بين الفقاء و الشعراء
لحضرة صاحب الفضيلة الاستاذ الشيخ عبدالجواد رمضانهيقول جار الله الزمخشرى في تفسيرقوله تعالى: «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واديهيمون، و أنهم يقولون ما لا يفعلون» ذكر الوادى و الهيوم فيه، تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، واعتسافهم، و قلة مبالاتهم بالغلو في المنطق، و مجاوزة حد القصد فيه، حتى يفضلوا أجن الناس على عنترة، و أشحهم على حاتم ; و أن يبهتوا البرىّ، و يفسقوا التقي، و عن الفرزدقأن سليمان ابن عبدالملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات
و بت أفض أغلاق الختام
و بت أفض أغلاق الختام
و بت أفض أغلاق الختام
و في أثناء هذه المحاورة القصيرة بين الخليفة و الشاعر تنطوى النسبة بين الشعر و الفقه بمعناه الاعم ; فموضوع الفقة الحقائق الواقعة منحيث ما يعرض لها من الحل و الحرمة، و الصحة و الفساد، و الثواب و العقاب إلي آخره ; و موضوع الشعر، الصور التي يزورها الخيال، لما يحيط بالشاعر من مظاهر الحياة، و ما يجولفي خاطره من مشاعر و أحاسيس ; فالفقيه واقعي، والشاعر خيالي، والنسبة بين الواقع و الخيال هي النسبة بين المتضادين، و من هنا اتسعت مسافة الخلف بين الشعراء و الفقهاء، وتنكر بعضهم لبعض ; و مضي في نبز ما كان ضعيف
/ صفحه 266/الخيال من الشعر، أنه شعر فقيه! و حملوا ذلك على جميع أشعار الفقهاء و النحاة، و البلغاء و أصحابالقواعد في كل علم و فن.
و ربما ندرت أبيات من الشعر لبعض الفقهاء، فحملها النقاد على ا لشذوذ، الذي لا تسلم منه قاعدة، و ربما أسيء به الظن من أجلها ; كما وقع لعروة بنأذينة، أحد فقهاء المدينة و عبادها، و كان من أرق الناس تشبيها، فقد وقفت عليه
امرأة فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، و أنت القائل:
إذا وجدت أوار الحبفي كبدى
هذا بردت ببرد الماء ظاهره
و الله ماقال هذا رجل صالح!
قالت ـ و أبثثتها وجدى و بجت به
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:
غطي هواك و ما ألقي، على بصرى
أقبلت نحو سقاء الماء أبترد
فمن لنار على الاحشاء تتقد؟!
و نحن إذا قرأنا له أيضاًقوله:
قد كنت عندى تحت السمر فاستتر
غطي هواك و ما ألقي، على بصرى
غطي هواك و ما ألقي، على بصرى
والحق أن للفقهاءفي جميع عصور الادب الاسلامى كثيراً من روائع الشعر، و بدائع التوشيح، في أغراض الشعر جميعا حتي الفكاهة، و لكن الاعم الاغلب منه ينغل في مداخله، و يتراءى من خصاصه،الروح العلمى ; فكان الحكم منوطا بهذا الاعم الغالب. و إلا ; فمن هو هذا الناقد الذي يجرؤ أن يجحد قوة الشعر، في قول عبيدالله بن عبدالله بن عتبة في الغزل:
كتمت الهوىحتي أضربك الكتم
عليك الهوى قد نم، لو نفع النم
ألا إن هجران الحبيب هو الاثم;
فيامن لنفس لا تموت فينقضي
تجنبت إتيان الحبيب تأثما
و لا مك أقوام، ولومهم ظلم
عناهاو لا تحياحياة لها طعم
و نم عليك الكاشحون، و قبل ذا
تجنبت إتيان الحبيب تأثما
تجنبت إتيان الحبيب تأثما
أفدى صديقا كان لي
فتارة أنصحه
و تارة ألعنه
و ربما أصفعه
أستغفر الله فهذا الـ
يا ليتني لم أره
كأنني، و لست أدرى الـ
والله ماالتشبيه
عند شاعر بهين... الخ
بنفسه يسعدني
و تارة ينصحني
و تارة يلعنني
و ربما يصفعني
قول لا يعجبني
وليته لم يرني
آن: ما كأنني
عند شاعر بهين... الخ
عند شاعر بهين... الخ
* * *
و قد تلاقي الشعراء الفقهاء، في أنهماكانا من الاسناد التي قامت عليها الخلافة الاسلامية، منذ أن صارت ملكا، و التي قامت عليها الحكوماتالاسلامية في شتى مظاهرها، و مختلف أو طانها; فالشعراء للدعاية، و إذا عة فضائل الدولة القائمة، و المنافحة عنها، والاشادة بذكر أمرائها و عمالها، وتعداد مآثرهم فيالبلاد، و أياديهم على الشعب، و جهادهم لاعدائها في الخارج و الداخل، و سهرهم على مصالح الرعية، و حياطة الدولة، الخ الخ.
والفقهاء، لاقامة ميزان العدل بين الناس، وإرشاد الخلق إلي الحق، في العبادات و المعاملات، و الحقوق و الواجبات، و حراسة الدين، من أن تتعدى حدوده، أو يستباح حماه.
/ صفحه 268/
1- قاضى الجاعة = قاضى القضاة.