حكم تارك الإسلام وفاعل الخير بلا إيمان
لفضيلة العلامة الشيخ محمد جواد مغنيةمن كبارعلماء الإمامية ومؤلف التفسير الكاشف وفقه الإمام جعفر الصادق (ع) بعد ما أنجزت موسوعة (فقه الإمام جعفر الصادق) عرضاً واستدلالاً، في ستة أجزاء بلغت أكثر من ألفيصفحه، شعرت بالغبطة لهذه النعمة الجلى، ومارأيت عبادة تؤدي شكرها للمنعم جل ثناؤه أفضل من بث الدعوة إلى كتابه بتمهيد السبيل إلى تفهم آياته، ومعرفة دقائقها وأسرارها،وإدراك أهدافها ومراميها. فباشرت بتفسير أي الذكر الحيكم ابتداء من سورة الفاتحة، وأسميته (التفسير الكاشف).
وحاولت جهدي أن يكون مرضياً لدى كل قارئ عصرياً كان أوسلفياً، بل ويقرأه برغبة وشوق، ذلك بأن يشعر أنه لا يقرأ عن غيب بعيد عن حياته، وإنما يقرأ عن نفسه وأسرته ومجتمعه، يقرأ عن هذه الحياة وما فيها من مشكلات، مع الحل السليملكل مشكلة كبيرة كانت أو صغيرة.
حاولت جهدي أن يكون (التفسير الكاشف) مرضياً عند كل فئة مهما تكن وجهتها بأسلوب يجمع بين الإيجاز والوضوح، وبمحتوى يقنع القارئ، أيقارئ بأن الدين مع حياة الإنسان، ومن أجل الإنسان، وكل ما هو بعيد عن الحياة فما هو من الدين في شيء، وأن أي إنسان كائناً من كان ويكون يدعو إلى حياة طيبة لا تعقيد فيها ولامشكلات، فإن دعوته هذه تلتقي مع دعوة الله والرسول أراد ذلك، أو لم يرد. وهذه الحقيقة لا ينكرها إلا جاهل، أو متحامل على
/ صفحة 73 /الدين وأهله بعد أن نص الوحيعليها بصراحة ووضوح، وسجلها الله في كتابه، حيث قال عز من قائل: (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) 24/ الأنفال. وإذا هنا ليست للشرط، وإنما هيلبيان الموضوع وتقرره، والترغيب في الإستجابة، وأن دعوة الله والرسول لا تكوي إلا للحياة.
وإلى جانب هذه الحقيقة وغيرها، يجد قارئ التفسير الكاشف الأدلة الوجدانيةوالعقلية على أصول العقيدة الإسلامية، مع الأجوبة عن كل شبهة أو تساؤل يمكن أن يمر بالذهن حول أية مسألة من مسائل هذه العقيدة.
وقد اخترت لرسالة الإسلام مسألتين منتلك المسائل الهامة، وهما: حكم تارك الإسلام من غير عناد ومكابرة، وحكم من فعل الخير لوجه الخير، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
حكم تارك الإسلام:
إن الدعوة إلىالإيمان بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)
كنبي مرسل من السماء إلى أهل الأرض ما زالت قائمه، حتى اليوم، وإلى آخر يوم، وهي موجهة إلى جميع الناس في الشرق والغرب دوناستثناء: (قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) 156/ الأعراف. أما الدليل على صدقها فمنطق العقل، وثبوت المعجزة، وصلاح الدين للحياة. قال رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلّم): (أصل ديني العقل) وقال تعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل: 0يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) 24/الأنفال. وليس من غرضنا أننستدل هنا على نبوة محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإنما الغرض أن نبين: هل من لم يؤمن بنبوة محمد مستحق للعقاب، أو لابد من التفصيل?.
وقبل أن نفرق بين العالموالجاهل، والقاصر والمقصر، نشير إلى الأصول الرئيسية، والمقاييس الأولى لاستحقاق العقاب وعدمه، ومنها تتضح الحقيقة، والتمييز بين الأفراد.
/ صفحة 74 /وقدتسالم الجميع على أن الإنسان كائناً من كان، وعلى أي دين كان لا يستحق العقاب إلا بعد قيام الحجة عليه، ولا تقوم الحجة عليه إلا بعد استطاعته على الوصول إلى دليل الحق،وقدرته على العمل به، ومع ذلك تركه من غير مبرر.
