جولةٌ بين الآراء
لحضرة صاحب الفضيلةالأستاذ الكبير الشيخ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب
تختلف الآراء في أمر رسالة التقريب: فمن قائل إنها أمر ليس يصعب تحقيقه فقط، بل يكاد يكون مستحيلا، أليست الخلافات قد استحكمت منذ قرون؟ أليست كتب كل طائفة مشحونةبالطعن في غيرها؟ أليست الخلافات موجودة في الأحكام الفقهية وأدلتها، وإلى جانبها خلافات في الأصول الكلامية مشهور أمرها؟ أمن المعقول أن يتشيع السني أو يتسنن الشيعي؟ومن قائل إن التقريب حقيقة واقعة، فالأفكار تهذبت، والعقول تبصرت، والأجناس المختلفة تتجمع، والأديان تتكتل، وروح التسامح تسود المسلمين وغير المسلمين، فكيفبأبناء دين واحد! هل نرى اليوم حرباً بين السنة والشيعة؟ هل نسمع عن معارك بينهم؟ هل يخاصم الشيعي السني، أو يجافي السني الشيعي؟ هل يختلف هؤلاء وأولئك في هذا العصر ـ عصرالذرة ـ في أمور لا ترتبط بالحياة في شيء، أو في مسائل انقضى زمانها؟ هل هناك مشكلة لنعالجها؟
هذا ما يقول به الفريقان المتناقضان؛ فريق يحسب أن الجهود التي تبذلللتقريب سعي وراء المحال، وآخر يراها تحصيل حاصل.
والفريق الأول يتكون في الغالب ممن لا يعرف مهمة التقريب على حقيقتها ولم يدرس برامجها، بل غاب عنه مدلول الاسم،فحسب التقريب توحيداً؛ أو مَن
/ صفحة 36 /ضاق تفكيره وانحصرت ثروته الفكرية والدينية في محيط مذهب خاص، لا ينظر في غيره، أو تأثر بعالم أو كاتب لا يستمع أو يقرألسواه، وما دام لا يرى الحق إلا ما هو عليه، فهو يعرض عن كل المذاهب بل يهاجمها أن اختلفت مع ما حصله أدنى اختلاف؛ وليس بغريب على أمثال هؤلاء أن يؤمنوا باستحالة التقريب،حتى لو علموا أن التقريب لا يطلب إليهم أن يعتنقوا مذهب غيرهم، أو يتنازلوا عما ثبت عندهم، لأن المحذور لا ينحصر في لك فقط، بل المحذور عندهم التقرب إلى غيرهم، والنظرفيما عندهم، والاطلاع لعي كتبهم وأقوالهم، وهل رساله التقريب إلا الدعوة إلى هذا ليحصل التعارف بين الطوائف، وتقف كل طائفة على ما عند الأخرى؟ وما فائدة تعارف ـ هم فيغنى عنه ـ مع من هم عن الطريق مبعدون، وعن الحق معرضون؟
وأما الفريق الثاني، فهم الذين لا يختلطون بالحياة الدينية، ولا يعرفون حقيقة أحوال البلاد الإسلامية، ويظنونأن الفكرة التي تسيطر عليهم، هي نفسها التي تسيطر على غيرهم، ولا يسمعون من هذا وذاك، ويحسبون أنه لم يبق ثمة خلاف، أو يغفلون دور الدين في الحياة، وبالتالي خلافتناالمذهبية، ورجال السياسة والاقتصاد ـ مع الأسف ـ أكثرهم من هذا الفريق.
وفي الناس فريق ثالث، يتمسك بمذهبه ويتشبث به، ولكنه يحترم المذاهب التي تتفق في الأصول معه،بل ينظر فيها بروح الإنصاف ويتعمق في تفهمها، ويقتبس منها ما يصح، ولا مانع من أن يرد على بعض ما يرد فيها أدب واتزان رغبة في إظهار ما هو أفضل لا حرصاً على تسفيه آراءالغير. ومن هذا الفريق تكونت جماعة التقريب في القاهره وأنصار فكرتها في العالم الإسلامي، وعلي هذه الأسس تقوم، وبهذه الروح تسير في الناس، وكلما فُهمت الفكرة ازدادالالتفاف حولها، والدعوة إليها، حتى أننا لنعتقد أنه سيأتي يوم تشمل كافة المسلمين.
* * *
لسنا نرى ما يراه الفريق الأول، ولنا ننكر الخلاف، ولسنا نرى للخلافاتآثاراً تستحيل معها مهمة التقريب.
/ صفحة 37 /لا ننكر أن الخلاف وقع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو زعمنا أن الأوائل لم يمكن بينهم أي خلاف لجانبناالحق، ومن له أقل إلمام بالتاريخ لا يمكنه أن يزعم ذلك. بيد أنهم حصروا الخلاف في دائرته المعقولة، ولم يجعلوا له أثراً يضر بالوحدة الإسلامية، ولا أعطوا به فرصة لأعداءالإسلام. كان خلافا في الرأي لا تشاجرا، والخلاف في الرأي من طبيعة الانسان، وتحتمه البيئات وتطور الزمن، وليس لأية قوة أن تمتعه ولا ضرر منه، بوصفه خلافا، إنما الضرر فيأن يتطور الى تشاتم وتخاصم ولنأخذ دليل ذلك من التاريخ، تاريخ الإسلام نفسه، في قصة حدوث الخلاف بين السنة والشيعة بالذات. إن اختلاف الرأي لم يخلق بين المسلمين معركةالخصام، حتى إذا استباح بعضهم الإسفاف والمسبة ظهرت المقاومة العنيفة، واضطرب الأمر، ولم يستقر بعد ذلك بل انتهى إلى خصومة مريرة، فقامت الحروب، واشتدت المعارك بينأبناء دين واحد، وسلت على المسلمين الآمنين سيوف كان أولى بها أن تسل على الأعداء.
