طرائف
في لقاء ابن خلدون بتيمورلنك
لحضرة الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي
في أوائل سنة 803 هجرية جاءت الأنباءأن يتمورلنك قد انقض بجيوشه على الشام، واستولى على مدينة حلب في مناظر مروعة من السفك والتخريب والتدمير والعبث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم، وأنه في طريقه إلىدمشق، وكانت الشام حينئذ تابعة لسلطان المماليك في مصر، ففزع لذلك الخبر سلطان مصر حينئذ، وهو السلطان الناصر فرح بن السلطان الظاهر برقوق، وأسرع بجيوشه لصد ذلك المغيرالتتري، وأخذ معه ابن خلدون فيمن أخذ من القضاة والفقهاء، مع أن ابن خلدون كان قد عز منذ قليل من منصب قاضي قضاة المالكية في مصر، فاشتبك جند مصر مع تيمورلنك في ظاهر دمشقفي معارك محلية ثبت فيها المصريون، وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين، ولكن خلافاً حدث في معسكر الناصر فرج، فغادره بعض الأمراء خفية إلى مصر، وعلم السلطان أنهم دبروامؤامرة لخلعه وتولية أمير آخر مكانه، فترك دمشق لمصيرها، وارتد مسرعاً إلى القاهرة.
فأزمع حينئذ عدد كبير من العلماء الذين اصطحبهم الناصر فرج في هذه الحملة، ومنهمابن خلدون، أن يقابلوا تيمورلنك ويطلبوا إليه الأمان على دمشق، فتم لهم ذلك، وأجابهم تيمورلنك إلى ما طلبوه.
ويصف ابن خلدون في كتابه (التعريف) (الذي ترجم فيه عن نفسهوسرد تاريخ حياته) لقاءه بهذا المغير فيقول: (دخلت عليه بخيمة جلوسه، وهو متكئ على مرفقه، وصحاف الطعام تمر بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل (المغول) جلوساً أمام خيمتهحلقاً حلقاً، فلما دخلت عليه فاتحت بالسلام، وأوميت إيماءة
/ صفحة 21 /
الخضوع، فرفع رأسه ومد يده إليّ فقبلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت، ثم استدعى منبطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم بيننا).
وبعد أن ذكر ما دار بينهما من حديث يتعلق بتاريخ ابن خلدون، وحياته في مصر، وحياةأسرته في المغرب، وما استطرد إليه هذا الحديث من الكلام على بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى، وسؤال تيمور لنك عن مواقع هذه البلاد، قال إن تيمورلنك لم يكتف بما قالهله شفوياً، وقال له: (أحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده، فقلت يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي منالمجلس ما طلب من ذلك) ولعل تيمورلنك كان يقصد غزو المغرب، فأراد أن يقع على تفاصيل بلاده ومواقعها وجغرافيته.
ويظهر أن ابن خلدون كان قد عاوده حينئذ داؤه القديم،وساوره الحنين إلى المغامرات السياسية، فكان يعلق على صلته بتيمورلنك آمالاً أخرى غير ما وفق إليه في شأن دمشق، ولعله كان يرجو الانتظام في بطانة الفاتح والحظوة لديه،ولذلك أخذ يطنب في مدحه، ويذكر له أنه كان عظيم الشوق إلى لقائه منذ أمد طويل، ويتنبأ له في مستقبله بملك عظيم، مستدلاً على صحة تنبؤاته بحقائق الاجتماع وأقوال المنجمينوالمتنبئين بالغيب.
ولعل ابن خلدون قد آنس سذاجة في هذا الفاتح وحبا في المديخ فأخذ ينفخ في كبريائه بهذه التنبؤات، ويروى ابن خلدون ما ذكره لتيمورلنك بدون أن يصرحبما دعاه إلى ذلك فيقول: (ففاتحته وقلت له: أيدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك، فقال لي الترجمان عبد الجبار: وما سبب ذلك?