فإذا لم يوجد على الحق دليل من الأساس، أو وجد، ولكن عجز الإنسان عن الوصول إليه، أو وصل إليه، وأدى حق النظر فيه، حتىبلغ النهاية، مع ذلك خفي عليه الحق، إذا كان كذلك فهو معذور لعدم إتمام الحجة عليه، لأن من لم يثبت الحق لديه لا يعاقب على تركه إلا إذا قصر فيه.
وأيضاً من القواعدالرئيسية التي تتصل بهذا البحث قاعدة: (الحدود تدرأ بالشبهات) فلا يجوز لنا أن نحكم على تراك الحق بأنه مجرم يستحق العقاب، ما دمنا نحتمل أن له عذراً في تركه، وهذه القاعدةتنطبق على جميع الناس، لا على المسلمين فحسب، كما أنها تشمل جميع الحدود بشتى أنواعها. ومثلها قاعدة: (من أخطأ في اجتهاده فخطؤه مغفور له ) وهذه القاعدة عقلية لا يمكنتخصيصها بدين دون دين، أو بمذهب دون مذهب، أو بأصل أو بفرع. إذا تمهد هذا نشرع بالتطبيق.
1 ـ أن يعيش الإنسان في بلد ناء عن الإسلام والمسلمين ولم تبلغه الدعوة، وما سمعباسم محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)مدة حياته، ولا مر بخاطره من قريب أو بعيد أن في الدنيا ديناً اسمه الإسلام، ونبياً اسمه محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)،وليس من شك أن هذا معذور من حيث عدم استحقاقه للعقاب، لحكم العقل بقيج العقاب بلا بيان، ولقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) 15/الإسراء.
والعقل رسول باطني،وما في ذلك ريب، إلا أنه برهان مستقل على وجود الله، أما الدليل على ثبوت نبوة النبي فلابد من توسط المعجزة، وظهورها على يده مع حكم العقل باستحالة ظهورها على أيدي غيرالأنبياء.
2 ـ أن يسمع بالإسلام وبمحمد، ولكنه يفقد القدرة على التمييز بين الحق والباطل، لقصوره وعدم استعداده لتفهم دليل الحق ومعرفته، وهذا معذور
/ صفحة 75 /
لأنه تماماً كالطفل والمجنون. ومثله إذا لم يؤمن بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)
صغيراً تقليداً لآبائه، وذهل عن عقيدته كبيراً، واستمر مطمئناً إليها غير شاك ولامتردد، وهذا معذور، لأن تكليف الذاهل غير المقصر كتكليف النائم. قال المحقق القمي: إن التحرر من تقليد الآباء والأمهات لا يخطر على بال أكثر الناس، بل يصعب غالباً علىالعلماء المرتاضين الذين يحسبون أنهم خلعوا التقليد عن أعناقهم. وقال أيضاً: أن من لا يفطن لوجوب معرفة الأصول يلحق بالبهائم والمجانين الذين لا يتعلق بهم تكليف(1)، وقالالشيخ الأنصاري في الرسائل: فصل الظن في الأصول: (الذي يقتضيه الإنصاف بشهادة الوجدان تصور بعض المكلفين) وبهذا قال الكليني وقال الشيخ الطوسي: (العاجز عن التحصيل بمنزلةالبهائم).
أجل، إذا تنبه هذا الغافل من نفسه إلى وجوب المعرفة، أو قال له قائل أنك مبطل في عقيدتك، ومع ذلك أصر، ولم يبحث ويسأل فهو آثم، لأنه مقصر وجهل المقصر ليسبعذر.
3 ـ ألا يؤمن بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)
، مع أن فيه الاستعداد الكافي الوافي لتفهم الحق، ولكنه أهمل ولم يكترث إطلاقاً، أو بحث بحثاً ناقصاً، وترك قبلأن يبلغ النظر نهايته، كما هو شأن الأعم الأغلب، بخاصة شباب هذا الجيل، وهذا غير معذور، لأنه أخطأ من غير اجتهاد، وتمكن من معرفة الحق وأهمل، وبالأولى أن يؤاخذ ويعاقب منبحث واقتنع، ومع ذلك رفض الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)تعصباً وعناداً.
4 ـ أن ينظر إلى الدليل، وهو متجه إلى الحق بإخلاص، ولكن لم يهتد إلى الوجه الذييوجب الإيمان بنبوة محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم)، إما لتمسكه بشبهة باطلة دون أن يلتفت إلى بطلانها، وإما لسليقة عرجاء، وما إلى ذلك مما يصد عن رؤية الحق.
(1) كتاب القوانين: ج2 ص160 و164، طبعة عبد الرحيم سنة 1319هـ./ صفحة 76 /