ليست جماعة التقريب تريد القضاء على كل خلاف، ولا تفكر في ذلك، ولا تبتغي أن يتشيعالسني، أو يتسنن الشيعي، حتى توصف رسالتها بأنها مستحيلة، إنها مع النظر إلى الخلافت تسعى للتقريب وتنادي بلزوم التعارف.
نعم إن الجماعة ترى أن كثيراً من الخلافاتتحل في ظل التعارف، إما لأنها نشأت عن اعتقاد إحدى الطائفتين خطأ أن الأخرى تعتقد أموراً يتضح بعد التعارف خطأ نسبتها إليها، أو لأنها جاءت نتيجة دليل معقول أو أصلمقبول، فتقبلها الأولى، أو لأنها تستند إلى أساس وإدلة إن لم يكن مقبولة عند الأولى، فقد ثبت عندها اعتبارها، وعندئذ تلتمس عذرا لمن يعمل بها، فاذا أضفنا إلى هذا أنالطوائف المشتركة في الجماعة متفقة على الأصول التي يجب على المسلم أن يدين أيها ليكون مسلماً، ظهرت سخافة الاعتقاد باستحالة التقريب بين تلك الطوائف.
وأما الفريقالثاني فلو أنعم النظر لأدرك أن الخلاف واقع فعلا، وأنه
لا يقوم بين الشيعة والسنة فحسب، بل لا يزال رجال من أهل السنة أنفسهم يفضلون مذهبهم،وينتقصون غيره من مذاهب أهل السنة المعروفة، ويسجلون ذلك في كتبهم، بل إن إندونيسيا ـ البلد الإسلامي العظيم الذي يسود فيه المذهب الشافعي وحده ـ يقوم فيها الخلاف بينالشافعية أنفسهم، فبعضهم يتبع أفكار القدماء، وبعضهم يأخذ بالجديد من الآراء، وكل يعتمد في آرائه على المذهب ذاته، وقد أخذ الخلاف بينهما يستفحل وتتسع شقته، بل إنالنعرف بلاداً ليس للدين فيها وزن، ولكن التعصب المذهبي يتحكم في أهلها، ومع أنهم لم يهاجموا من صادر حريتهم الدينية، وعبث بمعتقداتهم، فهم يثورون على أخوانهم لخلافتطائفية. ولا يتركون مناسبة تمر دون أن يطعنوا فيهم. لنا أن نعترف مع الأسف بأن القطيعة موجودة بين أبناء الدين الواحد أكثر مما هي بينهم وبين من ليسوا على دينهم، ومعهذا فنحن نتفق مع الفريق القائل أن تهذب الأفكار، وتبصر العقول لهما أحسن الأثر في تسهيل مهمة التقريب.
بقى لنا أن نتكلم عن فريق ثالث يتخذ سبيلا وسطا، ويرى ما تراهجماعة التقريب، وإني لو اثق أن التقريب ـ كما وضعوا منهاجه ـ سيحصل إن شاء الله اقول هذا، لا استناداً إلى كثرة عدد هذا الفريق، وهو الغالبية العظمى، ولا اعتماداً علىمنهاج الجماعة المستقيم، وقوة إيمانها وصبرها ـ وكل هذا له أهميته ـ بل أقوله ذلك لأن الفكرة قائمة على إيجاد التعارف والدعوة إلى التثبت قبل الحكم، وهذا منطق جبار يشقطريقه ويسحق كل من يقف في سبيله؛ وهذا التعارف سيكون أساسه التحكم في العواطف، وعدم إثارة الشعور بالطعن والتجريح، فإن هذا سبَّب في الماضي اتساع شقة الخلاف والتنافروالتباغض التي انتهت بالمسلمين إلى التقاطع والتدابر، وبمراعاة ذلك تتمكن كل طائفة أن تسمع الآخرين صوتها، ولو قصدت طائفة إثبات مذهبها أو الرد على غيرها، فإن التزامالحسنى أشد تأثيرا. والنقد النزيه أقوى نفوذا.
/ صفحة 39 /ولعل الوعي الذي وجد عند أصحاب الفكر في كل طائفة، يجعل كل كاتب يسلك في تآليفه مستقبلا، طريقة لا تحصرتداول مؤلفاته في محيط طائفته، وتصرف عنها بقية الطوائف لما تشتمل عليه من طعون واقتراءات.
إن مشكلة الحكم والحكام التي كانت علة العلل في إثارة العواطف والصراعالطائفي، ليست ولله الحمد مشكلة اليوم، لو استثنينا بقعة من البقاع الإسلامية لا يزال حكامها يهتمون بدعايات من شأنها بث روح الفرقة، نسأل الله أن يكلل بالنجاح جهودنامعهم.
وإن حب الاستطلاع، وتثقيف الشعوب يخدمان جماعة التقريب في مهمتها، وإن تردد كثير من الكتاب والأساتذة على مكتبة دار التقريب للاطلاع على ما فيها من كتب الطوائفالمختلفة، وتلهف المسلمين لتلقى فكرة التقريب واهتمامهم بنشراتها. كل ذلك يبشر بالخير ويدل على الاتجاه القوي نحو التقريب.
وإن الجماعة في تحقيق رسالتها لا تقرب بينالشيعة والسنة فحسب، بل تقدم خدمة علمية جليلة، إذ تكشف عن ثقافة إسلامية مستمدة من أفكار موزعة وكتب محجوبة، وشخصيات محتكرة على طوائف معينة، فتظهر للعالم الإسلامي، بلللإنسانية كلها أعظم ثقافة فكرية ناضجة تأملها البشرية، والله المستعان.