فقلت أمران: الأول أنكسلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإني من أهل العلم...) (ثم أخذ يؤيد قوله بنظرياتاجتماعية عن قوة العصبية وأثرها في
/ صفحة 22 /
الملك) (وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمني لقائك فهو ما كنت أسمعه عن أهل الحدثان (وهم المنجمون والملهمون منالمتنبئين بالغيب من حوادث العالم) بالمغرب والأولياء...) وذكر له طائفة من أقوال هؤلاء تتنبأ له بملك عظيم.
غير أن ابن خلدون لم يوفق إلى تحقيق ما كان يأمله منتيمورلنك، فلم تمض أسابيع قلائل حتى سئم البقاء في دمشق، واستأذن تيمورلنك في العودة إلى مصر فأذن له.
وفضلاً عن إخفاق ابن خلدون في الوصول إلى ما كان يأمله منتيمورلنك، فإن هذه الرحلة كانت مغرماً كبيراً له، فقد تجشم في أثنائها هديتين قدمهما لتيمورلنك، وفقد في طريق عودته منها جميع ما كان معه مال ومتاع.
ويصف ابن خلدونالهدية الأولى فيقول: (كنت لما لقيته... أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقمدت له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة فيلقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً، وسجادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة للأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأربع علب من حلاوة مصرالفاخرة، وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه، فلما رآني مقبلاً مثل قائماً وأشار إلي عن يمينه... فجلست قليلاً، ثم استدرت بين يديه، وأشرت إلى الهديةالتي ذكرتها، وهي بيد خدامي، فوضعتها، واستقبلني ففتحت المصحف، فلما رآه وعرفه قام مبادراً فوضعه على رأسه، ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها، فأخبرته بما وقفتعليه من أمرها، ثم ناولته السجادة فتناولها وقبلها، ثم وضعب علب الحلوى بين يديه، وتناولت منها حرفاً على العادة في التأنيس بذلك، ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بينالحاضرين في مجلسه، وتقبل ذلك كله، وأشعر بالرضي به9.
ويصف ابن خلدون الهدية الثانية فيقول: (ولما قرب سفره، واعتزم على الرحيل من الشام، دخلت عليه ذات يوم، فلما قضيناالمعتاد، التفت إلي، وقال:
/ صفحة 23 /
أعندك بغلة هنا? قلت: نعم، قال: حسنة? قلت: نعم، قال: وتبيعها فأنا أشتريها منك? فقلت: أيدك الله مثلي لا يبيع من مثلك، إنماأنا أخدمك بها وبأمثالها لو كانت لي، فقال: إنما أردت أن أكافئك عنها بالإحسان، فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به: اصطنعتني وأحللتني من مجلسك ومحل خواضك، وقابلتني منالكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله، وسكت وسكت، وحملت البغلة إله وأنا معه في المجلس، ولم أرها بعد)!.
وهكذا ظن ابن خلدون أن باستطاعته ـ بفضل دهائهوألمعيته ـ أن يعود مزوداً من هذا التتري، الذي ظنه غراً ساذجاً، بالمناصب والرتب والألقاب، ولكنه عاد صفراً من كل شيء حتى من بلغته.
وزاد من كوارثه أنه قد دهمه فيطريق عودته جماعة من اللصوص فنهبوا جميع أمتعته وجردوه حتى من ملابسه، ويصف ذلك ابن خلدون فيقول: (وسافرت في جمع من أصحابي، فاعترضنا جماعة من العشير (يقصد البدو) قطعواعلينا الطريق ونهبوا ما معنا، ونحونا إلى قرية هناك عرايا، واتصلنا بعد يومين أو ثلاثة بالصبيبة فخلفنا بعض الملبوس...).
* * *
وهكذا جزاء من يطلب عرض الدنيا بإرخاصكرامته والاستهانة بحقوق وطنه، والزلفى لأعداء بلاده.