبهة موكبه، مرموقاً منهم، يتمنى الجاهلون مثل ما أوتى، و يأبى العالمون الا تفضيل ثواب الله الذي ادخره للمؤمنين، ثم صور عاقبته و أمر الذين تمنوا مكانهفقال: ((فخسفنا به و بداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين، و أصبح الذين تمنوا مكانه بالامس يقولون و يكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء منعباده و يقدر، لو لا أن من الله علينا لخسف بنا وكأنه لايفلح الكافرون، تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الارض و لا فساداً و العاقبة للمتقين)).

و كذلكذكر الله عاداً و ثمود و أصحاب الايكة و قوم نوح و قوم لوط و غيرهم، مبيناً ما أنزله بهم من قوارع و قواصم.

فالقرآن الكريم مملوء بهذا اللون من القصص المحذرة التييسوقها الله تعالى في أجلى بيان، و يصورها أروع تصوير، و يناشد الناس أن يفقهوا عبرها، و يسمعوا نذرها.

/ صفحه 296/

و قوله تعالى: ((أفلم يسيروا في الارض)) يشملالسير الحقيقى للكشف و المعرفة و السير بعين البصيرة و التأمل عن طريق تصفح التاريخ، و استجلاء عبره.

و المفسرون يفسرون قوله تعالى: ((دمر الله عليهم)) بمعنى: أهلكهم،ولكن شتان بين العبارتين، فإن قوله جل جلاله: ((دمر الله عليهم)) فيه من القوة و الروعة ما يملا القلوب وجلا، و يهزها هزا، اذ هو تمثيل لحالهم، كأنهم كانوا يشيدون صروحاًقوية، و يعمرون الدنيا بكل ما هو مادة و زخرف، دون اعتماد على روح الايمان و قوته، ثم لايلبثون أن يروا كل ما شادوا مدمراً عليهم، محطماً فوق رءوسهم.

و هذا يشمل تدبيرهم المادى الذي يتمثل في الصروح و الحصون و القلاع، و تدبيرهم السياسى الذي يتمثل في الاحتياط و أخذ الحذر واتخاذ الاعوان و الزبانية و العملاء، و اتقان أساليب الكيد والبغى و المكر و الكبت، كما رأينا من المستعمرين و المغتصبين، فاذا جاء وعد الله دمر عليهم كل بنيان أقاموه، و أفسد عليهم كل تدبير دبروه ((و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ان أخذه أليم شديد)).

و في القرآن الكريم عبارات من هذا القبيل موجزة حيناً، و حيناً مطولة، تحس اذ تسمعها بالهول مجسماً، و يخيل اليك أن لها دوياً يكاد يصمالاذان، كقوله تعالى في أهل ثمود: ((فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، و لايخاف عقباها، و في قوم لوط: ((فجعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليهم حجارة من سجيل)) و في وصف حالالمؤمنين يوم الاحزاب: ((اذ جاءوكم من فوقكم و من أسفل منكم و اذ زاغت الابصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون و زلزلوا زلزالا شديداً))و في وصف جلاء اليهود من بني قريظة: ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله منحيث لم يحتسبوا و قذف في قلوبهم الرعب يخرجون بيوتهم بأيديهم و أيدى المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الابصار)).

إلى غير ذلك من الايات الموعدة المرعدة!

و قد ذيل هذا التذكير الاجمالى الذي يشير إلى ما فصلناه مما أصاب الطغاة الاولين، بقوله تعالى: ((و للكافرين أمثالها)) و هو أيضاً وعيد مخيف، و مثله قوله تعالى: ((و ما هي منالظالمين ببعيد)) و في ذلك تقرير صريح بأن سنة الله في أخذ الظالمين لاتتبدل، ((ألم نهلك الاولين ثم نتبعهم الاخرين، كذلك نفعل بالمجرمين)).

و قد ختم الله هذه الموازنةبين عاقبة المؤمنين، و عاقبة الكافرين، بموازنة اجمالية لبيان السر في هذا التوزيع العادل بين الفريقين فقال: ((ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا، و أن الكافرين لامولىلهم)).

و معنى ولاية الله للمؤمنين أنه معهم بنصره و تأييده كما يكون الولى مع وليه، و الحليف مع حليفه، و قد ورد هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم، و منه قوله تعالى:((ان الله يدافع عن الذين آمنوا))، ((انا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الاشهاد))، ((الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور))، ((ان وليىالله الذي نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين)).

أما الكافرون فقد حرموا هذه الولاية بخروجهم على الله، و كفرهم به، فهم أعداؤه و طرداؤه.

و لما ارتجز أبوسفيان يومهزيمة المسلمين و انتصار المشركين في غزوة أحد، قائلا: ((أعل هبل! أعل هبل!)) أمر النبى - صلى الله عليه و آله و سلم - أن يجيبوه فيقولوا: ((الله أعلى و أجل)) فقال أبوسفيان: ((لناالعزى و لا عزى لكم)) فأجابه المسلمون بأمر رسول الله ((الله مولانا و لا مولى لكم)).

((ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى)) فصدق الله وعده، و نصر عبده، و أعز جنده، و هزمالاحزاب وحده.

/ 1